مداومة على الطاعات بعد مواسم الخيرات
بقلم: زهرة سليمان أوشن
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
المسلم مطالب بالواجبات والفرائض منذ تكليفه اليقين وحتى
يلقى ربه، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ
يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر:
99].
وهو في مسيرته في هذه الحياة مكلف بالقيام بالعبادات
والمسارعة في الصالحات مهما تغيرت الظروف، وتبدلت الأحوال حسب جهده وطاقته، إذ لا
يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وهو في سعيه هذا يجب أن يكون حريصًا على أداء ما افترضه
الله عليه في أحسن صورة، وعلى أكمل وجه.
والعبادات في دينينا تتنوع وتتعدد، ومنها ما له اتصال
بالله؛ ومنها ما فيها تعامل مع عباد الله؛ ولهذه العبادات أوجه في كيفياتها وطريقة
أدائها ولبعضها مواسم ومواقيت وأماكن، وفي كل هذا التنوع يظهر عظمة شرع الله
وروعته وجماله ونيل مقاصده.
وبعض المواسم الزمنية تتميز بعبادات مخصوصة وبأجواء
إيمانية وروحانية خاصة؛ بل تتعداها إلى أن تصنع مناخا من السكينة والطمأنينة
والراحة؛ وتعد فرصا استثمارية عظيمة؛ للفرد والمجتمع يظهر فيها المواساة والرحمة
بين المسلمين، كما يعلون فيها إيمانهم وحسن تعاملهم وسمو أخلاقهم، أو لنقل هكذا
يجب أن تكون إذا حقق المسلمون أهدافها ومقاصدها.
ولا شك في أن تنوع العبادات وتعدد مواسم الخيرات نعم
جليلة من نعم الله -سبحانه- وتعالى؛ إذ هي فرص استثمارية لكل من يرغب في غفران
زلاته ورفعة درجاته، ويسعى للقرب من الرحمن والفوز بالجنان؛ والله -سبحانه وتعالى-
يقول لنا في كتابه الكريم: ﴿۞ وَسَارِعُوا إِلَىٰ
مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل
عمران: 133]
وهذه - المواسم لو أحسن العبد المسلم استثمارها، فإنها
ستزوده بزاد كبير من الطاقة الإيمانية التي تعينه على الاستمرار والمثابرة على
الصالحات،
لكننا في واقع الحياة نلاحظ أن بعضا من المسلمين تتقلب
أحواله بعد هذه المواسم؛ فتجده يعود إلى ما اعتاده قبلها من تقصير في أداء الصلوات
والقيام بالعبادات، وإضاعة الأوقات، بل قد يرجع إلى المنكرات، ويتنكب الصراط
المستقيم، فيغترف من بحر الشهوات، ويغرق في يم الشبهات.
ولعلي في هذه المقالة الموجزة أتحدث عن أسباب هذه
الانتكاسية بعد مواسم الطاعات؛ ثم أذكر أمورًا تعين على المعالجة، وتساعد على
الاستمرار والمداومة على الطاعات بعد مواسم الخيرات.
- الأسباب:
1- الفهم
الخاطئ في التعامل مع هذه المواسم إذ بعض الناس في تصوره أن العبادة تخصها دون
غيرها من الأزمنة؛ فكأنه مثلا يعبد رمضان لا رب رمضان.
2- عدم
الاستثمار الحقيقي لتلك المواسم والاكتفاء بالطقوس الشكلية فيها دون تغير عميق على
مستوى القلب والقيم والأخلاق؛ والله في كتابه يقول: ﴿
ۗإِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
ۗ ﴾ [الرعد: 11]، والنتيجة أن
تتحول هذه المواسم إلى بروتوكولات فيها عادات وتقاليد دون عمق وروح تحيي القلوب
والعقول.
3- لا شك في
أن لتلك المواسم نفحاتها وبركاتها وأجواءها المميزة، والمسلم ليس في كل أحواله على
وتيرة واحدة، لكن هذا لا يعني أن يترك نفسه على هواها، وينقض ما بناه في تلك
المواسم؛ والله يحذرنا من هذا فيقول: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ
أَنكَاثًا..﴾ [النحل: 92]
النحل من الآية 92، فمن أهم الأسباب لعدم الاستمرار بعد
مواسم الخيرات اتباع الهوى والركون إلى الدعة وعدم الاستمرار في مجاهد النفس.
4- الرجوع إلى العادات القبيحة مثل إضاعة الأوقات والسهر
الزائد عن الحاجة؛ ومشاهدة ما لا يرضي الله -سبحانه- والصحبة السيئة وغيرها.
5- عدم وضع برنامج للطاعات ومتابعته وترك الأمور تسير
دون بوصلة أو تخطيط؛ عندها يجد الشيطان منافذه، وتدخل الشهوات من أوسع الأبواب.
وقفات علاجية
بعد أن تحدث عن الأسباب التي تؤدي إلى التهاون في
الطاعات بعد مواسم الخيرات لا بد أن نشير إلى ما يعين على التخلص من هذا الداء، ويعين
على معالجة هذا الفتور والبعد عن الله تعالى من خلال هذه الوقفات العلاجية:
1- التوجه الصادق إلى الله -سبحانه وتعالى؛ وطلب العون منه وحسن التوكل عليه، فنحن في زمن الفتن
والثبات على الحق أمر ليس باليسير، والأمر كله لله والقلوب بيده -سبحانه- يقلبها
كما يشاء، وقد علمنا حبيبنا محمد صلى الله عليه سلم أن نكثر من الدعاء بالثبات،
وكان كثيرا ما يردد: (اللهم يا مقلب قلت قلبي على دينك).
2- أن يستعيذ المسلم بالله من الخذلان، ومن الانتكاس بعد
الاستقامة، ويجدد توبته وأوبته إلى ربه في كل حين؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ
تَوْبَةً نَّصُوحًا..﴾ [التحريم: 8]، متذكرا أنه ينال بهذا محبة الله
ورضوانه فالله يقول في كتابه الكريم: ﴿..إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ..﴾ [البقرة: 222].
3- من
الأمور التي تعين على الاستمرار في الطاعات كثرة قراءه -كتاب الله تعالى- فيجعل له
ورد يومي من كتاب الله تعالى متدبرا متأملا فيه؛ فيكون له زاد يعينه على المداومة
على العبادة.
4- الإكثار
من ذكر الله تعالى فهو مفتاح لكل خير؛ مع ما في الذكر من استحضار مقام الله تعالى
مما يدفعه للبعد عن المعاصي واجتنابها.
5- الحرص
على الصلوات في أوقاتها فهي أفضل الأعمال فضلا عن أنها تعين على ترتيب الأوقات،
وتبعد عن الشهوات، قال تعالى: ﴿..إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45].
6- الصحبة
الصالحة، فالصاحب ساحب كما يقولون، لذا فإن الرفقة الطبية ومصاحبة الأخيار تعين
على السير في درب الصلاح والإصلاح.
7- متابعة
المسلم لأعماله وتربيت أوقاته مع محاسبة يومية لنفسه، حتى لا تهيم في وديان
الغفلة، ثم تقيمه لحاله والسعي للتقويم دون بطء ولا تسويف، جاء عن عمر بن الخطاب
قوله: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم).
8- الصبر
والتصبر، فإن الطريق طويل؛ وأبواب الشهوات في هذا العصر مفتوحة على مصرعيها، لذا
لابد من الصبر على كل العقبات والنتائج المشرقة تأتي بعد تعب ومشقة والله في كتابه
يقول: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45].
ختاما، فتلك كانت جولة في أسباب الانتكاس والفتور عن الطاعات
بعد مواسم الخيرات؛ مع وقفات علاجية تعين على الثبات والمداومة على أعمال البر
والمسارعة في الخيرات.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم واللهم ثباتا
على الحق حتى نلقاك واجعلنا من المسارعين في الخيرات المسارعين إلى الجنات.
____________
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها
ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.