من وحي الحج
بقلم: محمد وثيق الندوي
الحج من أوله إلى آخره، وفي كل خطوة من خطواته، حافل بكثير من المناسك والمواقف الرائعة التي تحدث في الإنسان الشعور بعظمة الله تعالى وقدرته، وفيها تمثيل للإطاعة المطلقة، وامتثال للأمر المجرد، وسعي وراء الأمر وإجابة للطلب، والخضوع الكامل لأمر الله، والعبودية الخالصة له، وتتجلى فيها الحِكَم والأسرار لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وفي كل واحدة من مناسك الحج تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر.
ففي الإحرام تبرز جليًّا المساواة بين سائر المسلمين؛ حاكمهم ومحكومهم، غنيهم وفقيرهم،أسودهم وأبيضهم، وفي التلبية إجابة نداء الله تعالى، وهذه التلبية شهادة على تجرُّد النفس من الشهوات، والتزامها الطاعة والامتثال لأوامر الله، والحاج في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين له، وليس المقصود من الطواف هو طواف الجسم بالبيت العتيق فحسب؛ بل المقصود هو طواف القلب بذكر رب البيت العتيق، حيث لا يبتدئ الذكر إلا منه، ولا يختم إلا به، كما يبتدئ الطواف بالبيت ويختم به، ويمثل الحاج في الطواف الدوران حول عقيدة التوحيد الصافية والاعتصام بها، وإخلاص العبودية لله عزوجل، والاستجابة لنداء ربه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، يقول حجة الإسلام الغزالي في كتابه القيم"إحياء العلوم"(1/240):
"وضع البيت على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل واد سحيق، شعثا، متواضعين لرب البيت، ومستكينين له، خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته، مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت أو يكنفه بلد، ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم، وأتم في إذعانهم وإنقاذهم".
فالحج بوضعه الدقيق الغامض -كما كتب العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي- تحد لعباد العقل والمادة، وأسارى النظم والترتيبات، ودعوة إلى الإيمان بالغيب، واتباع الأمر المجرد، وعزل العقل عن وظيفته لمدة محدودة، وفي مكان محدود، وصرفه عن طلب الدليل و الحكمة، والمنطق والفلسفة في كل حين وأوان، وفي كل زمان ومكان.
ومن أعظم مقاصد الحج الانقياد لأوامر الله، ووحدة الأمة، فإن وحدة هذه الأمة وتوحيد صفوفها غرض عظيم من أغراض الحج؛ بل هي من مقاصد الإسلام الكبرى، فجميع الحجاج يعبدون رباً واحداً، وقبلتهم واحدة، وكتابهم واحد، ورسولهم واحد، وحداؤهم واحد "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك، والملك لا شريك لك" فتتجلى وحدة هذه الأمة في أعمال الحج في أروع مظاهرها.
والحج من الشعائر التي تحفظ للأمة الوحدة والتماسك، والمساواة تبرز في أحسن مظاهرها في الحج، فالكل يرتدي رداءً واحدًًا، ولونه واحد، وهو اللون الأبيض فلا يعرف فيهم عظيم من حقير، ولا رئيس من مرؤس، الكل أمام الله سواسية، ومن هنا تتراجع كافة الموازين والمعايير ولا يبقى إلا مقياس واحد، ومعيار واحد: إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
وإن الحج ملتقى عظيم وفريد، وله مزايا وأهداف لو فطنت لها الأمة الإسلامية واستفادت منها لكان حالها خير وأفضل مما هي عليه، فقد جاءت الدعوة لهذا الملتقى من الله لنبيه إبراهيم عليه السلام وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ،ِليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[ االحج:27-29].وهي دعوة عريقة أصيلة لا تتجدد، ومكان الانعقاد الدائم الذي لا يتغير هو بيت الله الحرام وأكنافه المقدسة.
وفي هذا الملتقى تذكير للأمة بأن تقضي على جميع المحاور والأحوال التي مزقتها، وأن تختار المحور والمنهج الإسلامي الإلهي السليم، فالمسلمون عند ما يطوفون حول الكعبة المشرفة يعلنون هذا المبدأ العظيم الذي يجعل محور حياتهم العبودية الخاشعة لله، والصلة الدائمة بالله، وفي هذا الملتقى العالمي الرائع فرصة سانحة لوضع السياسات العامة للأمة، ومناقشة المشكلات والقضايا، والإرشاد والتوجيه من خلال الخطب في موسم الحج، والخطبة النبوية في حجة الوداع خير نموذج لذلك.
فإن الحج من الناحية الإيمانية تجديد للإيمان، وتحقيق للتوحيد، وتهذيب للنفس، ومن الناحية السياسية فرصة عظيمة للتوجيهات والتوصيات الجامعة للأمة وملتقى جامع يتكفل ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، وقد كتب العلامة الشيخ أبوالحسن الندوي في كتابه:"الأركان الأربعة" :
"الحج عرضة سنوية للملة يرجع إليها الفضل في نقائها وأصالتها، وفي بقاء هذا الدين بعيداً عن التحريف والالتباس، وفي بقاء هذه الأمة بعيدة عن الانقطاع من الأصل والمصدر والأساس، وعن طريق هذه المؤسسة العظيمة الحكيمة تبقى هذه الأمة العظيمة الخالدة محتفظة بطبيعتها الإبراهيمية الولوع الحنون، العطوف الرؤوف، الثائرة القوية الحنفية السمحة، فكأنها القلب الحي القوي الفياض الذي يوزع الدم إلى الجسم وشرايينه، وبها تستعرض هذه الأمة مجموعها في صعيد واحد، وبها تستطيع هذه الأمة أن تحافظ على وحدتها الدينية والعقلية والثقافية، وتعتصم عن أن تؤثر فيها الإقليمية والمحلية تأثيراً يفقدها الوحدة الحنفية الإبراهيمية والصبغة الإسلامية المحمدية كما كان شأن الديانات السابقة الكثيرة والأمم العربية العديدة".
ويقول:" كانت الأمة في حاجة دائمة إلى إشعال جذوة الإيمان وإثارة عاطفة الحب والحنان،وإعادة الوفاء والولاء في سائر الأجزاء والأعضاء، فجعل الحج ربيعاً تورق فيه هذه الشجرة الخالدة كل عام وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وتكتسي فيه هذه الشجرة لباساً جديداً قشيباً غضاً طريا".
والحج مرآة هذه الأمة تبرز من خلاله صورتها بما فيها من حسن وجمال،أو قبح واختلال، لأن الحج هو مؤتمر هذه الأمة الأكثر عددًا والأعظم تنوعًا لوجود طبقات من الأمراء والعلماء والمثقفين والأدباء، والأعيان والجماهير والرجال والنساء، والشيوخ والشباب، وإن مرآة الحج تظهر صورًا من الخلل ونماذج القصور الذي لا يتفق وتلك المحاسن بل ربما يوجد ما يناقض ذلك المحاسن، فالحاجة تمس إلى معالجة هذا الخلل والقصور.
وخلاصة القول إن الحج موسم التطبيق العملي لوحدة الأمة الإسلامية حيث تذوب الفوارق من لون وجنس ولغة ووطن، وتعلن الوحدة في الوجهة والنية، وفي الأقوال والأعمال، وفي الزي والهيئة، وفي الوقوف والحركة، كما أنه يحمل في طيه ما يؤدي إلى تجديد الصلة بإمام الملة الحنيفية إبراهيم عليه السلام، والمحافظة على إرثه، والمقارنة بين حياتنا وحياته،ويؤدي إلى التقاء وائتلاف النفوس، وتقوية أواصر الأخوة، بالإضافة إلى ارتباط هذه الأمة بخالقها، واتباعها لشرعه،وإعلائها للموازين الإسلامية، وإلغائها للمقاييس الأرضية.
وهنيئًا للحجاج الكرام الذين يفدون إلى مركز الإشعاع العالي الخالد بيت الله العتيق من كل فج عميق،وصوب بعيد، ويأخذون زادًا من إيمان وحب وحماسة وعلم وفقه،يعيشون عليه من حياتهم الباقية، ويقاومون به كل ما يواجهونه من إغراء وتخويف وترغيب، ويشركون في هذا الزاد إخوتهم الذين لم يتمكنوا من التزود بهذا الزاد لأسباب، فبهذا الطريق يجري هذا التيار الإيماني في جسم هذه الأمة الإسلامية الممتدة في أرجاء المعمورة كلها، فتكسب هذه الأمة بذلك قوة جديدة على تأدية ما يتطلب منها، من رسالة عالمية خالدة، ومسئولية تجاه الإنسان والكون والحياة، من جديد، بروح جديد، وإيمان جديد.