البحث

التفاصيل

تفكيك منظومات الاستبداد (٥٣): جماعة الإخوان وخيار الجهاد الاستراتيجي

الرابط المختصر :

تفكيك منظومات الاستبداد (٥٣): جماعة الإخوان وخيار الجهاد الاستراتيجي   

كتبه: جاسر عودة

عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

لم أكن قد وُلدتُ بعد، حين قتل ”الضباط الأحرار“ عمي الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله وتقبله في الشهداء عام ١٣٧٤هـ / ١٩٥٤م، ولكن حكت لي إحدى عماتي رحمها الله عن حوارات حكاها لها الأستاذ عبد القادر، دارت بينه وبين عبد الناصر الطامح للرئاسة المصرية في تلك الأيام، فهمتُ من مجموعها أن أصل الخلاف كان حول استراتيجية المرحلة آنذاك، والتي كان من أبرز ملامحها الموقف من ”اتفاقية الجلاء“ التي بموجبها انسحب الجيش الإنجليزي عسكريًا من مصر بدءًا من عام ١٩٥٤م، والتي كان يسميها الأستاذ عبد القادر ”اتفاقية الاستسلام“، ويرى أنها في حقيقتها صفقة ثمنها فلسطين للصهاينة في مقابل شرعنة السلطة المصرية الجديدة تحت قيادة عبد الناصر ضمن النظام الدولي الجديد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وكان الخيار الاستراتيجي المقابل في رأي الأستاذ عبد القادر هو الاستمرار في الجهاد على جبهتين لتحقيق هدفين: أولهما إنهاء نفوذ الإنجليز في مصر تمامًا -وكل نفوذ الإمبراطورية الغربية في العالم الإسلامي-، وثانيهما إنهاء الاحتلال لفلسطين الذي مكنته تلك الإمبراطورية، وجدير بالذكر أن الأستاذ رحمه الله كان ضمن قيادات كتائب الإخوان التي حاربت عام ١٩٤٨م، والتي كانت تحت قيادة الشيخ محمد فرغلي، الذي أعدموه معه وأعدموا معهما -أو سجنوا- كل من قاد المقاومة في فلسطين: يوسف طلعت ومحمود عبد اللطيف وغيرهم ممن شارك في الحرب. إذن، إعدامات وسجون الإخوان عام ١٩٥٤م كانت بالأساس لإجهاض العودة إلى الجهاد في فلسطين، وإجهاض استمرار المقاومة للمستعمر الأوروبي حتى التحرر الكامل دون شروط ولا ذيول، كخيار استراتيجي لمصر، بل وللعالم العربي والإسلامي.

وأتفق مع من رأى أن تصفية جماعة الإخوان وقتل قياداتها الفكرية والسياسية والعسكرية كان من الشروط غير المعلنة لاتفاق”الجلاء“ نفسه، ويدل على هذا أدلة كثيرة على رأسها إصرار عبد الناصر ورفاقه على قتل قادة الجماعة خاصة قادة المقاومة في فلسطين تحديدًا، وقتل أوعى الفقهاء والسياسيين بطبيعة المعركة مع الاستعمار الغربي، حتى أنهم لم يستحوا في أن يستخِفّوا بعقول الناس ويلفّقوا حادثة المنشية الهزلية -والمحاكمات الأكثر هزلية بعدها- من أجل تبرير ذلك القتل. على أي حال، (تلك أمة قد خلت) كما قال تعالى، ورحل القاتل والمقتول وعند الله تجتمع الخصوم.

أما ما يعنينا اليوم، فهو أن جماعة الإخوان على مدار العقود التالية منذ منتصف القرن الماضي، قد تحولت تدريجيًا من استراتيجية الجهاد للمستعمر الأوروبي حتى الجلاء التام دون شروط، والجهاد للاحتلال في فلسطين دون تنازلات، إلى استراتيجية ”الاندماج“ في الدول لكي تصبح جزءًا من أغلب النظم السياسية ”الوطنية“ بما فيها النظم المستبدة، فمثلًا: كانت الجماعة المصرية تتفاوض وتتفق قبل الانتخابات على عدد الكراسي التي سوف تحوزه في البرلمان المصري لكي تلعب دور المعارضة، وكانت الجماعة تلعب دور الداعم للدولة حين ”تفشل“ -بالمصطلح السياسي- في مسؤولياتها، بتفريغ الغضب الشعبي في تظاهرات غير مؤثرة حين تفشل الدولة في القيام بمسؤولياتها السياسية والعسكرية خاصة في قضايا الأمة الإسلامية وعلى رأسها قضية فلسطين، وتارة تدعم الجماعة الدولة بإنشاء المشافي الخيرية حين تفشل الدولة في القيام بمسؤولياتها الصحية، وتارة تدعم الدولة بالقيام بأدوار التربية الإسلامية والتوجيه الأخلاقي للشباب حين تفشل الدولة في القيام بذلك، خاصة وأن الدولة كانت ولا تزال تسير في الاتجاه السلبي بالإفساد الأخلاقي والثقافي الممنهج من أجل أغراض السياسة، وقس على ذلك: القوافل الإغاثية، والصلح الاجتماعي، والصناعات الصغيرة، وتزويج الفقراء، وقضاء الديون الصغيرة، ومساعدة المزارعين الصغار، وتوزيع الزكاة والصدقات، ومحاربة الإدمان، ومحو الأمية، ثم جاءت مرحلة الإعلام الذي سُمّي بالإسلامي، إلى آخرها. وفي مقابل ذلك أعطت لها تلك الدول التي تحالفت معها قطعة -محدودة- من” الكعكة“ الاقتصادية والسياسية والإعلامية.

وأما إذا فكّرت الجماعة أو فكّر بعض أعضائها النافذين في العودة إلى خيار الجهاد الذي أصرّ عليه رواد الجماعة الأصليون وقُتلوا دونه، بشقيه -هما هما-: الجهاد ضد نفوذ الإمبراطورية الغربية -التي تقود جيوشها اليوم أمريكا ويتحكم في ثرواتها نادي الواحد بالمائة-، والجهاد ضد الاحتلال في فلسطين الذي مكنته تلك الإمبراطورية، فهذا معناه عودة الدول ”الوطنية“ إلى الاتفاق القديم الجديد مع المستعمر القديم الجديد، ومفاده كالتالي: سنقتل لكم الإسلاميين المجاهدين وكل من يؤيدهم، ونتنازل عن الجهاد في فلسطين، في مقابل أن تدعمونا لنبقى في السلطة. والتاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة!

أما ”كيف“ فله حديث ومقام آخر، ولكنّ السؤال الأهم اليوم هو: ألم يأن للجماعة الرائدة التي طالما نادى شبابها: (الجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا) أن تعي قياداتها السياسية طبيعة الصراع مع الإمبراطورية المعاصرة، وطبيعة المعركة الصفرية التي وصلت إليها قضية فلسطين، فترتفع إلى مستوى المرحلة؟ أيها الإخوان، الأمة بحاجة إلى قيادتكم فكونوا كما كان مؤسس جماعتكم رحمه الله يستشهد بشعر طَرَفَة في معلقته:  

إِذَا القَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتَىً خِلْتُ أنَّنِي … عُنِيْتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ

——

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

السابق
بمشاركة فضيلة رئيس الاتحاد.. الأمانة العامة للاتحاد تبحث مستجدات المرحلة وتناقش تعزيز الأداء المؤسسي

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع