البحث

التفاصيل

الشيخ المحلاوي.. صورة من قريب!

الرابط المختصر :

الشيخ المحلاوي.. صورة من قريب!

بقلم: فايز عبدالله النوبي

 

ترجل الفارس وقضى نحبه، ورحل إلى الدار الآخرة راضيًا مرضيًا -بإذن ربه عز وجل- بعد رحلة طويلة وعظيمة في الدعوة والجهاد، وحياة حافلة بالخير والعطاء للإسلام والمسلمين.

أنعى للأمة الإسلامية شيخنا المفضال العالم الجليل والمربي الفقيه، والشيخ المهاب الوقور، والداعية المجاهد الصادع بالحق والناطق بالصدق، صاحب الشخصية القوية الفذة المؤثرة، والهمة العالية والقلب الرحيم، حامل هموم الأمة الإسلامية في شبابه وكهولته وشيخوخته، الذي غرس في نفوس تلاميذه ومحبيه العزة والكرامة والإباء بانتمائهم للإسلام وعملهم له.

شيخي وأستاذي وتاج رأسي فضيلة الشيخ “أحمد عبد السلام المحلاوي” الذي لقي ربه راضيًا مرضيًا -بإذن الله عز وجل- فجر يوم الأحد التاسع والعشرون من شهر شعبان لعام 1445 للهجرة الموافق للعاشر من شهر مارس/آذار لعام 2024 للميلاد عن عمر يناهز التاسعة والتسعين.

فقد ولد -رحمه الله- في الأول من شهر يوليو/تموز عام 1925 ميلادية في قرية عزبة المحلاوي بمحافظة كفر الشيخ.

أتم حفظه للقرآن الكريم في كُتّاب قريته، ثم التحق بالدارسة الأزهرية بمعهد طنطا، والتحق بعدها بكلية الشريعة في القاهرة، وتزوج وأنجب وأدى فريضة الحج وهو ما يزال طالبًا جامعيًا، وأنهى دراسته في الكلية عام 1954م، وبعدها بعامين حصل على درجة تخصص التدريس الماجستير من كلية اللغة العربية، ليُعيّن بعد ذلك إمامًا وخطيبًا ومدرسًا في وزارة الأوقاف بمدينة البُرُلُّس بمسجد السطوحي.

واستمر فيها خمس سنوات، انتقل بعدها إلى محافظة الإسكندرية بناء على أمر وتكليف من وزير الأوقاف وقتها فضيلة الدكتور محمد البهي -رحمه الله- الذي وجد أن الشيخ المحلاوي من الأئمة النشيطين، والعلماء المتميزين، الذين ينبغي أن يَعُمَ النفع بهم، وتستفيد منه جماهير الإسكندرية فنُقِل إليها وعمل في مسجد سيدي جابر، الذي جعل منه الشيخ شعلة نشاط، استفادت منه جماهير غفيرة بالإسكندرية في النواحي كافة الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية والتعليمية للطلاب والتلاميذ، وكَوَّن مع بعض المخلصين من أساتذة الجامعة مشروعًا أطلق عليه اسم “الجامع والجامعة”، لمعاونة الطلبة ورعايتهم دينيًا وعلميًا وماديًا واجتماعيًا، وأسس الشيخ المحلاوي -رحمه الله- مع عدد من إخوانه وزملائه المخلصين: جمعية “علماء المساجد بالإسكندرية”، لتكون منبرًا ومؤسسة يتحرك من خلالها العلماء والدعاة، لخدمة الدين والوطن، ورعاية مصالح الدعوة والدعاة، ويُذْكَر للشيخ الجليل عمله وسعيه ونشاطه خلال رئاسته للجمعية للنهوض بالدعوة والدعاة، ويسّر اللهُ على يديه الحصول لعدد من إخوانه وزملائه الأئمة على شقق سكنية كان الشيخ بفضل الله -عز وجل- سببًا فيها بعد مقابلاته لبعض المحافظين، ولم يُطالب وقتها لنفسه بشقة سكنية رغم حاجته لذلك بسبب صغر مسكنه وضيقه.

قرار الإفراج

وبعد الإفراج عن قادة الحركة الإسلامية وأعضائها في بداية عهد السادات الذين تم حبسهم أيام الطاغية عبد الناصر، استقبلهم الشيخ المحلاوي وقَدّمهم في مسجده بسيدي جابر وخاصة قادة جماعة الإخوان المسلمين وأعضائها، الأمر الذي جعل الحاسدين للشيخ والحانقين عليه في النظام الساداتي أن يوشوا به لدى السلطة، فيَصْدُر قرار من السادات بنقله من الإسكندرية إلى محافظة  كفر الشيخ سنة 1977، ولم يُنَفذ الشيخ القرار، وتمسك بحقه في البقاء بمسجده وبين جماهيره إلى أن استقر الأمر بالحكومة أن تبقيه بمدينة الإسكندرية على أن ينتقل إلى مسجد القائد إبراهيم بمنطقة محطة الرمل -وهي منطقة راقية- في وسط الإسكندرية ومركزها المهم، وبجواره الكليات والجامعة، ومنظمة الصحة العالمية، ومعظم القنصليات الأجنبية والمحاكم، والمؤسسات والمكاتب الحكومية، وكذا المستشفى الأميري الجامعي الذي يَفِد إليه الناس من سائر الأقاليم زائرين وطالبين للعلاج، وخارج المسجد ميدان فسيح يسع الآلاف من الجماهير، فكان انتقال الشيخ لهذا المسجد بهذه المنطقة فاتحة خير ومصدر إشراق كبير له ولدعوته وجماهيره العريضة، وانطلق الشيخ يصدع بالحق ناصحًا للشعب والرئيس، وناقدًا للأوضاع الفاسدة ومطالبًا للحكومة أن ترعى أمور الناس وتعمل لمصالحهم، وأقام فضيلته كثيرًا من المؤتمرات والندوات الحاشدة في مسجده القائد، بالتعاون مع إخوانه في الحركة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين والوطنيين الشرفاء، وكذا زميله وصديقه الواعظ الجريء فضيلة الشيخ “محمود عيد” خطيب مسجد السلام ببوكلي -رحمه الله- واللذين كَوّنا ثنائيًا للدعاة الأحرار المخلصين الصادعين بالحق في الإسكندرية، أقلق النظام وأضج مضجعه، الأمر الذي جعل السادات ونظامه يَضِيق به ذرعًا، فصدر القرار بمنعه من الخطابة وإيقافه عن العمل، ثم اعتقاله قبل شهرين من أحداث سبتمبر عام 1981.

العودة للمنبر

وظل الشيخ في اعتقاله بسجن الاستقبال في طرة قرابة السنة، ثم أُفرج عنه في يوليو سنة 1982 في بداية عهد المخلوع حسني مبارك، واستمر منعه من العمل في المساجد والخطابة، وحاول المسؤولون في الدولة ووزارة الأوقاف إغراء الشيخ بقبول العمل مفتشًا أو مديرًا بالأوقاف، فأبى إلا أن يعود إمامًا وخطيبًا لمسجده القائد إبراهيم، ورغم حصوله على حكم قضائي بعودته للعمل لم يُنَفَذ الحكم إلا في نهاية عام 1984 بعد مجيء الدكتور محمد الأحمدي أبو النور -رحمه الله- وزيرًا للأوقاف، الذي التقى به الشيخ باستراحة الوزير في الإسكندرية، وطالبه بحقه في أن يعود لمسجده وجماهيره، وأظهر له صورة الحكم القضائي بأحقيته في العودة للعمل، فأجابه الوزير: لا مانع عندي من عودتك بشرط أن لا تهاجم أحدًا من الحكومة، فرد عليه الشيخ: أنا -ولله الحمد- إمام ملتزم بما يُمْليه عليّ ديني وضميري، وعملي ورسالتي تحتم عليّ قول الحق والجهر به ومحاربة الفساد والمفسدين، فوافق الوزير لا سيما والشيخ يحمل حكمًا قضائيًا، وطبعًا بمشورة الوزير مع  رجال الأمن الذين كانوا يعلمون أن الشيخ المحلاوي مع جرأته وصدعه بالحق وفضحه للفساد والمستبدين فهو أيضًا عالم صادق ورجل معتدل صاحب منهج وسطي، فهو عندهم أرحم من التكفيريين وحاملي السلاح على الدولة، فعاد الشيخ لمسجده وفرح أحبابه وتلاميذه بعودته وقدومه، فحملوه على الأعناق فرحين مستبشرين.

واستمر فضيلة الشيخ المحلاوي في مسجد القائد إبراهيم معلمًا ومربيًا للجماهير في الإسكندرية وفي مصر كلها، ومرشدًا وقائدًا للدعاة والأئمة المخلصين، وصادعًا بالحق ومفسرًا لكتاب الله -عز وجل- من خلال خطبه ودروسه، وساعيًا لقضاء حوائج المسلمين وعون الفقراء والمساكين من خلال ما يجود به الخَيّرون، وحتى بعد أن أُحيل للتقاعد استمر بالعمل في مسجد القائد إبراهيم لحاجة الناس إليه وتمسك الجماهير به، إلى أن أوقفه المخلوع حسني مبارك عام 1996، لكنه عاد للخطابة والتدريس في المسجد وقيادة الجماهير في الإسكندرية أثناء ثورة يناير المجيدة عام 2011، إلى أن وقع الانقلاب المشؤوم، فظل الشيخ في بيته بشقته المتواضعة  -غرفتين وصالة فوق السطوح بمنطقة كليوباترا- التي لم يُغَيّرها منذ مجيئه الإسكندرية عام 1963.

الانتقال إلى منزل ابنته

إلى أن أصرت ابنته البارة الفاضلة الدكتورة هدى وزوجها المحترم الدكتور محمد أحمد أن يقيم الشيخ والسيدة الفاضلة حرمه بمنزلهما في منطقة جليم لسعته، وحتى يمكن لأبناء الشيخ الكرام وبناته الفضليات من خدمة والديهم وحسن رعايتهم، وظل فضيلته بفضل الله -عز وجل- رغم بلوغه الثامنة والتسعين من عمره بكامل صحته وعافيته وذاكرته، يلتقي أحبابه وتلاميذه بمنزله، بل ويُلقي لهم درسًا أسبوعيًا في التفسير، ويرد من خلال الهاتف على أسئلة الجماهير واستفساراتهم، ويقضي ما استطاع من حوائج المسلمين، وأيضًا كانت تربط فضيلة الشيخ المحلاوي علاقة إخوة في الله، ومحبة عميقة بفضيلة العلامة الشيخ “يوسف القرضاوي” -رحمه الله- رغم أنهما لم يلتقيا سوى مرة واحدة في الدوحة عندما زار الشيخ المحلاوي أخاه العلامة القرضاوي في قطر أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، ورغم ذلك كنت أجد كلًا منهما يسأل عن الآخر، ويدعو له بخير ويطلب مني إن هاتفته أو قابلته إبلاغ التحية والسلام لأخيه.

ومن عجائب هذه المحبة وتلك الإخوة قول الشيخ المحلاوي لي في الشيخ القرضاوي: تمنيت لو صلح هذا التمني وهذا الدعاء وهو: أن يأخذ الله من عمري ويعطيه للشيخ القرضاوي، فإن النفع به أعظم وأشمل، والاحتياج إليه أشد لسعة علمه وتضلعه وتمكنه في الفقه والفتوى، وأذكر عندما نقلت هذه العبارات كما سمعتها وذكرتها لشيخنا القرضاوي -رحمه الله- رَقّ لسماعها وتأثر واغْرورقت عيناه بالدموع، وقال بعبارات فيها تأثر وبكاء: حفظ الله الشيخ المحلاوي وحفظكم وبارك فيكم.

ومن اقترابي من الشيخين الفاضلين بفضل الله -عز وجل- وجدت لديهما صفات وخصالًا عديدة مشتركة، أهمها العمل بالإسلام والعمل من أجل الإسلام، والإخلاص والجد في حمل أمانة الدعوة، والاهتمام بأمة الإسلام مع الجرأة في قول الحق والصدع به، والزهد والورع وعدم الحرص على الجاه والمنصب، والتواضع في عزة والمحبة للمسلمين، مع الحنو والاهتمام بالأحباب والتلاميذ، رحمهما ربي برحمته الواسعة.

الأبناء والأحفاد

وللشيخ المحلاوي -رحمه الله- سبعة من الأبناء ثلاثة ذكور وأربع إناث، وله من الأحفاد واحد وعشرون حفيدًا، أكبر أبنائه الأستاذ محمود المحلاوي وهو ضابط سابق بالقوات المسلحة تخرج في الكلية الحربية بداية السبعينيات، وتم فصله من الخدمة في عهد السادات عقب اعتقال والده، وأخرجوه للتقاعد برتبة النقيب، وهو يعمل الآن مديرًا للحسابات بإحدى الشركات في الإسكندرية، وأما ابنه الثاني فهو الأستاذ عبد الله المحلاوي خريج كلية العلوم، ويعمل مدرسًا للرياضيات في المدارس الثانوية، وقد أحيل للتقاعد منذ سنوات قريبة، والابن الثالث أحمد المحلاوي درس بالأزهر وتخرج في كلية اللغة العربية ويعمل في الإسكندرية، والإناث هن الأستاذة فاطمة خريجة كلية العلوم ومتزوجة من المهندس إبراهيم جلو الذي كان معلمًا وضابطًا في الكلية الفنية العسكرية، وتم فصله وقت اعتقال الشيخ أيضًا في عهد السادات، والابنة الثانية هي الدكتورة الطبيبة هناء المحلاوي تعمل طبيبة وزوجة الدكتور طبيب علاء أبو الحمايل، والثالثة الدكتور الطبيبة هدى المحلاوي وتعمل طبيبة وزوجة الدكتور طبيب محمد أحمد، والرابعة الأستاذة إيمان المحلاوي المحامية وزوجة المحامي الصعيدي السكندري عبد الحليم علام نقيب المحامين الحالي في مصر.

وتزوج الشيخ المحلاوي مرة واحدة في حياته من زوجته وحبيبة قلبه ورفيقة عمره، وأم أولاده السيدة الفاضلة الحاجة كريمة أم محمود -حفظها الله-، وأمدها بالصحة والعافية.

من قريب

وأحمد الله -عز وجل- الذي أتاح لي فرصة التتلمذ والقرب من الشيخ الجليل منذ أكثر من  أربعين عامًا، فقد عرفت الشيخ المحلاوي المعروف بعلمه وحركته ونشاطه، وسمته وقوة شخصيته، وطوله الفارع، فقد أعطاه الله -عز وجل- بسطة في العلم والجسم وقت أن كنت طالبًا في المرحلة الإعدادية والثانوية عندما كان يزور معهدنا الأزهري بسموحة، ويَفِد زائرًا لشيخ المعهد وقتها ابن محافظته كفر الشيخ فضيلة الشيخ محمد أبو اخوات -رحمة الله عليه-، ومتفقدًا  للطلبة والمعهد ومساهمًا في شراء المقاعد للطلبة من أموال الخيّرين الذي تَحَمّل أمانتها، وكان ما يزال يؤديها على خير وجه.

وتوطدت صلتي به، وزاد القرب منه بعد تخرجي وعملي إمامًا وخطيبًا في الإسكندرية، ومن فضل الله -عز وجل- أنه كان يُنيبُني في مسجده أثناء سفره وتغيبه، بل إنه كثيرًا ما رشحني أمام المسؤولين في الوزارة كي أَخْلُفه في مسجده بعد تركه له وتقاعده، وهذه ثقة اعتز بها وأحمد الله عليها.

زار شيخنا المفضال كثيرًا من دول العالم في أوروبا وأمريكا، ورافقته بفضل الله -عز وجل- في العديد من زياراته وسفرياته، خاصة وقد عُرِف الشيخ وذاع صيتُه عالميًا بعد أحداث سبتمبر عام 1981، وعقب خطاب السادات الذي سبّ فيه الشيخ ووصفه للأسف الشديد بأنه: “مرمي في السجن زي الكلب”، ولم يعش السادات بعدها سوى أيام قليلة، فنكَّل الله به وأصبح بعدها جيفة تعافها الكلاب.

رحم الله شيخنا المفضال -الذي نحسبه والله حسيبه من العلماء العاملين والزاهدين الورعين- فضيلة الشيخ أحمد المحلاوي برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

ورحمنا ربنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، وعوضنا والمسلمين في فقده خيرًا.

أعزي نفسي وأهله وأولاده ومحبيه.

والأمر لله من قبل ومن بعد وإليه تصير الأمور.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فايز عبدالله النوبي: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، مستشار شرعي بمركز شتوتجارت بألمانيا.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين؛ عوامل الفرقة وتحدّيات الوحدة(2)
السابق
الأمم المتحدة تعتمد قرارًا لمكافحة الإسلاموفوبيا بدعم واسع من الدول الأعضاء

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع