البحث

التفاصيل

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟

الرابط المختصر :

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟

الحلقة الثالثة

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

 

[الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟ الحلقة الثانية]

 

مصير الصفوة أمام تيار الفتنة

ونقصد بالصفوة هنا في هذه المرحلة الزمنية تحديدا، علماء الصحابة وكبار التابعين، الذين عاصروا الفتنة وكانت لهم مواقف متباينة منها، خلاصتها أنها مواقف غير مناسبة للحالات التي وقفوا عليها، أو قل بعضها غير مناسب؛ لأن المنتظر والمطلوب منهم يومها، لم يكن في تسجيل موقف معبر عن مجرد التزكية أو الإنكار، وإنما كان المطلوب منهم البحث في إيجاد الحلول اللازمة للأزمة، إذ لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وقع المسلمون في أزمة فيمن يخلف الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فيما يعرف بيوم السقيفة، ورغم حدة الأزمة التي لأفقدت البعض صوابه، مثل عمر الذي لم يهضم حقيقة وفاة النبي!! ومع ذلك جد الحل بانتخاب الصدِّيق رضي الله عنه؛ لأن أنظار كانت في اتجاه سد الفراغ الذي وجد بوفاة النبي، وقبل وفاة الخليفة أبي بكر، وتحسبا لوقوع أزمة... أوصى لمن رآه مناسبا وهو عمر بن الخطاب، وكذلك اجتهد عمر عندما اقترح مجلس الستة ليتشاوروا فيما بينهم.

ولكن ابتداء من مقتل عثمان الذي كان فجأة، لم تتفاعل الصفوة مع الأزمة بما ينبغي أن يكون، وإنما انشغلوا بالبحث في الجرم الذي ارتكب في حق خليفة المسلمين، إذ دخل على الخط "ولي الدم"، مزاحما لولي الأمة، ثم فيمن يكون الأولى بالخلافة بعد ذلك، ثم بالموازنة بين الأهم والأقل أهمية، هل المطالبة بدم عثمان أولى؟ أن نصب الخليفة؟

قد يرى البعض أن هذا الكلام محاكمة لتلك المرحلة التي تعد من القرون الفاضلة بتزكية من النبي صلى الله عليه وسلم "خَيْرُ الناس قَرْني، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قَرْنِه: قرنين أو ثلاثة؟"[1]، والحقيقة ليست كذلك، وإنما هو تقييم لموقف الصفوة من الأزمة، الذي كان يقتضي التدخل بقوة بالبحث عن المخارج المناسبة، الذي لم يكن بالضرورة الحلولة التي وقعت وجرت عليها الأمة بعد ذلك إلى اليوم؛ بل لا يمكن للفكر السياسي الإسلامي أن يتطور، في إطاره المناسب له ووفق مراجعه الأساسية، إن لم يحلل هذه المرحلة ويفهمها في إطار ها ووفق طبيعتها التي وقعت.

وقبل بلورة تلك الطروحات الأربعة التي ذكرنا في حلقة سابقة، كانت هذه الصفوة من قيادات الأمة العلمية والثقافية، من الصحابة وكبار التابعين امام مفترق الطرق، في ظل تلك الفتنة العاتية، ورد الفعل الذي كان، الذي انقسموا فيه إلى ثلاث فئات: فئة اصطفت مع جماعة معاوية بن أبي سفيان، وفئة اصطف مع جماعة علي بن ابي طالب، وفئة ثالثة نأت بنفسها عن الوقوع في معاداة هذه الفئة او تلك، فرضي الله عن الجميع، ولكنهم لم يلتقوا على ما ينبغي أن يكون، الذي هو واقع الفراغ وخلو منصب الخلافة.

والدارس لتلك المواقف، لا يمكن أن يتصور انهم كلهم كانوا على صواب؛ بل لا بد من ان يكون بعضهم خاطئ في إطار إجتهاد مؤسس، ومواقف مبررة ذات علاقة بالاجتهاد في البحث عن الأفضل والأوفق والأكثر ملاءمة لواقع الأمة، أو ما ينبغي أن تكون عليه.

ولكن ما كان منتظرا من هذه الصفوة، ليس تلك المواقف التي تبنوها، والتي فرضت عليهم الانقسام إلى ثلاث فئات: موزعة على واقع مرير، فرض نفسه بالقوة، وإنما ما كان منتظرا منهم، هو البحث في المشكلة الجديدة وفق منظور الإسلام الكلي، وليس الوقوف عند جزئيات، المطالبة بدم الخليفة عثمان الذي تبنته القبيلة، بدل أن يسند إلى الأمة، أو بتسمبة الخليفة بناء على النسب والقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بالأحقية والفضل الذي تتقتضيه الكفاءة والأمانة والقوة، او بالابتعاد عن الساحة خوفا من الوقوع في المحظور.

فالمواقف الثلاثة لم تكن كلها على صواب؛ لأن المنطق لا يقضي بذلك، وإنما هناك موقف صح والباقي خطأ، والخطأ ليس إثما بطبيعة الحال وإنما هو خطـأ مجتهد يبقى موقعه بين المأجور والمعذور.

وهذا الموقف الثلاثي قد أسس لثلاثة توجهات أشرنا إلى بعضها فيما سبق، واستمرت هذه التوجهات إلى اليوم، كتيارات فكرية سياسية، وهي تيار الموالين للسلطة تبريرا للأمر الواقع، خوف الفتنة وتمزق الأمة، حتى أن أحدهم قال لا يجوز الخروج عن الحاكم وإن زنى وشرب الخمر ورأيته على المباشر على تلك الحال...!! وتيار ثاني هو تيار الخروج عن السلطة الجائرة، التزاما بمبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا عرف به الخوارج وتبنته مجموعات أخرى أقل غلوا وتطرفا، وفريق ثالث اعتزل الطرفين خوفا من الوقوع في المخالفات الشرعية، ولكل طرف من هذه الأطراف أدلته من الكتاب والسنة واجتهاد المجتهدين.

ولكن الموقف الأفضل كان في اختيار طريق آخر تماما، لا يلزم الصفوة بالخضوع للواقع، والاصطفاف إلى هذا الطرف أو ذاك، وإنما يفرض عليها ممارسة واجباتها بالأخذ بزمام المبادرة، لتجاوز الواقع المتنازع فيه، الذي يفرض على الناس واقعا شاذا على الاصطفاف لافرازات الواقع، الذي قد يحصر الأمور في اجتهادات قاصرة، مما تيفرض على الصفوة كسر قوالب هذا القصور، الذي لا يستطيع الخؤوج منه إلا أهل الاجتهاد من صفوة الأمة.

فمن الناحية النظرية، الأمر محسوم بالعودة إلى أهل الحل والعقد، لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء 59]، والمقرر أيضا وفق المنظور الإسلامي، أن العودة إلى أهل الحل والعقد، لا ينبغي أن تبدأ من المتنازعين من أرباب السلطة، وإنما تنطلق من العلماء والمصلحين، من صفوة هذه الأمة؛ لأنهم الأعلم بما يصلح الأمة، والأبعد عن السلطة مؤثراتها، اللهم إلا إذا كان ارباب السلطة من المجتهدين كما هو مشترط في الولاية العامة عند أهل العلم (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83]، والذين يستنبطونه إشارة إلى اهل العلم وليس أهل السلطة.

لا شك أن من أهل الحل والعقد رجال السلطة، لكونهم أهل تنفيذ، وهم المؤهلون للتأثير في الغير، إذ يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآم كما يقال، ولكن المعول عليهم في إيجاد الحلول لقضايا الأمة ومشكلاتها، حلولا علمية عادلة حافظة للإنسان كرامته، هم الخبراء والعلماء والمصلحون؛ لأنهم يمثلون الكتلة التي تمتلك من الصدقية ما ليس عند رجال السلطة، و"لعل هذا هو السر في حذف الفعل عند الأمر بطاعتهم وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، أما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية"[2]. فأطيعوا الله واحدة واطيعوا الرسول الثانية، أما أولوا الأمر فلم يتكرر معها الأمر "أطيعوا"؛ لأنه مرهون بطاعة الرسول، ولذلك كانت طاعة ولي الأمر مشروطة بالطاعة لا بالمعصية.

وعدم الانتباه إلى اولوية الرجوع للصفوة، وغفلة الصفوة نفسها عن واجباتها في مثل ما وقع في الفتنة، كلف الأمة الكثير، بحيث لا نزال ننظر في معالجاتنا للقضايا السياسية، بنفس الطروحات التي أسس لها زمن الفتنة، وهي عند الموالين أن كل سلطة باسطة لنفوذها –بالحق وبالباطل- لها شرعية تسمح لها بالإستمرار، فيجب عدم معارضتها خوفا من الفتنة، أما عند الذين يعيدون القضية إلى مربعها الأساس، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي رسالة الأمة الأساسية (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران 104]، فيرون أن الشرعية تستمد من مراعاة العدل والإنصاف والتعلق بالحق ومحاربة الباطل، وليس بمنطق القوة، اما الفريق الثالث الذي يرى اعتزال الفتنة، فيرى أن ما يقع بين المؤمنين من خلافات ونزاعات من الفتنة التي يجب الابتعاد عنها فقرروا أن الاعتزال أولى من الموالاة ومن المعارضة، لكون ذلك من فتنة، (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [النفال 25]، و"إذا رأيتَ الناسَ قد مرجت عهودُهم وخفَّتْ أماناتُهم وكانوا هكذا وشبَّك بين أصابعِه قال الراوي: فقمتُ إليه فقلتُ له: كيف أفعلُ عند ذلك جعلني اللهُ فِداك؟ قال: الْزَمْ بيتَك عليك لسانَك وخُذْ ما تعرفُ ودَعْ ما تنكرُ وعليك بأمرِ خاصَّةِ نفسِك ودعْ عنك أمرَ العامَّةِ"[3].
والمسألة السياسية في الأمة، من القضايا التي لا تنتظر، فهي قضايا آنية وسريعة، فإذا لم يوجد لها الحل المناسب في الزمن المناسب، فإنها تتحول إلى دَيْنٍ يثقل كاهل الأمة واجب القضاء؛ بل لا يسقط إلأا بالإتيان به، بل ربما أحدثت المشكلة مشكلات أخرى أخطر وأعمق، وذلك ما سنبحثه في الحلقة القادمة بحول الله.
اما الآن فنعود إلى أهمية الصفوة ودورها في التصدي لقضايا الأمة، وضرورة الابتعاد عن التأثير السلطوي والشعبوي أيضا؛ لأنها لا ينبغي لها أن تشعر السلطة بحماية العلم والعلماء من محاسبة الأمة لرجالها، ومن ناحية أخرى يكون الانشغال بقضايا الأمة بشكل أفضل وأكثر فاعلية، بعيدا عن التأثيرات الجانبية السلبية التي تفرضها السلطة أحيانا والواقع المتردي الذي يفرض منطق الأقل سوءا أحيانا أخرى، فينصرف النظر عن البحث في الأفضل والأولى والأحسن؛ لأن الأمة حينها لا تكون في مستوى الدعوة إلى الخير لأنها غير مؤهلة لذلك.
وعندما نقول إن الصفوة هي التي تمثل الثقل الحقيقي لأهل الحل والعقد، إنما نريد لفت الانتباه إلى الكتلة الحقيقية القادرة على التنظير للأمة واستنبات الحلول من الواقع انطلاقا من مثل عليا ثابتة، قررها القرآن الكريم ورسالة الإسلام بأفقها الإنساني، وحتى عندما نتكلم عن أهل الحل والعقد في الصدر الأول، وحصرها في الخلفاء الراشدين مثلا، فإن حصرها فيهم ليس بوصفهم حكاما ورجال سلطة، وإنما بوصفهم علماء وخبراء، ولذلك لما خرجت المسألة من أيدي هذه الصفوة، عجز الناس عن المبادرة بسبب فقدهم لمستوى من الرشد، ما كان له أن يغيب؛ لأنه المستوى الأقدر على التكيف مع الواقع والارتقاء به إلى المثل العليا التي تشربها من مصادره الأولى، كما تشرب الراشدون رشدهم من علاقتهم بالله ورسوله.
يتبع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.



[1]- رواه الشيخان وغيرهما عن عمران بن حصين رقم 6355 انظر جامع الأصول

[2] - انظر تفسير السعدي للآية 59 من سورة النساء

[3]- السلسة الصحيحة للأباني 1/414، انظر موقع dorar.net





التالي
نماذج عُلمائية مُلهمة (9): أبو موسى الأشعري رضي الله عنه
السابق
تهنئة الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بمناسبة عيد الفطر المبارك لعام 1445هـ/2024م

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع