البحث

التفاصيل

قطر وسوريا.. أخوّة تاريخية ودعم ممتد من الثورة إلى بناء سوريا الجديدة

الرابط المختصر :

قطر وسوريا.. أخوّة تاريخية ودعم ممتد من الثورة إلى بناء سوريا الجديدة

بقلم: د. طالب عبد الجبار الدغيم


تُجسّد العلاقات القطرية السورية نموذجًا راسخًا في تاريخ العلاقات العربية، حيث قامت منذ تأسيسها على أسس من التضامن الأخوي والدعم المتبادل، متجاوزةً التحولات الإقليمية والسياسية التي عصفت بالمنطقة على مدى عقود. ورغم ما شهدته العلاقات الدولية من تغيرات، ظلّت الروابط بين البلدين قائمة على انتماء قومي مشترك ورؤية استراتيجية تحترم تطلعات الشعبين. ومنذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تبنّت دولة قطر موقفًا مبدئيًا ثابتًا إلى جانب الشعب السوري، دعمًا لحقوقه المشروعة، ومساندةً له سياسيًا ودبلوماسيًا وإنسانيًا. ومع انتقال سوريا إلى مرحلة سياسية جديدة إثر سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، تتعزز هذه العلاقة الأخوية، وتبرز قطر مجددًا كشريك رئيسي في دعم مسيرة الشعب السوري نحو الاستقرار وإعادة البناء، تأكيدًا على عمق الروابط الأخوية ووحدة المصير المشترك.

الجذور التاريخية للعلاقات السورية القَطرية

تعود جذور العلاقات السورية القطرية إلى بدايات سبعينيات القرن العشرين، حينما تأسست العلاقات الدبلوماسية رسميًا عام 1972، لترسّخ التواصل بين البلدين في إطار البيت العربي الواحد. وقد سادت بين قطر وسوريا خلال العقود التالية روح التضامن العربي في مواجهة التحديات المشتركة؛ حيث دعمت الدولتان قضايا الأمة المحورية وعلى رأسها قضية فلسطين. وشهدت العلاقات تقاربًا ملحوظًا في مطلع الألفية الجديدة مع تبادل الزيارات الرسمية رفيعة المستوى. فقد زار الرئيس السوري السابق الدوحة عام 2003م، مما فتح آفاقًا جديدة للتعاون الاقتصادي والاستثماري بين البلدين. وأسهم هذا التقارب في تعزيز التنسيق السياسي بين القيادة السورية والقطرية في المحافل العربية والإقليمية والدولية، بما يعكس إيمان البلدين بوحدة الصف العربي، وتفعيل العمل المشترك خدمةً للاستقرار والتنمية الإقليمية. وهكذا تأسست العلاقة على قاعدة صلبة من الاحترام المتبادل والتآزر، والتي ستنعكس لاحقًا في مواقف قطر النبيلة خلال محنة الشعب السوري.

الموقف القطري الداعم منذ عام 2011

مع انطلاق شرارة الثورة السورية في عام 2011، اتخذت قطر موقفًا تاريخيًا حاسمًا تمثل في دعم تطلعات الشعب السوري لنيل الحرية والكرامة. فكانت من أوائل الدول العربية التي أعلنت صراحةً تأييدها لمطالب السوريين المشروعة، داعيةً إلى وقف العنف ضد المتظاهرين السلميين. وعلى الصعيد السياسي والدبلوماسي، قادت الدوحة جهودًا مكثفة في جامعة الدول العربية لتجميد عضوية النظام السوري آنذاك، تعبيرًا عن رفضها لسياسات القمع. كما بادرت إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق في مرحلة مبكرة، مؤكدةً أن الشرعية الحقيقية تنبثق من إرادة الشعب. وفي عام 2012 استضافت قطر اجتماعًا مفصليًا للمعارضة السورية نتج عنه تأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والذي حظي لاحقًا باعتراف دولي واسع ومقعد سوريا في الجامعة العربية. وهذه الخطوات جسدت الانحياز القطري الواضح إلى جانب الشعب السوري في مطالبه بالتغيير، فلم تكتف الدوحة بالتحركات الرسمية؛ بل سخّرت أيضًا منابرها الإعلامية والدولية لنقل صوت السوريين ومعاناتهم إلى العالم، وحشد الدعم لقضيتهم. وقد اقترن هذا التحرك السياسي النشط بجهود إنسانية كبيرة، مما رسّخ صورة قطر كحليف وفيّ للشعب السوري منذ الأيام الأولى للأزمة.

الجهود الإغاثية والإنسانية خلال الحرب في سوريا 

طوال سنوات الحرب السورية العصيبة، تصدّرت دولة قطر المشهد الإنساني العربي والدولي في إغاثة الشعب السوري والتخفيف من مأساته. فقد قدّمت دولة قطر، حكومةً وشعبًا، دعمًا سخيًا لتلبية الاحتياجات الإنسانية الملحّة للسوريين داخل بلادهم وفي دول اللجوء المجاورة. حيث سارعت الجمعيات الخيرية مثل قطر الخيرية وعيد الخيرية وراف والهلال الأحمر القطري إلى إطلاق حملات إغاثية عاجلة وفورية منذ عام 2011، مؤمنةً بمسؤوليتها الأخوية تجاه المنكوبين. وتدفقت المساعدات القطرية بمختلف أشكالها؛ من شحنات الأغذية والأدوية والمواد الإغاثية الأساسية، إلى إنشاء مخيمات إيواء وتوفير مستشفيات ميدانية لخدمة الجرحى والمرضى. كما شاركت قطر بفعالية في المؤتمرات الدولية للمانحين دعماً لسوريا، وتعهدت بمبالغ كبيرة ساهمت في تمويل برامج الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة التي تستهدف الملايين من اللاجئين والنازحين السوريين. وتشير التقارير إلى أن إجمالي المساعدات القطرية تجاوز ملياري دولار خلال العقد الأول من الأزمة، ما بين دعم مباشر ومساهمات عبر وكالات دولية.

دعم التعليم والصحة وإعادة الإعمار المبكر

إلى جانب الاستجابة الإغاثية العاجلة، أولت قطر اهتمامًا خاصًا لدعم مقومات الحياة الأساسية للسوريين، لا سيما في قطاعات التعليم، والصحة، وإعادة الإعمار المبكر في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام "المناطق المحررة في شمال سوريا". ففي قطاع التعليم، تكفّلت دولة قطر عبر منظماتها التنموية بإطلاق مبادرات لضمان استمرار تعليم الأطفال والشباب السوريين رغم ظروف النزوح والانقطاع. وتمثّلت إحدى أهم هذه المبادرات في طرح قطر عام 2015 خلال مؤتمر المانحين في الكويت إنشاء صندوق مخصص لدعم تعليم اللاجئين والنازحين السوريين والتدريب المهني لهم، بهدف حماية جيل كامل من الضياع وضمان حقه في الدراسة والتأهيل. وعلى الأرض، ساهمت المؤسسات القطرية في إنشاء المدارس المؤقتة بمخيمات اللجوء، وتوزيع المستلزمات الدراسية، ودعم رواتب المعلمين في بعض المناطق المحررة، الأمر الذي مكّن مئات الآلاف من الطلاب السوريين من متابعة تحصيلهم العلمي برغم الحرب.

وفي القطاع الصحي، لعب الهلال الأحمر القطري والمنظمات الخيرية الأخرى دورًا محوريًا في تشغيل ودعم المستشفيات الميدانية والمراكز الطبية في الشمال السوري ومواقع اللجوء، حيث قدّمت الفرق الطبية القطرية خدماتها لعلاج الجرحى والمرضى، ووصلت المساعدات الدوائية إلى المستحقين في الوقت المناسب. ولم يقتصر الأمر على الرعاية الصحية الأولية، بل تعداه إلى مشاريع نوعية مثل دعم علاج الأمراض المزمنة وتوفير أدوية السرطان في المناطق المحرومة.

أما على صعيد إعادة الإعمار المبكر، فقد ساهمت قطر بتطوير مشاريع تنموية صغيرة ومتوسطة في المناطق التي حررتها المعارضة أثناء الحرب، شملت ترميم البنية التحتية الأساسية كإصلاح شبكات المياه والكهرباء المحلية وتأهيل المساكن والمستشفيات والمدارس المتضررة. وهذه الجهود كانت بمثابة بذور لإعادة الحياة في تلك المناطق وتهيئتها لعودة الأهالي واستقرارهم.

وقد مثّل الدعم القطري للتعليم والصحة وإعادة الإعمار بُعدًا استراتيجيًا مهمًا، كونه يستثمر في مستقبل سوريا ويعالج التداعيات الاجتماعية للحرب، وليس فقط إغاثة آنية. وبذلك أكدت قطر أنها شريك فاعل في بناء سوريا المستقبل عبر التركيز على الإنسان أولًا، تعزيزًا لصمود الشعب السوري حتى يأتي الحل الشامل.

قطر وسوريا الجديدة بعد 2024: دعم دبلوماسي وإنساني وتنموي

بعد سنوات طويلة من الصراع، شهدت سوريا تحولًا جذريًا بسقوط نظام بشار الأسد أواخر عام 2024، إيذانًا ببدء حقبة جديدة تنتظر فيها البلاد إعادة البناء والمصالحة. وفي خضم هذه المرحلة المفصلية، حافظت قطر على عهدها في الوقوف إلى جانب سوريا وشعبها، بل وكثفت جهودها لتكون في طليعة الداعمين لـ"سوريا الجديدة" على الساحة الدولية. فعلى الصعيد الدبلوماسي، كانت الدوحة من أوائل العواصم التي رحبت بالتغيير السياسي في دمشق واعترافها بالقيادة السورية الجديدة.

وأعلنت وزارة الخارجية القطرية سريعًا إعادة افتتاح سفارة دولة قطر في دمشق بعد انقطاع دام 13 عامًا، في خطوة رمزية تؤكد عودة سوريا إلى الحضن العربي ورسالة بأن قطر ترى في الحكومة السورية الجديدة ممثلًا شرعيًا للشعب السوري. ولم يقتصر الحضور الدبلوماسي على ذلك، إذ أوفدت الدوحة مسؤولين رفيعي المستوى للقاء القيادات السورية الجديدة والتنسيق معهم، مجددةً عهد الشراكة والتشاور في كل ما يدعم وحدة سوريا وسيادتها.

وعلى صعيد الانفتاح الدبلوماسي، حرصت قطر على تسهيل إعادة انخراط سوريا في محيطها؛ فشاركت بنشاط في الجهود العربية لإعادة تفعيل مقعد سوريا في الجامعة العربية وكافة المنظمات الإقليمية، ودعت المجتمع الدولي إلى مساندة الحكومة السورية الانتقالية في جهودها لإحلال الأمن والاستقرار. وعربيًا ودوليًا، حرصت الدوحة على تعزيز الحضور السوري في المنابر العربية والدولية منذ اللحظة الأولى للتغيير. فقد عملت على ترتيب لقاءات رفيعة المستوى بين المسؤولين السوريين الجدد وأشقائهم العرب في دمشق والدوحة والقاهرة، ما عزز من شرعية الإدارة السورية الجديدة، وزاد من زخم انخراطها ضمن الأسرة العربية. وعلى الصعيد الدولي، استخدمت الدوحة ثقَلها الدبلوماسي لإعادة وصل ما انقطع بين سوريا والمجتمع الدولي طوال فترة العزلة في زمن الحرب. وبالشراكة مع تركيا مثلاً، يتم تنسيق الدعم الأمني واللوجستي لضمان استقرار المناطق السورية أمام التهديدات من الفلول والجماعات المسلحة التي تهدد استقرار وأمن سوريا الجديدة.

ومن الناحية الإنسانية، فقد استمرت الجسور الجوية والبرية القطرية بإيصال المساعدات الإغاثية العاجلة إلى الداخل السوري فور تغير الأوضاع، حيث وجهت الدولة شحنات إضافية من المواد الغذائية والأدوية ومعدات الإيواء لدعم السوريين العائدين إلى مدنهم وقراهم بعد سنوات النزوح. كما أعلنت الدوحة التزامها بتمويل مشاريع تنموية عاجلة لتحسين حياة المواطنين في كافة المناطق السورية، بما في ذلك تلك التي عانت من التهميش خلال الصراع. وشملت هذه المشاريع دعم إعادة تشغيل المدارس والمستشفيات على امتداد البلاد، وتقديم منح مالية مباشرة للأسر الأكثر تضررًا، بالتعاون مع المؤسسات الرسمية السورية الجديدة.

ومن أبرز مجالات الدعم المباشر الذي تقدمه قطر لسوريا في مرحلة التعافي الحاليّة، مساهمتها الفاعلة في إعادة إعمار البنية التحتية الحيوية وعلى رأسها قطاع الطاقة والكهرباء. وفي هذا السياق، بادرت قطر إلى وضع خبرتها ومواردها في خدمة المشروع الوطني لإعادة إنارة سوريا. حيث جرى الاتفاق على تزويد محطات توليد الكهرباء السورية بالغاز الطبيعي القطري عبر الدول المجاورة، مما ساعد على تشغيل عدد من المحطات المتوقفة وزيادة القدرة الإنتاجية بشكل ملموس. وفعليًا، وصلت الدفعات الأولى من الغاز القطري إلى سوريا مع بداية عام 2025، الأمر الذي رفع إنتاج الكهرباء بمئات الميغاواط، وانعكس مباشرةً على زيادة ساعات التغذية الكهربائية في مختلف المناطق. وإلى جانب ذلك، أعلنت الدوحة استعدادها لتزويد شبكة الكهرباء السورية بطاقة إضافية مباشرة تُقدَّر بحوالي 200 ميغاواط في المراحل الأولى، على أن يُزاد حجم الإمداد تدريجيًا لتلبية الاحتياجات المتصاعدة. وهذه الخطوات العملية ساهمت في تخفيف معاناة الأهالي من انقطاع الكهرباء الطويل، ومكّنت المدارس والمستشفيات والمنشآت الخدمية من استئناف عملها بكفاءة أعلى.

وعلى نطاق أوسع، تضطلع قطر بدور محوري في تمويل وإعادة تأهيل البنية التحتية السورية المتهالكة. فقد التزمت الشركات والصناديق الاستثمارية القطرية بتطوير مشاريع إعادة إعمار للطرقات والجسور وشبكات المياه والصرف الصحي التي تضررت بفعل الحرب، خاصة في المدن والمناطق التي شهدت مواجهات عنيفة. كما يشارك الخبراء القطريون في تقديم الاستشارات الفنية والهندسية لإعادة تشغيل الموانئ والمطارات، وتأهيل شبكات الاتصالات، لضمان عودة الترابط الكامل بين مناطق سوريا المختلفة ودفع عجلة الاقتصاد الوطني. بالإضافة إلى دورها في مجالات التطوير الأمني والإعلامي. وهذه الإسهامات تؤسس لانطلاقة تنموية قوية تُمكّن سوريا من النهوض من جديد. لقد برهنت قطر عبر دعمها لقطاع الكهرباء وإعادة الإعمار أنها شريك حقيقي في البناء، حاضرة حيثما اقتضت الحاجة لإنارة البيوت والطرقات تمامًا كما أنارت الأمل في قلوب السوريين.

إن الدور القطري في مرحلة ما بعد 2024 بات ركيزة أساسية لدعم استقرار سوريا الجديدة؛ فقطر لم تنظر إلى انتهاء الحرب كنهاية دورها، بل بداية لواجب جديد يتمثل في مرافقة السوريين في مسيرة إعادة بناء وطنهم المدمر. وهذا الالتزام القطري الشامل – سياسيًا وإنسانيًا وتنمويًا – عزز من قدرات الحكومة السورية الوليدة على مواجهة التحديات الكبرى التي ورثتها، وطمأن الشعب السوري بأن تضحياته لم تذهب سدى، فإلى جانبه إخوة أوفياء يؤمنون بحقه في غدٍ أفضل.

 

وهكذا، تختتم العلاقات القطرية السورية فصولها الراهنة بما بدأت به منذ عقود، من روح أخوة صادقة وتضامن راسخ في مختلف الظروف. لقد أثبتت التجربة التاريخية أن ما يجمع قطر وسوريا يتجاوز أي خلافات طارئة أو تحديات عابرة، إذ يستند إلى أواصر الدم والانتماء القومي والإيمان العميق بالمصير المشترك. وخلال المحنة السورية الكبرى، لم تدخر دولة قطر جهدًا في دعم الشعب السوري، سياسيًا ودبلوماسيًا وإنسانيًا، مجسدةً بذلك أسمى معاني الوفاء الأخوي والالتزام الأخلاقي. واليوم، مع بدء مرحلة جديدة في تاريخ سوريا، تبرز مشاعر الامتنان العميق من الشعب السوري تجاه دولة قطر وشعبها الشقيق ومواقفها النبيلة، كما تمتد مشاعر التقدير إلى كل الدول الشقيقة والصديقة التي آثرت نصرة الشعب السوري ووقفت إلى جانبه في محنته. وإن الأخوة السورية القطرية، التي ازدادت مع الزمن رسوخًا، تظل نموذجًا مضيئًا لما ينبغي أن تكون عليه علاقات الدول العربية، مؤسسةً على قيم الدعم المتبادل، والتكافل القومي، والعمل المشترك.

 

_____

** ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
بعد أكثر من نصف قرن في الغياب.. الشيخ عدنان العرعور يعود إلى دمشق ويسجد شكرًا لله (فيديو)
السابق
نماذج علمائية ملهمة (39): الإمام ابن قيم الجوزية.. الداعية المصلح والعالم الموسوعي

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع