البحث

التفاصيل

تفكيك منظومات الاستبداد (٣٠): أسطورة البقرة الحمراء ومخطط هدم الأقصى

الرابط المختصر :

تفكيك منظومات الاستبداد (٣٠): أسطورة البقرة الحمراء ومخطط هدم الأقصى

بقلم: أ.د. جاسر عودة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الحبر سعيد بن يوسف (أو سعديا غاؤون، المولود عام 268 هـ / 882 م بالفيوم والمتوفى عام 330 هـ / 942 م ببغداد) له ترجمة عربية للتوراة، انتقده عليها كثير من أحبار اليهود قديمًا وحديثًا واتهموه بالتأثر بالإسلام لأنه صحح فيها لون البقرة المذكورة في سفر العدد من التوراة استنادًا إلى الأصل العبراني -أي المكتوب بالعبرية القديمة- كما كتبوه بعد التحريف على أي حال، صححه من (بقرة حمراء) إلى (بقرة صفراء)، وهذه معلومة طريفة نظرًا لأن هذا التصحيح يدلنا على أن أحكام ذبح البقرة الحمراء التي افتروها والتي يريد الصهاينة تنفيذها بعد أيام أصلها قصة البقرة في سورة البقرة.

ويعرف المسلمون من قراءتهم للقرآن الكريم أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وكان مقصد الأمر هو إشهاد قوم موسى عليه السلام على آية من آيات الله في إحياء الموتى لعلهم يعقلون، قال تعالى: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون. قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون. وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون. فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون - البقرة ٦٩-٧٣).

وقد حرّف الكَتَبة القصة من تاريخهم في كتبهم التي كتبوها من بعد موسى عليه السلام بقرون طويلة، إلى أن وصلت إلى شذرات من القصص، أهم ما حرّفوه فيها -بالإضافة إلى لون البقرة- هو المقصد الأصلي للأمر بذبح تلك البقرة الصفراء، وحرّفوا كذلك القصة الأصلية حين تمالأ بنو إسرائيل على التكتم والتغطية على جريمة القتل التي يشير إليها القرآن، وتشظت القصة الأصلية إلى شذرات وجدها الباحثون في هذا الشأن في: التلمود البابلي، وكتاب المقدسات في المِشْناه (أي المُثَنَّاة)، وأسفار التكوين والعدد والتثنية في التوراة كما هي في صيغتها الحالية بعد التحريف.

أحبار اليهود المعاصرون من الصهاينة الغاصبين لأرض فلسطين يبنون على هذه القصة المحرفة خرافة (البقرة الحمراء) أو (بارا أدوما بالعبرية)، وذلك من أجل هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث. والقصة أن اليهود رغم احتلالهم العسكري لمدينة القدس كانوا يكتفون باقتحام باحة المسجد الأقصى فحسب كما هو معروف، دون أن يدخلوا المسجد نفسه لا لشيء إلا لأنهم يعتبرون دخوله صعودًا إلى (جبل المعبد) كما يسمونه، أي معبد أو هيكل سليمان عليه السلام الذي يدعون أن أثره يقع تحت المسجد الأقصى ويريدون إعادة بناءه على أنقاض المسجد الأقصى، حماه الله من كل سوء، والسبب عندهم أن ما يطلقون عليه (البقرة الحمراء) لم تولد بعد في أرض فلسطين، ولذلك فأحبارهم المعاصرون يحرمون على أي يهودي دخول المسجد الأقصى بناء على النجاسة المذكورة عندهم في سفر العدد كما كتبوه، وهذا نص ما كتبوه لمن أراد أن يعرف التفاصيل:

(وكلَّمَ الرّبُّ موسى وهرونَ فقالَ: هذِهِ فريضةُ الشَّريعةِ الّتي أمرَ الرّبُّ بِها: قُلْ لبَني إِسرائيلَ أنْ يأتوكَ بِبقَرةٍ حمراءَ صحيحةٍ لا عَيـبَ فيها، ولم يُرفَعْ علَيها نيرٌ، فتُعطونَها لألعازارَ الكاهنِ فيُخرِجُها إلى خارجِ المَحلَّةِ وتُذبَحُ أمامَهُ. فيأخُذُ ألِعازارُ الكاهنُ مِنْ دَمِها بإصبَعِهِ ويَرُشُّ بِاتجاهِ خَيمةِ الاجتِماعِ سَبعَ مرَّاتٍ. وتُحرَقُ البقَرةُ أمامَ عَينَيهِ بِـجِلْدِها ولَحمِها ودَمِها ورَوثِها. فيأخُذُ الكاهنُ عودَ أرزٍ وزوفى وصَبْغَ قِرمِزٍ ويُلقي ذلِكَ في وسَطِ حريقِ البقَرةِ. ثُمَّ يَغسِلُ الكاهنُ ثيابَهُ ويَستَحِمُّ بِالماءِ ثُمَّ يَدخُلُ المَحلَّةَ ويكونُ نَجِسا بِـحسَبِ الشَّريعةِ إلى المغيـبِ. والّذي يَحرِقُ البقَرةَ يَغسِلُ ثيابَهُ بِالماءِ ويَستَحِمُّ، ويكونُ نَجِسا إلى المغيـبِ. ويجمَعُ رَجُلٌ طاهرٌ رَمادَ البقَرةِ ويضَعُهُ في خارجِ المَحلَّةِ، في موضِعٍ طاهرٍ، ويكونُ مَحفوظا لِجماعةِ بَني إِسرائيلَ لأجلِ ماءِ التَّطهير. وتُحسَبُ هذِهِ الذَّبـيحةُ ذبـيحةَ خطيئةٍ. والّذي يَجمَعُ رمادَ البقَرةِ يغسِلُ ثيابَهُ، ويكونُ نَجِسا إلى المغيـبِ. تِلكَ فريضةٌ أبديَّةٌ لبَني إِسرائيلَ ولِلدَّخيلِ النَّازِلِ فيما بَينَهُم. مَنْ لمَسَ مَيتا مِنَ النَّاسِ يكونُ نَجِسا سَبعةَ أيّامٍ. ويتَطَهَّرُ بذلِكَ الماءِ في اليومِ الثَّالثِ وفي اليومِ السَّابعِ فيَطهُرُ وإنْ لم يتَطَهَّرْ يُنَجِّسْ مَسكِنَ الرّبِّ، فيُقطَع مِنْ إِسرائيلَ لأنَّهُ لم يُرَشَّ علَيهِ ماءُ التَّطهيرِ. فهوَ نَجِسٌ ونَجاسَتُه باقيةٌ فيهِ. وهذِهِ شريعةُ أيِّ إنسانٍ ماتَ في خَيمةٍ: كُلُّ مَنْ دخَلَ الخَيمةَ وكُلُّ مَنْ كانَ فيها يكونُ نَجِسا سَبعةَ أيّامٍ، وكُلُّ وِعاءٍ مَفتوحٍ خَلا مِنْ صَمَّامٍ مَشدودٍ فهوَ نَجِسٌ وكُلُّ مَنْ لمَسَ على وجهِ البرِّيَّةِ قتيلا بالسَّيفِ أو مَيتا ميتةً طبـيعيةً، أو لمَسَ عَظْمَ إنسانٍ أو قبرا، يكونُ نَجِسا سَبعةَ أيّامٍ، فيُؤخَذُ للنَّجِسِ مِنْ رَمادِ حريقِ ذبـيحةِ الخطيئةِ في وِعاءٍ ويُصَبُّ علَيهِ ماءٌ حارٌّ، ويَغمِسُ رَجُلٌ طاهرٌ زوفى في الماءِ ويَرُشُّ على الخَيمةِ وعلى جميعِ الأمتِعةِ والأحياءِ الّذينَ كانوا فيها، وعلى مَنْ لمَسَ العَظْمَ، أو القتيلَ بالسَّيفِ أو المَيتَ ميتةً طبـيعيَّةً، أو القبرَ. ويَرُشُّ الطَّاهرُ الماءَ على النَّجِسِ في اليومِ الثَّالثِ والسَّابعِ ويُطَهِّرُهُ في اليومِ السَّابعِ، فيَغسِلُ ثيابَه ويَستَحِمُّ بالماءِ فيَطهُرُ عِندَ المغيـبِ. وأيُّ رَجُلٍ تنَجَّسَ ولم يتَطَهَّرْ، يُقطَعُ مِنْ بَينِ الجماعةِ لأنَّه نَجَّسَ مَقْدِسَ الرّبِّ ولم يَرُشَّ علَيهِ ماءَ التَّطهيرِ فهوَ نَجِسٌ. هذِهِ لكُم فريضةٌ مدَى الدَّهرِ. والّذي يَرشُّ ماءَ التَّطهيرِ يَغسِلُ ثيابَهُ ومَنْ لامَسَ ماءَ التَّطهيرِ يكونُ نَجِسا إلى المغيـبِ. وكُلُّ ما يَلمَسُهُ النَّجِسُ يكونُ نَجِسا، وكُلُّ مَنْ لمَسَ النَّجِسَ يكونُ نَجِسا إلى المغيـب). [هذا النص من الترجمة العربية المشتركة].

وبناء على هذه النصوص وغيرها وصل أحبارهم في القرن الماضي إلى خرافة مفادها أنهم إذا وُلدت بقرة حمراء في فلسطين وذُبحت وأُحرقت فإن رمادها سيطهر ملايين اليهود من النجاسة المزعومة، ويمكّنهم إذن من صعود الجبل أي دخول المسجد الأقصى، وعندها سوف يقومون بهدمه -حسب كلامهم في الخرافة- لكي يبنوا الهيكل المزعوم مكانه، ولكن هذه البقرة الحمراء المزعومة لابد أن تكون خالية من العيوب، وهو ما يعني أن تكون ذات شعر أحمر تمامًا ليس فيه ولو شعرتين من أي لون آخر، وأن تكون بكرًا لم تحمل أبدًا ولم تحلب ولم يوضع برقبتها حبل وولدت ولادة طبيعية وربيت في ما يدعون أنها (أرض إسرائيل). هكذا حرّفوا قصة البقرة التي قصها الله تعالى في سورة البقرة.

وقالوا إن تلك البقرة إذا بلغت العامين صلح استخدامها في عملية التطهير برمادها بعد ذبحها وحرقها فوق جبل الزيتون في القدس، وأن يوضع الرماد المتبقي في إناء يحتوي على ماء يرش باستخدام أوراق من نبات الزوفا على أي شخص لامس البقرة من أجل تطهيره من النجاسة، ثم يغتسل الكاهن الذي ذبح البقرة بتلك المياه، ثم يصعدون إلى الجبل ويهدمون المسجد الأقصى ويبنون هيكلهم مكانه، ويؤمن بهذه الخرافة كذلك بعض المسيحيين من الإنجيليين خاصة في أمريكا ويساندوها بكل ما يستطيعون لأنهم يرونها بداية أحداث آخر الزمان، وذلك حتى يعود المسيح -عليه السلام- إلى الأرض المقدسة بعد بناء الهيكل كما يعتقدون، ولذلك فإن عددًا من المنظمات اليهودية -تدعمها منظمات مسيحية- على مدار القرن الماضي ظلوا يبحثون عن تلك البقرة ولا يفلحون في توليدها في فلسطين، إلى أن انتهى بهم الأمر مؤخرًا إلى توليدها بالهندسة الجينية في مزرعة بولاية تكساس الأمريكية حتى يحصلوا على لون الشعر الأحمر الخالص، ونجحوا في ذلك منذ سنتين، وجلبوا خمس بقرات -لا بقرة واحدة- بتلك المواصفات من ولاية تكساس إلى الأرض المحتلة في فلسطين استعدادًا لطقوس ذبحها وحرقها، والتي يحين موعدها -حسب كلامهم- بعد أيام، أو خلال عام ٢٠٢٤م على الأكثر، وقد بنت بعض منظماتهم شمعدانًا ضخمًا من الذهب الخالص ليوقدوه في الهيكل بعد أن يقيموه بعد هدم المسجد الأقصى -كما يزعمون على أي حال-.

ولنتأمل قول الله تعالى -وصدق الله العظيم- في نفس السورة: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم. قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون. ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين. الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون. الحق من ربك فلا تكونن من الممترين - البقرة ١٤٢-١٤٧).

فهل تسمح أمة الإسلام بهذا الهدم لأولى القبلتين ومسرى الرسول وثالث المساجد التي يشد إليها الرحال بعد الحرمين الشريفين؟ أم تقوم الأمة الشهيدة على الناس -كما قال تعالى عنها- بحماية مقدساتها والقيام بمسؤولية حمل راية الإسلام وحماية مقدسات الإسلام بما فيها قبلة الإسلام الأولى التي ورثتها منذ عصر الرسالة المحمدية على صاحبها الصلاة والسلام؟ الله المستعان.

 

——

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
مسيرات ليلية تجتاح المدن المغربية: تضامناً مع غزة ودعوة لوقف الإبادة الإسرائيلية في غزة
السابق
من غزوة بدر الكبرى إلى طوفان الأقصى المجيدة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع