البحث

التفاصيل

الإنسان كائن متعلم وأخلاقي

الرابط المختصر :

ليتفكروا- المقال الــ(25): الإنسان كائن متعلم وأخلاقي

بقلم: بدران بن الحسن

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(سلسلة ليتفكروا- المقال الــ(24): "اقرأ" ركّزت قيمة العلم في ضمير المسلم)

 

إن القرآن الكريم يرسم لنا صورة واضحة جدا عن الانسان تتجاوز الصور الخرافية والاسطورية للكتب الدينية التي ورثتها البشرية محرفة، كما تتجاوز الصورة التي يرسمها القرآن عن الانسان ما رسمه له الفكر الإنساني المفارق للدين، وهي الصورة الفلسفية التي تختزل الانسان في بعده العقلي، فتراه كائنا عاقلا ولا تهتم بعد ذلك ببقية أجزاء الصورة وابعادها إلا عرضاً.

إن القرآن يعلمنا أن الانسان كائن متعلم، وكائن أخلاقي. في الآن نفسه. فكيف ذلك؟!

دعنا نضرب لذلك مثالا مما ذكره الدكتور جيفري لانغ (Jeffrey Lang)البروفيسور الأمريكي في الرياضيات، الذي يعمل حالياً في قسم الرياضيات في جامعة كنساس. فمنذ أيام كنت أستمع لمقطع على "اليوتيوب"  يتحدث فيه عن آيات من القرآن الكريم حددت مصيره الإيماني، ونقلته من الالحاد إلى الإيمان. وفي حديثه عن فهمه للآيات كان يركز كثيرا على ثراء المفردة القرآنية، وعلى تميز القرآن في أسلوبه إلى درجة الاعجاز والاقناع، وعلى أن معاني القرآن ثرية وجذابة بحيث كلما حاولت أن تتساءل عن أمر إلا وجدت القرآن قد مهد له الأرضية وجعلك تفهم سؤالك وتبحث عن الجواب الذي يعطيك معالمه.

والآيات التي ذكرها جفري لانغ هي الآيات المتعلقة بخلق الانسان وتكليفه بالخلافة في الأرض، وتساؤل الملائكة، ووسوسة الشيطان لآدم وزوجه وهبوطهم إلى الأرض، وتوبة آدم ورحمة الله به ومغفرته لزلته، وما يتميز به الانسان من خاصية التعلم، والإرادة، مما جعله كائنا متعلما وأخلاقيا. وهذا الذي نريد أن ننبه إليه في مقالنا هذا؛ أي تلازم العلم والموقف الأخلاقي لدى الانسان، بما يحدد مصيره على أحد النجدين، "إما شاكرا وإما كفورا".

وقد ذكر ذلك مفصلا في كتابه "الصراع من أجل الإيمان"، الذي وصف فيه رحلته من الإلحاد إلى الايمان. ومما يذكره في رحلته أنه وقف مصدوما متسائلا، لما وصل إلى الآيات من 30 إلى 37 من سورة البقرة وقف حائرا مصدوما مما وجده في القرآن، بحيث أنه جعله يراجع كل ثقافته الدينية المسيحية التي تربى عليها، والتي تصور أن حياة الانسان على الأرض على أنها عقوبة بسبب ارتكابه "الخطيئة الأصلية". ففي الوقت الذي تصور الثقافة الدينية المسيحية هبوط آدم من الجنة إلى الأرض عقوبة وطردا، فإن القرآن تحدث عنه باعتباره خليفة في الأرض؛ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، وحتى تساؤل الملائكة عن إفساد آدم وسفكه للدماء؛ (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، فإن القرآن يصور لنا الأمر أن تساؤل الملائكة مشروع، ولكن لو عرفوا السبب، فإن تعجبهم وتساؤلهم سيزول. فالملائكة تساءلت كيف تجعل فيها هذا الكائن الذي سيفسد فيها ويسفك الدماء، وكأنها تقول يا رب: لم تجعل فيها هذا المخلوق الذي يفعل الشر ولا يفعل الخير.

لكن كما يقول لانغ، فإن القرآن يجيب عن ذلك (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ).

فالله تعالى أخبر الملائكة انه يعلم عن هذا الانسان ما لم يعلموه هم. ولهذا فإن القرآن يتحدث عن "تعليم آدم الأسماء"، بما يشير إلى قدرة آدم على التعلم، ومعرفة الأسماء، وتشكيل اللغة. فهذه القدرات التي زود الله بها الانسان ستزيل تساؤل الملائكة وتعجبهم، وسيدركون أن هذه القدرة التي زود بها الانسان تستحق التكريم، ولهذا لما امرهم الله بالسجود للملائكة سجدوا بدون تردد.

وسيزداد الأمر وضوحا كما يقول لانغ حينما يرفض الشيطان السجود، تكبرا، بل ويوسوس للإنسان حتى يغريه بأن يخالف أمر الله لآدم بالامتناع من الأكل من الشجرة التي منع منها؛ (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ). والانسان بتعلمه سيدرك الحق والباطل، والصواب والخطأ، ولكن أيضا يملك الإرادة على فعل الخير أو الشر، كما يملك الإرادة على الامتناع عن فعل الخير أو الشر.

ولهذا فإن هذا الانسان المزود بقدرة التعلم، زلّ، واتبع وسوسة الشيطان، فاتخذ موقفا خطأ، وهذا يجعله يتحمل المسؤولية عن فعله، وهي الهبوط إلى الأرض، ولكن أيضا بإمكانه أن يستدرك، ويتخذ الموقف الصواب، ويتوب إلى الله، ولا يتبع وسوسة الشيطان؛ (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

بعبارة أخرى، وكما يقول لانغ، فإن تلك الآيات التي أوردناها، تبين لنا أن الانسان كائن تقوم حياته على العلم، وعلى الأخلاق؛ أي القابلية للتعلم والقابلية لتحمل المسؤولية بإرادته الحرة، وهو في ذلك إما يحقق الخير فلا يسفك الدماء ولا يفسد في الأرض كما تساءلت الملائكة، بل ينجز الخلافة، وإما يستجيب لإغراءات الشيطان فيصدق عليه إبليس ظنه، ويقع في الفساد والافساد. وكلا الاتجاهين مبنيان على الانسان، لأنه الذي له قابلية التعلم واتخاذ موقف أخلاقي.

فالإنسان كائن متعلم وكائن أخلاقي.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* بدران بن الحسن؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، باحث في مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية/ جامعة قطر.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
نماذج عُلمائية مُلهمة (5): الحسن بن علي الإمام العظيم والسبط الكريم
السابق
رمضان شهر الصبر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع