البحث

التفاصيل

فقه الاقتحام

الرابط المختصر :

فقه الاقتحام

كتبه: أ.د/ بلخير طاهري الإدريسي

عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

قال تعالى: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ [سورة البلد: 11].

الحمد لله الذي رفع وخفض، وأعز وأذل، وأفرح وأحزن، وأغنى وأفقر، وحفظ وابتلى، وكل شيء عنده بمقدار.

لقد جبلت النفس الإنسانية على الخوف والتردد إلا من رحم ربي، والخوف من المهالك أمر مشروع، ومنه كان اتخاذ التدابير والاحتياط، صونا للأنفس من الهلاك والتلف.

وجعل حفظ النفس مقصدا من المقاصد الخمسة الكلية المرعية في جميع الأديان السماوية.

ورغم ذلك يتقدمها الحفاظ على الدين في بعض الحالات، ومن ذلك مشروعية الجهاد، نكاية في العدو، وهذا يتطلب إزهاق هذه الروح العزيزة في سبيل الله.

وعليه: هناك مواطن تستوجب الانغماس في العدو باعتبار ميزان المصالح والمفاسد.

قال العلامة الإبراهيمي رحمه الله: [[وواجبه -أي العالِم- أن ينغمس في الصفوف مجاهدًا، ولا يكون مع الخوالف والقعدة: وأن يفعل ما يفعله الأطباء الناصحون من غشيان مواطن المرض لإنقاذ الناس منه.

وأن يغشى مجامع الشرور لا ليركبها مع الراكبين، بل ليفرّق اجتماعهم عليها.

وواجبه أن يطهّر نفسه قبل ذلك كله من خلق الخضوع للحكّام والأغنياء، وتملّقهم طمعًا فيما في أيديهم، فإن العفة هي رأس مال العالم، فإذا خسرها فقد خسر كل شيء، وخلفها الطمع فأرداه. اهـ]] الآثار المجلد 4 ص 116-117.

وهذا المعنى الأخير الذي لخصه العلامة البشير الإبراهيمي هو ما قعّده العلامة الزاهد سيدي ابن عطاء الله السكندري في حكمه بقوله: "ما بسقت أغصان ذل إلا على بذر الطمع".

وكل عاقل يعلم أن هذا الوجود لا يخلو من مصالح ومفاسد، والعاقل من يدرك أنه ليس هناك في الوجود مصالح محضة ولا مفاسد ممحضة، فما من مصلحة إلا وفيها شائبة المفسدة، وما من مفسدة إلا، وفيها شائبة المصلحة، والبصير من يخرج المفاسد من بين المصالح، والمصالح من بين المفاسد.

وربما أحيانا لا تجد مناصا لاختيار أهون الشرين، من باب تعارض المفسدتين، والتي يستوجب عليك ارتكاب أحدهما لا محالة.

قال ابن تيمية رحمه الله: "ليس الفقيه من يعرف الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعرف خير الخيرين من شر الشرين".

وعليه، فإن فقه الاقتحام هو مرحلة متقدمة من فقه الانغماس في العدو أو المفاسد، بغرض إفساد الفساد، والتشكيك فيه وهز أركانه، وتشتيت صفوفه.

وإن فقه الاقتحام لا بد له من شخصية تتمتع ببعض المواصفات:

أولاً: الإيمان الذي لا يدخله تردد.

ثانياً: والعلم الذي لا ينقدح معه شك.

ثالثاً: والعقل الراجح الذي يميز به الشبهات.

رابعاً: والخلق المتين الذي لا تهزه شهوات.

خامساً: ونظر ثاقب يقدر به المآلات.

** مصداق ذلك:

أولاً من القرآن:

1- قال تعالى: ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23].

2- وقال تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: 28].

ثانياً من السنة:

1- ومنه ما ثبت في أحداث السيرة النبوية: لمَّا جاء نُعَيمُ بنُ مَسعودٍ مُسلِمًا، أوصاهُ أنْ يكتُمَ إسلامَه وردَّه على المشركينَ يُوقِعُ بينَهم.

وقال له: إنَّما أنتَ فينا رجلٌ واحدٌ، فخذِّلْ عنَّا إنِ استطَعْتَ؛ فإنَّ الحربَ خُدعةٌ، فخرَجَ نُعَيمٌ حتَّى أتَى بَني قُرَيظةَ -وكان لهم نَديمًا في الجاهليَّةِ-

فقال: يا بَني قُرَيظةَ، قد عرَفْتُم وُدِّي إيَّاكم وخاصَّةَ ما بيني وبينَكم.

قالوا: صدَقْتَ، لستَ عندنا بمُتَّهَم، فقال لهم: إنَّ قُريشًا وغَطَفانَ ليسُوا كأنتُم، البلدُ بلدُكم، فيه أموالُكم وأبناؤُكم ونساؤُكم، لا تَقدِرونَ على أنْ تَحوَّلوا مِنه إلى غيرِه، وإنَّ قُريشًا وغَطَفانَ قد جاؤُوا لِحربِ محمَّدٍ وأصحابِه، وقد ظاهَرْتُموهم عليه، وبلدُهم وأموالُهم ونِساؤُهم بغيرِه، فليسوا كأنتُم، فإنْ رأَوْا نُهْزَةً أصابوها، وإنْ كان غيرَ ذلك لَحِقوا بلادَهم، وخلَّوْا بينَكم وبينَ الرَّجلِ ببلدِكم، ولا طاقةَ لكم به إنْ خَلا بكم، فلا تُقاتِلوا مع القومِ حتَّى تأخُذوا منهم رَهْنًا مِن أشرافِهم، يكونونَ بأيديكم ثِقةً لكم على أنْ تُقاتِلوا معهم محمَّدًا حتَّى تُناجِزوه.

فقالوا له: لقد أشَرْتَ بالرَّأيِ، ثمَّ خرَجَ حتَّى أتَى قُريشًا، فقال لأبي سُفيانَ ومَن معَه: قد عرَفْتم وُدِّي لكم وفِراقي محمَّدًا، وإنَّه قد بلَغَني أمْرٌ رأيتُ عليَّ حقًّا أنْ أُبلِغَكُموهُ نُصْحًا لكم، فاكتُموا عنِّي.

فقالوا: نفعَلُ، قال: تعلَمُونَ أنَّ مَعشرَ يَهودَ قد نَدِموا على ما صنَعوا فيما بينَهم وبينَ محمَّدٍ، وقد أرسَلُوا إليه: إنَّا قد ندِمْنا على ما فعَلْنا، فهل يُرضيكَ أنْ نأخُذَ لكَ مِنَ القَبيلتَينِ -قُريشٍ وغَطَفانَ- رِجالًا مِن أشرافِهم فنُعطيَكَهم، فتَضرِبَ أعناقَهم؟ ثمَّ نكونَ معَكَ على مَن بقِيَ مِنهم حتَّى نستأصِلَهم؟ فأرسَلَ إليهم أنْ نعمْ، فإنْ بعَثَتْ إليكم يهودُ يلتمِسونَ مِنكم رَهْنًا مِن رجالِكم فلا تدفَعوا إليهم مِنكم رجلًا واحدًا، ثمَّ خرَجَ حتَّى أتَى غَطَفانَ.

فقال: يا مَعشرَ غَطَفانَ، إنَّكم أَصْلي وعَشيرتي، وأحَبُّ النَّاسِ إليَّ، ولا أراكُم تتَّهِمونَني.

قالوا: صدَقْتَ، ما أنتَ عندنا بمُتَّهمٍ.

قال: فاكتُموا عنِّي.

قالوا: نفعَلُ.

ثمَّ قال لهم مثلَ ما قال لقُريشٍ، وحذَّرَهم مثلَ ما حذَّرَهم، فلمَّا كانت ليلةُ السَّبتِ مِن شوَّالٍ سنةَ خمسٍ كان مِن صُنْعِ اللهِ لرسولِه أنْ أرسَلَ أبو سفيانَ ورؤوسُ غَطَفانَ إلى بَني قُرَيظةَ عِكْرِمةَ بنَ أبي جَهْلٍ في نفرٍ مِن قُريشٍ وغَطَفانَ.

فقالوا لهم: إنَّا لسنا بدارِ مُقامٍ، قد هلَكَ الخُفُّ والحافِرُ، فاغْدوا للقتالِ حتَّى نُناجِزَ محمَّدًا، ونَفرُغَ ممَّا بينَنا وبينَه، فأرسَلوا إليهم: إنَّ اليومَ يومُ السَّبتِ وهو يومٌ لا نعمَلُ فيه شيئًا، وقد كان أحدَثَ فيه بعضُنا حدَثًا، فأصابَه ما لم يَخْفَ عليكم، ولسنا مع ذلك بالَّذين نقاتِلُ معَكم محمَّدًا حتَّى تُعطونا رَهْنًا مِن رجالِكم، يكونونَ بأيديِنا ثِقةً لنا حتَّى نُناجِزَ محمَّدًا؛ فإنَّا نخشى -إنْ ضرَسَتْكمُ الحربُ واشتَدَّ عليكمُ القتالُ- أن تنشَمِروا إلى بلادِكم، وتترُكونا والرَّجلَ في بلدِنا، ولا طاقةَ لنا بذلك منه، فلمَّا رجَعَتْ إليهم الرُّسُلُ بما قالت بنو قُرَيظةَ.

قالت قريشٌ وغَطَفانُ: واللهِ إنَّ الَّذي حدَّثَكم نُعَيمُ بنُ مَسعودٍ لَحقٌّ، فأرسِلوا إلى بَني قُرَيظةَ: إنَّا واللهِ لا ندفَعُ إليكم رجلًا واحدًا مِن رجالِنا، فإنْ كنتُم تُريدونَ القِتالَ فاخرُجوا فقاتِلوا.

فقالت بَنو قُريظةَ -حين انتهَتِ الرُّسُلُ إليهم بهذا-: إنَّ الَّذي ذكَرَ لكم نُعَيمٌ لَحَقٌّ، ما يُريدُ القومُ أنْ يُقاتِلوا، فإنْ رأَوْا فُرصةً انتَهَزوها، وإنْ كان غيرُ ذلك انشَمَروا إلى بلادِهم.

2- عن يَزيدُ بنُ شَريكٍ قال: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ، فَقالَ رَجُلٌ: لو أَدْرَكْتُ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- قَاتَلْتُ معهُ وَأَبْلَيْتُ.

فَقالَ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذلكَ؟! لقَدْ رَأَيْتُنَا مع رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- لَيْلَةَ الأحْزَابِ، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرٌّ.

فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينِي بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟

فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قالَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِينَا بخَبَرِ القَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَومَ القِيَامَةِ؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ.

فَقالَ: قُمْ يا حُذَيْفَةُ، فَأْتِنَا بخَبَرِ القَوْمِ، فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا -إذْ دَعَانِي باسْمِي- أَنْ أَقُومَ، قالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بخَبَرِ القَوْمِ، وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ.

فَلَمَّا وَلَّيْتُ مِن عِندِهِ جَعَلْتُ كَأنَّما أَمْشِي في حَمَّامٍ حتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بالنَّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْمًا في كَبِدِ القَوْسِ، فأرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ، ولو رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ، فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي في مِثْلِ الحَمَّامِ.

فَلَمَّا أَتَيْتُهُ فأخْبَرْتُهُ بخَبَرِ القَوْمِ وَفَرَغْتُ، قُرِرْتُ، فألْبَسَنِي رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- مِن فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عليه يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حتَّى أَصْبَحْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ قالَ: قُمْ يا نَوْمَانُ." رواه مسلم.

الخلاصة:

ربما كان بالإمكان الاختصار والاقتصار على محل الشاهد في هذين الحديثين، ولكن أردت للقارئ أن يعيش جو هاتين الحادثتين من السيرة العطرة.

وكيف كثير من الأصحاب رباهم سيد الخلق على اقتحام العقبة من غير تهيب، وأن ما عند الله هو خير وأبقى.

وما نراه هذه الأيام في أرض الرباط من معجزات وكرامات سيكتبها التاريخ في سجل آيات الرحمان في الدفاع عن الأوطان، والملاحم التي يسطرها هذا الجيل الفريد في زمن الخذلان وبيع الذمم، والارتماء في أحضان الكفرة والخونة.

ومن حرك هذا المقال هي عبارة العلامة البشير الإبراهيمي، فمن خلالها لاحت لي هذه الخواطر، حول فقه الاقتحام.

فنسأل الله -عز وجل- أن ينصر إخواننا في أرض الرباط، وأن يسدد رميهم ويحمي ظهرهم، ويقهر عدوهم، ويفضح العملاء من بني جلدتنا، فإنها المعركة الكاشفة الفاضحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* أ.د/ بلخير طاهري الإدريسي الحسني المالكي الجزائري؛ أستاذ الشريعة والقانون جامعة وهران – الجزائر. عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.


: الأوسمة


المرفقات

التالي
باكستان تنتفض لغزة: الجماعة الإسلامية تقود مسيرة مليونية وتدعو لإضراب شامل
السابق
رحيل عالم جزائري بارز: "فضيلة الشيخ الدكتور عبدالهادي لعقاب في ذمة الله"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع