البحث

التفاصيل

مقاصد الاتباع وغاياته (2)

الرابط المختصر :

مقاصد الاتباع وغاياته (2)

بقلم: د. انجوغو امباكي صمب - عضو الاتحاد

 

من مقاصد الاتباع وغاياته.

أمر الشارع الحكيم المسلمين بالاتباع ونهاهم عن الابتداع لما في ذلك من المصالح العظيمة والفوائد الجليلة التي تعود على المكلفين في دينهم ودنياهم وعاجلهم وآحادهم، أفرادهم وجماعاتهم، وكلها مصالح حقيقية غير وهمية، وقطعية غير ظنية، وعامة غير خاصة، لا يؤثر فيها تغير الزمان، ولا تبدل المكان، ولا اختلاف الإنسان.

وفيما يلي أهم مقاصد الاتباع وغاياته باختصار شديد، وغير مخل بإذن الله تعالى:

  1. استكمال الإيمان.

إن أعلى مقاصد الاتباع وأعظم غاياته هو كمال الإيمان وتحقيق التوحيد، فلا يستكمل العبد الإيمان ويحقق التوحيد إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[1]، قال السعدي رحمه الله تعالى ((فإن الإيمان يدعو إلى طاعة الله ورسوله، كما أن من لم يطع الله ورسوله فليس بمؤمن، ومن نقصت طاعته لله ورسوله، فذلك لنقص إيمانه))[2] ، وقال تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[3]، قال ابن كثير رحمه الله ((يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا))[4].

  1. تحديد القدوة الشرعية وتوحيدها.

فقد نصب الشارع الحكيم للمسلمين قدوة كاملة ومثلا أعلى يأخذون منه دينهم علما وعملا، وذلك لما للقدوة من الأثر التعليمي والتربوي للـأمة، فهي التي تجسد الشعائر والشرائع في أكمل تطبيقاتها الممكنة، وتنزل الأحكام في منازلها المناسبة، فلو تركت الأمة بدون قدوة محددة وموحدة لكان لكل مكلف دينا خاصا به لا يشبه دين الآخرين، قال تعالى{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[5]، قال ابن عاشور رحمه الله (( وفي الآية دلالة على فضل الاقتداء بالنبيء صلى الله عليه وسلم، وأنه الإسوة الحسنة لا محالة، ولكن ليس فيها تفصيل وتحديد لمراتب الائتساء والواجب منه والمستحب، وتفصيله في أصول الفقه))[6]، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة الأمة وأسوتها في عقيدتها وعبادتها وسلوكها، ولا يجوز لها بحال أن تخالف عن أمرها في قليل أو كثير. 

  1. ضبط معايير الصحة والقبول.

فبالاتباع تنضبط معايير الصحة والقبول للعقائد والأعمال والأقوال، حتى لا يتحاكم الناس في دينهم إلى أهوائهم المختلفة، أو أذواقهم المتباينة، أو قدراتهم المتفاوتة، قال تعالى{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[7]، قال الفضيل بن عياض رحمه الله ((أحسن عملا : أخلصه وأصوبه، والعمل لا يقبل حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السنة))[8]، وقال صلى الله عليه وسلم ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد))[9]، قال ابن رجب رحمه الله فيه : (( إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع موافقا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجا عن ذلك، فهو مردود))[10].

  1. تحقيق الكفاية في التشريع.

الناس في جملتهم مجبولون على الاستزادة من الخير والمبالغة في تحصيل المصالح والمنافع، والدين مبني على النقل وليس العقل، وعلى الاتباع وليس الابتداع، والشارع الحكيم قد سد باب الإحداث في الدين، فأكمل الدين وأتم النعمة، فلم يترك خيرا إلا دل الناس عليه، ولا شرا إلا نهاهم عنه، قال تعالى {اليوم أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[11]، وكان عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه يقول ((اتَّبعوا وَلا تَبْتَدِعوا فقد كُفيتم...))[12]، قال ابن الماجشون رحمه الله ((سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا))[13].

  1. ترشيد العلوم والمعارف الشرعية.

مبدأ الاتباع في الدين وعدم الحيدة عن منهاج النبوة يرشد العلوم والمعارف ويحفظها من الانحراف ذات اليمين وذات الشمال، كما يصونها من تأثير الثقافات والمناهج الدخيلة، فأفضل العلوم والمعارف الشرعية أقربها إلى النبع الصافي، وهو ما بني على النقل النصوص القرآن والسنة النبوية وآثار السلف الصالح وما يعين على فهمها من علوم اللغة العربية وأدوات الاستنباط السليمة، سواء تعلقت تلك العلوم بالعقائد أو الأحكام أو السلوك، وبقدر الانحراف عن هذه المنهجية في العلوم والمعارف الشرعية تكون البعد عن  نصاعة الدين وأصالته وبساطته، كما هو مشاهد في علم الكلام المتأثر بالفلسفة والمنطق، وفي علم الفقه في عصور الانحطاط وشيوع التقليد، وفي علم التصوف حين خاض فيه الجهال والزنادقة وهلم جرا .

  1. تحصيل البصيرة في الدعوة والاصلاح.

فالدعاة والمصلحون في أي زمان ومكان مكلفون بالاتباع في الدعوة والإصلاح والأمر والنهي، ومطالبون بالأخذ بالأساليب والوسائل الشرعية، من أجل تحقيق مقاصد الدعوة الإسلامية ومكارمها، قال تعالى{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[14]، قال ابن زيد رحمه الله ((حق على من اتبعه وآمن به أن يدعو إلى ما دعا إليه ويذكر بالقرآن))[15]،و قال ابن عباس رضي الله عنهما ((إن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا على أحسن طريقة وأفضل هداية وهم معدن العلم وكنز الإيمان وجند الرحمن))[16]، والاتباع في الدعوة والإصلاح لا ينافي الإبداع والتجديد بضوابطه وآدابه .

  1. توحيد الأمة الإسلامية على محكمات الشرع.

إن توحيد الأمة وجمع كلمتها لا يتحقق إلا إذا كانت على محكمات الشرع وثوابتها، ومن رام توحيد الأمة على مذاهب الأئمة، أو اختيارات المجتهدين، أو فتاوى المفتين في أي باب من أبواب الدين فهو ساع إلى محال، لأن الاتباع هو موافقة صاحب الشرع وعدم مخالفته، ولو خالف ما اشتهر من الأقوال المحكية أو ما شاع من المصطلحات الفنية،

  1. النجاة من الفتة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

والاتباع نجاة من الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، فالمتبعون في سلامة من الشكوك والريب، ومن الشهوات والشبهات المفسد للدين والدنيا، ويوم القيامة يكون من الآمنين، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[17]، قال ابن كثير رحمه الله ((أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا وظاهرا. أن تصيبهم فتنة أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة أو يصيبهم عذاب أليم أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك))[18].

  1. سعادة المتبعين وتكريم الله لهم يوم القيامة.

 ويوم القيامة يسعد المتبعون بتكريم الله لهم، فيؤمنهم في قبورهم من العذاب، حين يأتيه الملكان، ويقولان له (( من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ ، فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة ". قال: " فيأتيه من روحها، وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره))[19].

ويحشر المتبعون يوم القيامة بهيئة جميلة ومنظر بهيج ، قد بيض الله وجوههم وجعلهم نورا يمشون بها، قال تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ...}[20]، قال ابن عباس رضي الله عنهما ((حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة))[21].

خاتمة.

بعد هذه الجولة السريعة مع مقاصد الاتباع وغاياته نختم هذه الورقة ببعض التوصيات وهي:

  1. وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وسلوك طريقه والاقتداء به في كل صغيرة وكبيرة.
  2. ضرورة العناية بمقاصد الاتباع وغاياته وتفعيل في واقع المسلمين.
  3. فهم الاتباع بالنبي صلى الله عليه وسلم فهما شاملا وعدم قصره في مجال دون آخر.
  4. اعتبار الاتباع بمفهومه الشامل معيار الهداية والانحراف، والتحاكم فيه إلى الثوابت والمحكمات دون المسائل الاجتهادية والخلافية.

والله ولي التوفيق والسداد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

[1] سورة الأنفال، الآية 1

[2] تيسير الكريم الرحمن، ص 315

[3] سورة النساء، 65

[4] تفسير القرآن العظيم، 2/ 306

[5] سورة الأحزاب، الآية 21

[6] التحرير والتنوير، تأليف محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت – لبنان الطبعة : الأولى، 1420هـ

[7] سورة الملك، الآية 2

[8] لباب التأويل في معاني التنزيل، تأليف  علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم بن عمر أبو الحسن، المعروف بالخازن، 4 / 318

الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى - 1415 هـ

[9] متفق عليه .

[10] جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم، تأليف زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، ص 177 الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة: السابعة، 1422هـ

[11] سورة المائدة، الآية 3

[12] البدع والنهي عنها، تأليف أبو عبد الله محمد بن وضاح بن بزيع المرواني القرطبي، ص 36، الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة-  الطبعة: الأولى، 1416 هـ

[13] الاعْتِصَام، ، 1/66

 

[14] سورة يوسف، الآية 108

[15] تفسير القرآن العظيم،4/362

[16] لباب التأويل في معاني التنزيل، 2 / 559

[17] سورة النور، الآية 63

[18] تفسير القرآن العظيم، 6 / 82

[19] مسند أحمد، برقم ( 18534 )

[20] سورة آل عمران، الآية 107

[21] تفسير القرآن العظيم، 2 /79





التالي
العاقل من اغتنم صحته قبل مرضه

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع