البحث

التفاصيل

كتاب : فقه الجهاد .الحلقة [ 54 ] : الباب السادس : جيش الجهاد الإسلامي "واجباته وآدابه ودستوره"

الرابط المختصر :

 

الفصل الأول : واجبات الجيش المسلم قبل المعركة ، أو : متطلبات النصر للجيش المسلم ( 1 من 5)

النصر هدف ينشده كلُّ مجاهد مسلم، وكل جيش مسلم، وأمل يحلُم به ويرنو إليه، ولكن تحقيق الأهداف المنشودة، والآمال المرجوة، لا يتمُّ بالكلام، ولا بإجراء العِنان للخيال، ليحلِّق في آفاق عالية، لا يملك جناحين يطير بهما إليها.

ولكن هناك واجبات أساسية، ومتطلَّبات ضرورية، يجب أن يراعيها كلُّ المجاهدين، قادة ومقودين، رعاة ورعية، وقد علَّم الرسول الكريم الأمة: أن كلَّ فرد فيها - وإن لم يُشَر إليه بالأصابع - راعٍ بوجه من الوجوه، ومسؤول عن رعيته [1[

فما المتطلَّبات التي تجب رعايتها، والعناية بها، لتحقيق النصر على الأعداء؟

هذا ما نحاول أن نكشف عنه في الصفحات التالية:

• ( 1 ) إعداد العدة للعدو:

إن أول مستلزمات النصر، وأول واجبات الجيش المقاتِل، وهو من مقوِّمات الأمة العزيزة: إعداد العدة للعدو، وهو ما فرضه الله تعالى على الأمة، وأمر به في كتابه العزيز، في قوله تعالى: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ وآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ومَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60[.

قال الإمام الرازي في تفسير الآية: (اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يشرِّد مَن صدر منه نقض العهد، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض: أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار. قيل: إنه لما اتفق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة ولا عُدَّة، أمرهم الله ألا يعودوا لمثله، وأن يُعدُّوا للكفار ما يمكنهم من آلة وعُدَّة وقوة، والمراد بالقوة هاهنا: ما يكون سببا لحصول القوة، وذكروا فيه وجوها:

الأول: المراد من القوة أنواع الأسلحة.

الثاني: روي أنه صلى الله علين وسلم قرأ هذه الآية على المنبر وقال: "ألا إن القوة الرمي" قالها ثلاثا [2[

الثالث: قال بعضهم: القوة هي الحصون.

الرابع: قال أصحاب المعاني: الأَولى أن يقال: هذا عامٌّ في كلِّ ما يُتقوَّى به على حرب العدو، وكلِّ ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "القوة هي الرمي": لا ينفي كون غير الرمي معتبَرا، كما أن قوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" [3]، و"الندم توبة" [4]، لا ينفي اعتبار غيره، بل يدلُّ على أن المذكور جزء شريف من المقصود، فكذا هاهنا، وهذه الآية تدلُّ على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح، وتعليم الفروسية والرمي: فريضة، إلا أنه من فروض الكفايات) [5] انتهى.

أوجبت الآية الكريمة على الأمة - بالتضامن - أن تعِدَّ لأعدائها ما استطاعت من قوة، وهذا يشمل كل أنواع القوة: القوة المادية والقوة المعنوية، أي ما يضمُّ: القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والقوة العلمية، إلى جوار القوة البشرية المدرَّبة على أنواع السلاح، والمهيأة - بدنيا وعقليا ونفسيا - للقتال. وهذه هي التي ركَّز عليها الحديث النبوي: "القوة الرمي"، لأن السلاح وحده لا يُغني بدون العنصر البشري المدرَّب، وإليه تشير كلمة "الرمي": أي القدرة على استخدام السلاح بجدارة، وإصابة الهدف به.

• رباط الخيل:

وأما {رِبَاطِ الْخَيْلِ}: فيقصد به المركبات المطلوبة للقتال، وهي تتطوَّر من عصر إلى عصر. وقد كانت الخيل في العصور الماضية: أعظم أنواع المركبات الميسَّرة للناس، وهي تضيف إلى صاحبها قوة لا يملكها المقاتل الراجل.

فلا عجب أن جاءت الأحاديث النبوية - وجاء قبلها القرآن - منوِّهة بفضل الخيل وأثرها في الجهاد في سبيل الله.

ففي القرآن سورة عن (الخيل) وهي سورة (العاديات) من السور المكية، وفيها أقسم الله تعالى بـ{الْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} [العاديات:1]. وإذا أقسم الله بشيء من مخلوقاته، فذلك ليلفت أنظارنا إلى فائدته وأهميته.

(قال أبو عبد الله الحليمي رحمه الله: ذهب ابن عباس، ومن بعده: عكرمة ومجاهد وعطية وأبو الضحى وقتادة إلى أن القسم في قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً} [العاديات:1-3]: وقع على الخيل التي يُغزى عليها، ويُغار بها على العدو) [6] انتهى.

ومما جاء في القرآن حديثه عن خيل سليمان عليه السلام، وعنايته بها وحَدَبه عليها، وهو ما ذكر في سورة (ص) في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:30-33[

ويعلِّق الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره على هذه الآيات فيقول:

(إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم، كما أنه كذلك في دين محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها، وذكر: إني لا أحبُّها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبُّها لأمر الله وطلب تقوية دينه، وهو المراد من قوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}. ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب، أي غابت عن بصره، ثم أمر الرائضين بأن يردُّوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور:

الأول: التشريف لها، والإبانة عن عزَّتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.

الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتَّضع إلى حيث يباشر أدنى الأمور بنفسه.

الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدلُّ على المرض ...) [7[

ومما جاء في السنة في فضل الخيل التي تقتنى للجهاد:

1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده، فإن شِبعه، وريه، ورَوثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة" - يعني حسنات - رواه البخاري، والنسائي، وغيرهما [8[

2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، فالخيل؟ قال: "الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر …" الحديث. رواه البخاري، ومسلم واللفظ له [9[.

3 - وعن رجل من الأنصار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل ثلاثة: فرس يرتبطه الرجل في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فثمنه أجر، وركوبه أجر، وعاريته أجر، وفرس يغالق عليه الرجل ويراهن، فثمنه وزر، وركوبه وزر، وفرس للبطنة، فعسى أن يكون سدادا من الفقر إن شاء الله". رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح [10[.

4 - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان، فأما فرس الرحمن فالذي يرتبط في سبيل الله عزَّ وجلَّ، فعلفه وبوله وروثه - وذكر ما شاء الله [11]- وأما فرس الشيطان؛ فالذي يُقامر عليه ويُراهن، وأما فرس الإنسان، فالفرس يرتبطها الإنسان يلتمس بطنها، فهي ستر من فقر [12]". رواه أحمد أيضا بإسناد حسن [13].

5 - وعن سهل بن الحَنظَلِية، وهو سهل بن الربيع بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المنفق على الخيل كالباسط يده بالصدقة لا يقبضها". رواه أبو داود [14[.

6 - وعن عروة بن أبي الجعد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير: الأجر والمغنم إلى يوم القيامة". رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه [15[

وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم (تضمير الخيل) أي تقليل طعامها حتى يخفَّ لحمها، ولا يبقى فيها إلا العضلات، على نحو ما يفعل الناس الذين يطلبون الرشاقة، ويقاومون البدانة في عصرنا، من تخفيف الأكل وتنظيمه وتقييده بنظام معين يسمونه (الرِّجِيم). ولذا قالوا: المراد بالتضمير: أن تُعلف الخيل حتى تَسْمَن وتقوى، ثم يُقلَّل علفها بقدر القوت، وتدخل بيتا وتغشَّى بالجِلال، حتى تَحمَى فتعرق، فإذا جفَّ عرقها خفَّ لحمها، وقويت على الجري [16[

كما شرع إجراء السباق بين الخيل المُضَمَّرة وغير المُضَمَّرة، وإن فاوت بينهما في مسافة السباق.

7 - روى البخاري في (باب السبق بين الخيل)، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الخيل التي قد أُضمرت، فأرسلها من الحَفْياء (مكان خارج المدينة) وكان أَمدُها: ثَنِيَّة الوداع ... وسابق بين الخيل التي لم تضمَّر فأرسلها من ثَنِيَّة الوداع، وكان أَمدُها مسجد بني زُرَيق. وكان ابن عمر ممَّن سابق بها [17[

وقد سئل موسى بن عقبة راوي الحديث عن نافع، عن ابن عمر: كم كان بين الحَفيَاء وثَنِيَّة الوداع؟ قال: ستة أميال أو سبعة.

وسئل: كم بين ثَنِيَّة الوداع ومسجد بني زُرَيق؟ فقال: ميل أو نحوه [18[.

ومقتضى هذا: أن الرسول راعى قوة الخيل المُضَمَّرة، فأطال أَمد سباقها، على حين قصَّر أَمد الخيل غير المُضَمَّرة، رعاية لحالها.

قال في (الفتح): (وفي الحديث: مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصِّلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرة بين الاستحباب والإباحة، بحسب الباعث على ذلك.

قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الأقدام. وكذا الترامي بالسهام، واستعمال الأسلحة، لما في ذلك من التدريب على الحرب.

وفيه: جواز إضمار الخيل، ولا يخفى اختصاص استحبابها بالخيل المُعَدَّة للغزو، وفيه مشروعية الإعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة.

وفيه: جواز معاملة البهائم عند الحاجة بما يُعَدُّ تعذيبا لها في غير الحاجة، كالإجاعة والإجراء (يعني إجراءها في السباق) وتنزيل الخلق منازلها، لأنه صلى الله عيه وسلم غاير بين منزلة المُضَمَّر من الخيل وغير المُضَمَّر، ولو خلطهما لأتعب غير المُضَمَّر) [19[

• المسابقة بِعوَض:

وقد تعرَّض الحافظ في (الفتح) لمسألة المراهنة على الخيل، أو المسابقة بعوض، فقال: (لم يتعرَّض في هذا الحديث (حديث ابن عمر) للمراهنة على ذلك. لكن ترجم الترمذي له (باب المراهنة على الخيل)، ولعله أشار إلى ما أخرجه أحمد من رواية عبد الله بن عمر المكبَّر، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل وراهن [20]. وقد أجمع العلماء كما تقدَّم على جواز المسابقة بغير عوض، لكن قصرها مالك والشافعي على الخفِّ والحافر والنصل، وخصه بعض العلماء بالخيل، وأجازه عطاء في كلِّ شيء. واتفقوا على جوازها بعوض بشرط أن يكون من غير المتسابقين. وكذا إن كان معهما ثالث محلِّل بشرط ألا يخرج من عنده شيئا، ليخرج العقد عن صورة القمار: وهو أن يخرج كل منهما سبقا، فمَن غلب أخذ السبقين، فاتفقوا على منعه. ومنهم مَن شرط في المحلِّل أن يكون لا يتحقَّق السبق في مجلس السبق. وفيه أن المراد المسابقة بالخيل كونها مركوبة لا مجرَّد إرسال الفرسين بغير راكب، لقوله في الحديث: وأن عبد الله بن عمر كان فيمن سابق بها) [21[.

• خيل العصر:

عُنِيَ القرآن والسنة جميعا، برباط الخيل، واحتباس الخيل في سبيل الله، وتضميرها وإعدادها لمعارك الجهاد، حتى جعل الرسول في قسمة الغنائم للراجل (الماشي) سهما واحدا، وللفارس (راكب الخيل) ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه [22[

ذلك أن الخيل كانت هي مَركَبات ذلك العصر، ومن أهمِّ الوسائل المساعدة في الحرب، ولكن في عصرنا تغيَّر الحال، فلم تعُد الخيل مهمة في القتال إلا في نطاق محدود جدا، في بعض المواقع. ومن هنا كانت خيل عصرنا هي: الدبابات والمجنزرات والمصفحات وسائر المركبات التي أصبحت تستعمل في الحروب اليوم، وغدا الذين يحسنون استخدامها هم فرسان عصرنا.

فكلُّ ما قيل في رباط الخيل وفضله يقال في خيل عصرنا ومركباته. ومن المعلوم: أن الأهداف الأساسية ثابتة، ولكن الوسائل هي التي تتغيَّر، ومن واجب الأمة: ألا تجمِّد وسائلها وآلياتها، وقد تغيَّر العالم مَن حولها، وتكتفي بركوب الخيل حيث يركب عدوها الدبابة، في البرِّ، والغواصة في البحر، والطائرة في الجوِّ. وتقاتل بالسيف، حيث يقاتل خصومها بالمدفع العملاق، وأنواع الأسلحة المتطوِّرة. وترمي بالنبل حيث يرمون بالقذائف والصواريخ والقنابل الذكية.


: الأوسمة



السابق
رئيس رابطة علماء فلسطين يزور رئيس لجنة القدس في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع