البحث

التفاصيل

طوفان الأقصى.. قراءة في التداعيات واستشراف للمآلات

الرابط المختصر :

طوفان الأقصى.. قراءة في التداعيات واستشراف للمآلات

بقلم: أ.د. عبد الكبير حميدي

 

            لا خلاف بين المحللين والمؤرخين، في أن معركة طوفان الأقصى ليوم 7 أكتوبر وما بعده، ليست بالمعركة العادية، وليست كسابقاتها من حلقات الصراع الإسلامي الصهيوني، وإنما هي حلقة فريدة، ومعركة استثنائية، لم يسبق لها مثيل من نوعها، لأنها جاءت خارج الحسابات  والتوقعات، وسيكون لها ما بعدها، ليس على الساحة الفلسطينية وحدها، وإنما على الساحة الإقليمية والعالمية برمتها، ومستند هذا التحليل عدة أسباب واعتبارات، أهمها:

1-    حرب هجومية مباغتة:

باستثناء حرب العاشر من رمضان 1973م، فإن أكثر معارك العرب ضد الكيان الصهيوني، كان الصهاينة فيها البادئ والمبادر، ومعلوم أن فرص المبادر في الحروب أكبر في النصر، وأن الضربة الأولى في الحروب يصعب استدراكها، وبخاصة إذا كانت ضربة قوية مسددة، وهذا ينطبق على معركة طوفان الأقصى انطباقا، إذ بدأت بهجوم نوعي كاسح، أسقط واحدا من أقوى خطوط الدفاع في العالم، وشل منظومة أمنية متطورة ومجهزة بأحدث تقنيات المراقبة والرصد والاستشعار والإنذار المبكر، وأسقط معه مسلمات عسكرية وأساطير استخباراتية وسياسية، لا زال واضعوها يظنونها عصية على التجاوز والإسقاط، ولذلك، ما فتئوا يحاولون فهم لغز السابع من أكتوبر، بكل ما حمله من براعة في التخطيط، ودقة في التنفيذ، وفعالية في النتائج.

2-    السرية التامة واحترافية التخطيط:

من أهم ما كشفت عنه معركة طوفان الأقصى التاريخية، قدرة المقاومة الفلسطينية المذهلة على إبقاء خطط المعركة طي الكتمان، طيلة شهور من الإعداد المتقن لعملية غاية في الصعوبة والتعقيد، ضاربة عرض الحائط بأجهزة الاستخبارات الصهيونية والغربية، وبرصيدها الهائل من التجارب والخبرات، ومن القدرات والإمكانيات، ومن التعاون والتنسيق. وإلى جانب عنصر السرية والكتمان، كشفت المعركة عن قدرة المقاومة وبراعتها في التخطيط، إذ إن السيطرة على القواعد العسكرية، وعلى مستوطنات غلاف غزة، في ساعات معدودة، إنما هي ترجمة عملية لقدرة المقاومة على التخطيط العسكري الذي وصل درجة الاحتراف.

3-    إحكام التنفيذ:

لم يكن التخطيط وحده المحكم في عملية طوفان الأقصى، وإنما كان التنفيذ كذلك، إذ ما زالت أجهزة الاستخبارات الصهيونية والغربية مصابة بالصدمة والذهول، من الكيفية الاحترافية التي نفذ به هجوم السابع من أكتوبر، إذ تمكنت المقاومة الفلسطينية الباسلة خلال ساعات معدودة، من تعطيل واحد من أحدث نظم الرصد والمراقبة الإليكترونية والاستشعار والإنذار المبكر في العالم، ومن تجاوز جدار عازل كلف بناؤه أزيد من مليار دولار، ومن الاستيلاء على جل القواعد العسكرية في غلاف غزة، ومن إخراج فرقة عسكرية بأكملها عن الخدمة، ومن قتل وأسر مئات الجنود والضباط، بل استطاعت المقاومة الوصول إلى قواعد عسكرية واستخباراتية سرية، ووضع اليد على كنوز من الأرشيف الاستخباراتي والوثائق السرية، وذلك ما أثار حنق الصهاينة وصدمة حلفائهم.         

          ومع أن المعركة ما تزال جارية على قدم وساق، ولم تستكمل أطوارها بعد، فإنه يمكن – من خلال ما مضى منها لحد الساعة – توقع بعض تداعياتها الكبيرة، ومآلاتها غير المسبوقة، ومن ذلك:

أولا: سقوط الأساطير العسكرية الصهيونية المركزية:

وفي مقدمة الأساطير التي أسقطتها معركة طوفان الأقصى: أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، والتي تبخرت بتجرع جيش الصهاينة مرارة هزيمة استراتيجية، يوم 7 من أكتوبر، ولا يزال يحصد الهزائم تلو الهزائم، على تخوم غزة وداخل أحيائها، بمقتل الآلاف من ضباطه وجنوده، بما فيهم ألوية النخبة مثل "غولاني" وغيره، وتدمير المئات من دباباته ومدرعاته، كالميركافا والنمر اللتين يعتبرهما فخر صناعته العسكرية، وفشله الذريع في السيطرة البرية على قطاع غزة، رغم حشده لمئات الآلاف من جنوده وضباطه، وجنود الاحتياط، والمرتزقة، وهو  ما جعل جيش الاحتلال يفقد صوابه، ويجن جنونه، ويمعن في استهداف الأحياء السكنية، والمستشفيات، والمدارس، والمساجد، وكل ما يتحرك على الأرض، ويوقع آلاف الضحايا جلهم من الأطفال والنساء.

 

            ثانيا: تآكل قدرة الردع الصهيونية:

من أهم الحقائق التي كشفتها معركة طوفان الأقصى، أن الهالة التي صنعها الصهاينة لجيشهم وقوتهم العسكرية، عن طريق الدعاية الإعلامية المكثفة، وباستغلال انتصاراتهم الخاطفة على جيوش الأنظمة العربية المخترقة، أكبر بكثير من قوتهم العسكرية نفسها، وأن الجيش الصهيوني ليس بالقوة والصلابة التي رسختها الدعاية الصهيونية في الأذهان على مدى عقود، بدليل تلقي القوة العسكرية الصهيونية ضربات موجعة من المقاومة الفلسطينية، ولجوئها إلى القصف العشوائي للمدن والمدنيين.

             ثالثا: تراجع ثقة المجتمع الصهيوني بجيشه ودولته:

الأمن بالنسبة للصهاينة أمر حاسم بالنسبة للصهاينة الهاربين من بطش النازيين واضطهاد الغربيين، فوعدوا بجنة الأمن والرخاء، في "أرض الميعاد" فلسطين المحتلة، غير أن الصهاينة بدأوا يكتشفون واقعا آخر غير ما وعدوه،  بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987م، والثانية عام 2000، وبعد الحروب المتوالية التي خاضوها مع المقاومة الفلسطينية في غزة، سنوات 2008، 2012، 2014، 2019، 2021، والتي بلغت ذروتها في معركة طوفان الأقصى، إذ تأكد للصهاينة أن مطلب الأمن في أرض محتلة، ومع شعب لا يعرف الانكسار،  أمر عزيز، بل أمر مستحيل.

           رابعا: تراجع الدعم الدولي والاحتضان الغربي للمشروع الصهيوني:         

أزالت معركة طوفان الأقصى القناع عن حقيقة المشروع الصهيوني، وكشفت عورته للعالم، وكشفت عن وجهه الإرهابي القبيح أمام شعوب الغرب التي ما فتئت تتعاطف معه وتدعمه، تحت تأثير الدعاية الإعلامية الصهيونية، فقد كشفت استطلاعات الرأي في أمريكا وأوروبا تراجعا غير مسبوق في تعاطف الغربيين مع الصهاينة، وصلت عند بعضهم إلى اعتبار إسرائيل عبئا يجب التخلص منه بأسرع ما يمكن، فيما عبرت نسب معتبرة منهم برغبتهم في إسقاط الرؤساء الداعمين للصهاينة في الانتخابات، بل وصل الأمر في أحيان كثيرة إلى الانخراط في اعتصامات وأشكال نضالية ضاغطة، من قبيل قطع الطرقات، وعرقلة السير، ومنع السفن المحملة بالأسلحة والمؤن من الإبحار صوب الكيان الصهيوني، وكل ذلك غير مسبوق في تاريخ الصراع، ويعد بتحول كبير في اتجاهات الرأي العام الغربي والعالمي.

         خامسا: ارتفاع غير مسبوق في معدلات الهجرة الصهيونية العكسية:

 من أهم وأخطر تداعيات معركة طوفان الأقصى، على حاضر ومستقبل الاحتلال الصهيوني، والمترتبة على فقدان الصهاينة للثقة بالجيش والدولة، ارتفاع معدلات الهجرة العكسية من الكيان الصهيوني، والتي سجلت أرقاما غير مسبوقة، بلغت حوالي مليون صهيوني غادروا نحو وجهات مختلفة، نصفهم غادر بصفة نهائية، كما ذكرت وسائل إعلام صهيونية وغربية، ومعنى ذلك عدم قدرة الصهاينة على دفع الثمن الباهظ لاغتصاب أرض فلسطين، وبداية القفز من السفينة الآخذة في الغرق، وتبخر الأساطير التوراتية والتلمودية التي تعدهم بالتمكين والرخاء.

        بكلمة، لئن كانت مؤشرات هذه التداعيات والمآلات في بدايتها، فإنه يتوقع أن تزداد تكشفا وظهورا، في الشهور والسنوات القادمة، وسيتأكد عندها دخول الصراع الإسلامي الصهيوني في فلسطين مرحلة متقدمة وحاسمة، تختلف اختلافا جذريا عن سابقاتها، وسيكون لها بالتأكيد ما بعدها.   

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أ.د. عبد الكبير حميدي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. جامعة مولاي إسماعيل/ المملكة المغربية، باحث بمركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
نماذج عُلمائية مُلهمة[2]: الخليفة أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)
السابق
كيف يجد المرء الغذاء الشافي لروحه في السيرة النبوية؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع