البحث

التفاصيل

وحدة الأمة .. معوقات وإمكانات

الرابط المختصر :

وحدة الأمة .. معوقات وإمكانات
الدكتور الشيخ عبد الكريم بكار

ظلت الوحدة المحور الذي يجذب مشاعر سلفنا أهل السُّنَّة والجماعة وأنشطتهم على مدار التاريخ، بل إن اسمهم يدل على ذلك، فهم متوحدون على السُّنَّة، وقد ضحوا في سبيل ذلك بتضحيات كثيرة، ليس أقلها تحمُّل عسف الظلمة والطغاة، وكيفوا كثيرًا من اجتهاداتهم على نحو يجعل وحدة الأمة واجتماع الكلمة هدفًا أسمى، وحاجةً ملحة، لكن ضعف الشورى وضعف الدولة المركزية في بغداد، وعدم تطوير نظام إداري قوي مرن يحقق التوحيد في جوانب، ويحفظ الخصوصيات في جوانب، وأسباب أخرى أدت جميعها إلى تفتُّت الخلافة العباسية ووأدها على يد التتار عام 656هـ، وقامت بعد مدة الخلافة العثمانية، فجمعت شمل كثير من الدول والإمارات الإسلامية مرة أخرى.

ونتيجة لتآمر كبير من الخارج، وقصور أكبر من الداخل سقطت الخلافة العثمانية، وتشتت شمل العالم الإسلامي، ووقع كثير من بلدانه في براثن الاستعمار الأوربي، الذي لم يخرج حتى شوَّه كثيرًا من البنى الفكرية والثقافية لتلك الدول المستعمرة؛ حتى لا تختلف كثيرًا بعد خروجه عمَّا كانت عليه قبله، بل إن بعضها ازداد حاله سوءًا.

لكن على الرغم من كل ما حصل ظلت أشواق الوحدة تضطرم في النفوس، وظلت الأبصار مشدودة نحو مستقبل لأمة الإسلام، يسوده الوئام والتناصر، ومع كل صدع يصيب كيان هذه الأمة على أي مستوى كانت تتصدع قلوب كثير من المخلصين الغيورين.

فما هي العوائق التي ما زالت تحول دون أي شكل واسع ذي قيمة من أشكال الوحدة، والتنسيق بين دول وشعوب العالم الإسلامي؟

نحن ننظر ابتداء إلى أن عقيدة التوحيد قادرة على جعل من يؤمن بها أمةً من دون الناس يحكمها منهج واحد، وتنتهي إلى غايات واحدة، كما أن تلك العقيدة بما يتبعها من أحكام ونظم تحدد أشكال التعامل بين هذه الأمة وبين غيرها من الأمم، وهذا كله يجعل تحقيق شكل من أشكال الوحدة بين شعوب العالم الإسلامي أمرًا طبيعيًّا بدهيًّا، ولا سيما أن غير المسلمين ينظرون إليهم على أن لهم من التجانس والتميز ما يجعلهم جميعًا في خندق واحد.

والعالم الغربي يسير اليوم بسرعة مدهشة نحو اعتبار كل المسلمين -مهما تكن درجة التزامهم- أصوليين متطرفين معادين!!

 وإذا كان الأمر كذلك، فإن بروز أشكال من التعاون والتوحد بين الشعوب والدول الإسلامية قد يكون مرهونًا إلى حد بعيد بنضوج الصحوة الإسلامية المباركة وانتشارها وتمكنها، لكن هناك من العوائق والصعوبات ما يجب تذليله أو التخفيف من غلوائه قبل أن نتمكن من تحقي

ق ما نريد، ولعلنا نوجز فيما يلي أهم تلك العقبات:

1- إن حالة السكون والركود التي يعيشها كثير من شعوب العالم الإسلامي ستنتج دائمًا التفكك والتمزق؛ فالانطلاق الراشد يؤمّن ترابطًا عجيبًا بين سائر بُنَى الأمة ومؤسساتها، حيث تتمكن الأمة من حل كثير من المشكلات كما أنها لا تتوهم العناء حينئذٍ من مشكلات لا وجود لها.

2- هناك علاقة حساسة بين الوحدة والحرية قد تصل إلى حد التضاد في بعض الأحيان، مع أن كلاًّ منهما يؤمّن حاجات أساسية للفرد والأمة، فالوحدة قيود قد تصادر بعض الحريات، وتستلب شيئًا من المكاسب، وهذا على كل المستويات، والناس حين يتحملون أعباء الوحدة وقيودها إنما يفعلون ذلك لما توفره من حاجات ومصالح، ولما تدفعه من مخاطر التشرذم، فإذا أحس متحدان (شعبان أو شخصان) أن أعباء الوحدة أكبر من منافعها صاروا جميعًا إلى التخلص منها، مهما تكن العواطف قوية نحوها!

وهذا هو أكبر سبب أدى ويؤدي إلى الانفصال بين الدول والجماعات على مدار التاريخ (وهذا هو السبب الذي يؤدي إلى الطلاق بين الزوجين)، وهذا يعني أن تفكيرًا عميقًا ودراسات مستفيضة ينبغي أن تسبق كل شكل من أشكال التوحُّد؛ حتى لا يصبح ذلك الهدف الكبير من أهداف الأمة حقلاً للتجارب المخفقة.

3- تتطلب الوحدة الإسلامية بروز قدرة حسنة على (التكيُّف) عند أفراد الأمة؛ إذ إن الوحدة تتطلب التنازل عما هو هامشي وصغير ومؤقت في سبيل تحقيق ما هو أساسي وكبير ودائم، وهذا يتطلب وعيًا تامًّا بمكاسب الوحدة وتكاليفها، بل إن الأمر يتطلب في بعض الأحيان موقف تضحية من قبل بعض الشعوب والجماعات كما يضحي الشهيد بحياته، ويتنازل عنها في سبيل نصرة دينه ورفعة أمته، ولن يُقدِم على هذه التضحية إلا المؤمن الذي تمكَّن الإيمان من قلبه؛ فالفهم العميق والإيمان المكين شرطان لا بُدَّ منهما لحصول ذلك، والنقص فيهما أو في أحدهما قد يؤدي إلى تصارع فئتين دعواهما واحدة.

4- الفوارق الاقتصادية الكبرى بين كثير من شعوب العالم الإسلامي تجعل تحقيق الوحدة أمرًا غير يسير، ويذكر في هذا السياق أن التبادل التجاري بين الدول الإسلامية لا يتجاوز 4% من مجمل تجارتها، أما الـ 96% فهو مع دول غير إسلامية؛ وسبب ذلك أن الغرب ظل على مدار ثلاثة قرون يكيِّف حاجات الشعوب الإسلامية مع فوائض إنتاجه؛ حتى لا يجد المسلم شيئًا من حاجاته إلا في الغرب، أو في بلدان استوردته من الغرب.

5- على الصعيد الثقافي ذي الأثر الخطير في العلاقات بين الشعوب نلاحظ أن أكثر مناطق العالم الإسلامي هي مراكز لاجتياح العواصف والأعاصير الثقافية، فهذا بلد متأثر ببلد مجاور له غير مسلم، وهذا متأثر بمن استعمره، وآخر بمن أرسل إليه البعثات... وهكذا. والوحدة حين تقوم لا بد أن ترتكز على عدد من الركائز التربوية والثقافية إلى جانب الركائز العقدية والاقتصادية، وهذا ما نجده ضامرًا إلى حد بعيد في كثير من بلدان العالم الإسلامي.

6- يفتقد العالم الإسلامي اليوم النواة الصلبة القادرة على تبني الأطر الوحدوية وتعزيزها، والتي تمتلك في الوقت ذاته القدرات والإمكانات التي تجذب دول العالم الإسلامي وشعوبه نحوها، وإذا علمنا أن الظواهر الكبرى لا يمكن أن تنشأ إلا حول نواة تَنْشدُّ إليها وتتحدد من حولها أدركنا الصعوبات التي تواجه الأعمال التوحيدية في العالم الإسلامي.

7- شهد أكثر بلدان العالم الإسلامي نشاط تيارات وطنية، وقومية، وإقليمية نبتت لتملأ الفراغ الذي خلَّفه انهيار الخلافة العثمانية، وهذه التيارات أفرزت فلسفات وأدبيات تمجد الكيانات الصغيرة، وتبحث لها عن أمجاد خاصة بعيدًا عن الولاء للوطن الأكبر؛ مما يستدعي جهودًا فكرية وأدبية وثقافية كبرى تعيد بناء العلاقة السوية بين عالمنا الإسلامي الكبير، وبين الأوطان الإقليمية التي نعيش فيها، والأعراق والأجناس التي ننحدر منها.

هذه بعض المعوِّقات التي تقف أمام خطوات توحيد العالم الإسلامي، لكن لأن الوحدة في عمومها مطلب شرعي ومصيري فإن السعي نحو التقليل من أسباب الشتات والفرقة، وبلورة بعض الأطر والمؤسسات التوحيدية، يظل هدفًا وهاجسًا لكل الغيورين على هذه الأمة والمخلصين لهذا الدين.

وبما أن الحديث موجَّه أصلاً إلى هؤلاء، فإن بالإمكان أن نذكر بعض الإمكانات المتاحة للأفراد والهيئات الشعبية والرسمية، مما يعد تمهيدًا لجمع شمل الأمة على مستوى ما، وبكيفية من الكيفيات على الوجه التالي:

1- تحتل اللغة العربية مكانة مهمَّة بين وسائل التوحيد، ومن ثَمَّ فإن المدخل الصحيح لكل أنواع التقريب بين المسلمين هو تعميم العربية بين الشعوب الإسلامية التي لا تنطق بها باعتبارها لغة أولى؛ إذ إن اللغة ليست وعاء فقط، لكنها وعاء ومضمون وقوالب للتفكير في آن واحد[1]؛ وينظر المسلمون في بقاع الأرض إلى العربية نظرة إجلال وتقدير لكونها لغة كتابهم ونبيهم  وتراثهم الروحي والثقافي، وهذا يساعد كثيرًا في الإقبال على تعلمها ونشرها، ومن واجب الجماعات والمؤسسات والهيئات المختلفة أن تسعى لإدخال العربية إلى مناهج تلك الشعوب باعتبارها لغة ثانية، كما أن من واجبها العمل على فتح المعاهد والمراكز التي تعلم العربية.

2- من واجب الجماعات والمؤسسات الإسلامية أن تسعى إلى بلورة بعض الأُطُر الوحدوية كالاتحادات الإسلامية مثل (اتحاد المدرسين المسلمين، واتحاد التجار المسلمين).. وهكذا، وهذا الأمر ليس باليسير إذا أدركنا أهميته، وفرغنا له الكفاءات والطاقات المطلوبة. كما أن من المطلوب منا أن نسعى في المنطقة العربية إلى إدخال لغة إسلامية كالتركية، أو الأردية إلى مناهج تعليمنا؛ حتى نقيم جسور الأخوة والتفاهم بيننا وبين إخواننا.

3- للدعاة الذين يجوبون العالم الإسلامي دور خطير في اكتشاف كل ما ينمي أوجه التعاون والتكامل بين بلدان العالم الإسلامي، ثم الكتابة عن ذلك ونشره؛ لتتعزز معرفة المسلمين بالإمكانات التوحيدية المتاحة.

4- العالم الإسلامي بحاجة إلى عدد من مراكز المعلومات والدراسات المرموقة التي تعنى بتثقيف الناس بهموم العالم الإسلامي، والكشف عن إمكاناته الاقتصادية والتجارية وغيرها؛ بُغية حث الناس على توجيه طاقاتهم وتحركاتهم نحوها.

5- في زماننا هذا قد يكون الاقتصاد في كثير من الأحيان هو ما تبقى من السياسة، بل إن السياسة تتجه لتتمحض لخدمة الاقتصاد، وفي هذا الصدد فإن من الحيوي لنمو الصناعات في العالم الإسلامي إقبال المسلمين على استهلاكها، وسد حاجاتهم بها. ونحن نقف في كثير من الأحيان من هذه المسألة الموقف المنكوس، حيث ننتظر تحسُّن الصناعة حتى نقبل على استهلاكها، مع أن من أهم سُبُل تنميتها وتحسينها ارتفاع مبيعاتها، ونجد في هذا الشأن أن أبناء الصحوة لم يفعلوا شيئًا ذا قيمة في طريق تشجيع الناس على شراء المصنوعات الإسلامية، لا عن طريق الطرح في الإطار النظري ولا عن طريق القدوة الحسنة.

6- يتطلب توحيد العالم الإسلامي المرحلية والتدرج على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأقاليم، والكتل الإقليمية يمكن اعتبارها خطوات إيجابية على الطريق إذا قامت على النهج الإسلامي، وكانت مفتوحة تشجِّع الانضمام إليها، وتنمي في الوقت ذاته أدبيات (الكل) الإسلامي المنشود.

وفي الختام فإنني أعتقد أن الطريق شاق وطويل لكنه الطريق الوحيد الذي لا مفر منه، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وحين يتوفر الإخلاص فإن رحمة الله قريب من المحسنين.


الهوامش:
[1] ومع التسليم بأهمية اللغة العربية إلا أننا نعتقد أن (العقيدة) الحقّة المنبثقة من التوحيد الخالص هي الخطوة الأولى لأي عمل وحدوي، وأهمية إشاعتها وتصحيحها مطلب مهم يجب البدء به، وهذا ما أشار إليه الكاتب الكريم في بدايات مقاله، ولا يُعارِض ما ذكره هنا؛ إذ إن العربية هي الوسيلة المثلى لفهم نصوص الوحي وتعلم عقيدة الإسلام.


: الأوسمة



التالي
نجل العودة يغرد والدي أمام جلسة محاكمة سرية .. والمدعي العام السعودي يطالب تعزيره
السابق
وظيفة النخبة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع