البحث

التفاصيل

حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أول شعبة من شعب الإيمان(1)

الرابط المختصر :

سلسلة خطبة الجمعة | حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أول شعبة من شعب الإيمان(1)

الأستاذ بن سالم باهشام

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

عباد الله، روى أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، عن أبى هريرة رضي الله عنه، والطبراني في الأوسط، عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). [حديث أبي هريرة: أخرجه أحمد (2/414، رقم 9350)، ومسلم (1/63، رقم 35)، وأبو داود (4/219، رقم 4676)، والنسائي (8/110، رقم 5005)، وابن ماجه (1/22، رقم 57)، وابن حبان (1/384، رقم 166). وحديث أبى سعيد: أخرجه الطبراني في الأوسط (9/20، رقم 9004)، قال الهيثمي (1/37): رجال إسناده مستورون]، هذا الحديث يبين لنا أن للإيمان شعبا حصرها الرسول صلى الله عليه وسلم في سبع وسبعين شعبة، إلا أنه لم يبين منها إلا ثلاثة فقط، والتي هي قول: “لا إله إلا الله“، و“الحياء”، و“إماطة الأذى عن الطريق”، وبهذا أعطى عليه الصلاة والسلام  في هذا الحديث وسيلة التربية القلبية التي هي: “لا إله إلا الله”، إذ بالإكثار من قولها يتجدد الإيمان، ووصف ثمرة الإيمان في خلق “الحياء”، وبعدها يتنزل عليه الصلاة والسلام إلى تلمس دلائل الإيمان في أسهل الأعمال وأبسطها ك“إماطة الأذى عن الطريق“. فهذه الثلاثة نماذج للسلوك الرباني النوراني: “لا إله إلا الله” ونورانيتها، وللتهذيب الوجداني: “الحياء” والخير الذي يأتي به، وللمشاركة الفعلية في الحياة العامة الجماعية: “إماطة الأذى” عن طريق المسلمين، وترك عليه الصلاة والسلام الشعب الباقية لاجتهادات العلماء، ليستقوها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

عباد الله، إنه لا يكفي جمع هذه الشعب عن طريق استقراء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل علينا ونحن في زمن الفتنة التي أصبح فيها المسلمون غثاء كغثاء السيل، أن نجتهد لمعالجة أحاديث شعب الإيمان عبر مستويين، وربطهما دوما بالفرد، وهو المستوى الأول، بمعنى كيف ينبغي للمسلم الفرد أن يتمثل حديث شعب الإيمان سلوكا في حياته الفردية؟ والمستوى الثاني، وهو على صعيد الجماعة المِؤمنة والأمة جمعاء، أي ما هو سبيل الأمة لتستفيد من أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام؟ وهذا من بين التجديد الذي يجب أن ينصب عليه اجتهاد العلماء في العصر الحالي، فكل حديث ينبغي أن يعمل به المسلم الذي يجب أن ينتمي بالضرورة إلى جماعة المؤمنين، وهذا ما يحث عليه الإسلام ويهدف إليه، تكوين جماعة مؤمنة.

عباد الله، إن أول عائق يعترض تقدم المسلمين في الدنيا، هو غياب تصور واضح المعالم، تصور يوضح بداية الطريق، ويبين المحطات الرئيسة، رغم وجود النبع الصافي الذي لا ينضب من قرآن ربنا الكريم، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم الطاهرة، واجتهادات علمائنا الأفاضل. وحديث شعب الإيمان، يبين لنا العين التي ينبع منها الإيمان، وجميع الشعب والفروع التي يحتاجها المسلم في علاقته بربه ونفسه ومجتمعه، لهذا ينبغي أن يكون سلوكنا على بصيرة واتباع، وأن تكون الدعوة دعوة إلى الله، لا مجرد دعوة للإسلام، أو مجرد دعوة للجهاد. فإن ذكر الغاية -وهي وجه الله تعالى- والتذكير بأن الأمر سير، وسلوك، ومراحل زمنية مداها عمر الفرد، واستمرار الرسالة إلى يوم القيامة، يعطينا تصورا متحركا للإسلام، يصور لنا الإيمان مجموع علاقات، بين العبد وربه، وبين العبد والناس، ثم بين جماعة المؤمنين المخاطبة بالقرآن، وبين سائر بني الإنسان، ثم يصور لنا معنى كل ذلك، ومعنى المبدأ والمعاد والدنيا والآخرة.

عباد الله، والآن نبدأ بأول شعبة من شعب الإيمان والتي هي: ” حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم” وهما أمران لا ينفصلان عن بعضهما مثل الشهادتين، يقول الحق عز وجل في محكم كتابه من سورة الليل: ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ).[الليل: 1 – 4]، في هذه السورة الكريمة؛ بدأها سبحانه بقسم، فأقسم عز وجل بهذه المخلوقات التي تدل على وحدة المُسيّر و المدبر، وعلى عظمته سبحانه، أما المقسم عليه، فهو أن سعي هذا الإنسان الذي هو سيد هذا الكون، والذي من أجله بعث الرسل عليهم السلام، مختلف في حقيقته، ومختلف في بواعثه، ومختلف في اتجاهه، ونتائجُه مختلفة كذلك، ورغم هذا الاختلاف، يمكن جمع أشتات هذا البشر المتباين في العالم كله، وفي كل زمان ومكان، في صفين متقابلين، وتحت رايتين عامتين:

* الصف الأول: هو صاحب الراية التي تحمل شعار الثلاثية الإيجابية، والتي هي:” العطاء، والتقوى والتصديق بالحسنى”.

* الصف الثاني: هو صاحب الراية التي تحمل شعار الثلاثية السلبية والتي هي: ” البخل، والاستغناء، والتكذيب بالحسنى”.

عباد الله، إنهما طريقان لا ثالث لهما:

* طريق يسلكه الذي يُعطي ويتقي ويُصدّق بالحسنى، فهؤلاء هم الذين بذلوا كل جهدهم لتزكية أنفسهم، فكان جزاؤهم العون من الله عز وجل، وتوفيقه الذي أوجبه سبحانه وتعالى على نفسه بإرادته ومشيئته، وبدون هذا العون لا يكون شيء، ولا يقدر الإنسان على شيء مهما بلغت قوته.

* وطريق يسلكه الذين يبخلون بأنفسهم وأموالهم، فهؤلاء هم الذين يستغنون عن ربهم وعن هداه، ويُكذّبون بدعوته ودينه، فكان نتيجة استغنائهم عن الله، توفيقهم إلى كل وُعورة، وحرمانهم من كل يسير، والانحراف بهم عن طريق الرشاد، فإذا بهم يُفسدون في الأرض، ويُهلكون أنفسهم، وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا، في حين أن الله يصعد بهم في طريق الشقاوة نتيجة استغنائهم، فإذا بهـــم وهم في طريقهم؛ يعثرون؛ ويتقون العُثار بعثرة أخرى تبعدهم عن طريق الله وعن رضاه، فإذا سقطوا في نهاية العثرات والانحرافات، لم يغن عنهم ما استغنوا به عن الله شيئا، لقـــــد بخلوا بأنفسهم عن الله، فباعوها للشيطان، وبخلوا بأموالهم عن الله، فضيعوها في الشهوات.

عباد الله، إن كل الناس على وجــه هــذه البسيطة؛ يسعون وينفقون ويتعبون من أجل السعادة، إلا أنهم يختلفون في الدافع، فصفُّ الذي يعطي ويتقي ويُصدّق، دافعه حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما صف الذي يبخل عن الله، ويعطي لغير وجه الله، ويستغني عن الله، ويطلب غير الله، ويتذلل لغيره، فدافعه حب الدنيا وشهواتها، قال تعالى في محكم كتابه في سورة البقرة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ؛ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ). [البقرة: 165].

عباد الله، إنهما صنفان:

* صنف مشرك بالله: وليس المراد بالشرك هنا سوى محبةِ وتعظيم غير الله، إذ لم يدّع أحدٌ أن غير الله خلق شيئا، ودافع هؤلاء في السعي هو حبهم لهذه الأنداد.

* وصنف مومن بالله: لا يحبون شيئا مثل حبهم لله، لا أنفسهم ولا أشخاصاً ولا اعتبارات، ولا قيمــــــا مــــــن قيم هذه الأرض التي يتكالب الناس عليها ويتنافسون.

عباد الله، إن كل الأعمال التي يقوم بها الإنسان؛ خيرا كانت أو شرا، هي بمثابة بنيان، فمن أراد علو

بنيانه، فقبل إصلاح العمل، عليه بإحكام أساسه أولا، فالأعمال والدرجات بنيان، وأساسها الإيمان، ومتى كان الأساس وثيقا، حمل البنيانَ واعتلى عليه، وإذا تهدم شيء من البنيان؛ سهل تداركه، أما إذا كان الأساس غير وثيق، لم يرتفع البنيان ولم يثبت، وإذا تهدم شيء من الأساس؛ سقط البنيان كله أو كاد، قال تعالى في سورة التوبة : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ؛ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). [التوبة: 109].

 فيا عباد الله، احملوا بنيانكم على قوة أساس الإيمان – والإيمان شعب – كما جاء في حديث شعب الإيمان، واعلموا أنه لا اعتبار للعمل الصالح دون إيمان، فهاهم الكفار، يعملون بعض الصالحات، ولكن دون أساس الإيمان، وبهذا يضيع عملهم، ولا ينالون إلا بعض الثناء الدنيوي الزائل على أعمالهم الصالحة، أما الجزاء الأوفى، والنعيم المقيم، فليس لهم حظ منه، قال سبحانه وتعالى في حقهم في سورة الفرقان: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا). [الفرقان: 23].

عباد الله، اعلموا أن الأساس إذا كان قويا ومتينــــــا، سهل تدارك البنيان إذا تشعث شيء من أعاليه، أو سطحه، وكان ذلك أسهل من خراب الأساس، ولب هذا الأساس أمران:

أولا: صحة المعرفة بالله تعالى وأمره وأسمائه وصفاته.

ثانيا: تجريد الانقياد له سبحانه وتعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أوثق أساس أَسّس العبد عليه بنيانه، وبحسب هذا الأساس يرتفع البنيان.

عباد الله، إذا نظرتم إلى الواقع المعيش؛ فستجدون الكثير من الناس يُعرضون عن أوامر الله تعالى، ويستجيبون لأوامر غيره، يدّعون محبة الله باللسان، ويحبون غيره بالجَنان، والسبب في ذلك هو هشاشة الأساس القائم عليه البنيان، والذي هو الإيمان بكل أركانه الستة، وشعبه السبع والسبعين، إذ لو عرفنا عن الله ما نعرفه عن غيره؛ ما اتخذنا عليه شريكا.

عباد الله، إن القلوب إذا كانت مفطورة مجبولة على حب من أنعم عليها، وأحسن إليها، فإن الشخص يحب كل من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفا منقطعا، كما يحب من أنقذه من مهلكة أو مضرة، فما بالك بمن منحه منحا لا تَبيد ولا تزول، ومَن كل الإحسان منه سبحانه عز وجل، إذ ما بخلقه من نعمة فمنه وحده سبحانه، قال تعالى في سورة النحل: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ* ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)، [النحل: 53، 54] – فعطاؤه وعدله وفضله وبـره ورحمته وإحسانه وستره وعفوه وحلمه وصبره على عبده، و إجابته لدعائه، وكشف كربه من غير حاجة منه إليه، بل مع غناه التام عنه، كل ذلك داع للقلوب إلى محبته سبحانه وتعالى، ولكننا ويـــا للمصيبة، نجهل عن الله ما يجعلنا نرد أوامره، ونرفض تعاليمه، ونعرض عن هديه سبحانه وتعالى؛ رغــم مــا فيــه مــن السعادة والتكريم للبشرية، قال تعالى في سورة طه:(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى )، [طه: 123، 124].

عباد الله، لقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: (لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقا إليّ. وتقطعت أوصالهم من محبتي، يا داود؛ هذه إرادتي في المدبرين عليّ، فكيف إرادتي في المقبلين علي؟). [ذكره ابن القيم رحمه الله في “روضة المحبين” (ص 438)، وصدره بقوله:”وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام … ” فذكره .

وتصديره بهذه الصيغة (قيل)، مُشْعِر بأنه لا يعلم له أصلا يعتمد عليه فيذكره. وكذا ذكره ابن الجوزي رحمه الله في “التبصرة” (1/34)، و “المنثور” (ص3)، والغزالي رحمه الله في “الإحياء” (4/326)، والقشيري رحمه الله في “رسالته” (2/499)، وصدره أيضا بقوله : ” وقيل ” .، ولم يعلق عليه الحافظ العراقي في تخريج ما في الإحياء من الأخبار، ولعله مأخوذ من الإسرائيليات، وهذا الباب يترخص فيه العلماء بذكر مثل هذه الآثار ، والتي – عادة – ينقلونها عن أهل الكتاب].

عباد الله، إن معنى حبكم للشيء، هو ميلكم له بكليتكم، ثم إيثاركم له على أنفسكم وأرواحكم وأموالكم، ثم موافقتكم له سرا وجهرا، ثم علمكم بتقصيركم في حبه.

عباد الله، اسألوا أنفسكم، وحاسبوها قبل أن تحاسبوا، هل ملتم إلى الله بكلتيكم حقا وصدقا، وفضلتموه سبحانه وتعالى على أنفسكم وأرواحكم وأموالكم؟ وهل تمت موافقتكم له سرا وجهرا دون اعتراض منكم؟ ثم هل علمتم رغم ما بذلتموه من عمل صالح؛ أنكم مقصرون في حبه، أم أنكم تدعون محبة الله باللسان، وحالكم يكذب ادعاءكم؟

فيا عباد الله، لا تخدعوا أنفسكم وتدّعون ما ليس فيكم، فتُحرَمون من لذة الإيمان الذي لا يذوق طعمه إلا من كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما، لهذا فإن أول شعبة من شعب الإيمان لبناء الفرد والجماعة والأمة والإنسانية جمعاء، هي حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، دون تفريق بين حب الله وحب رسوله عليه الصلاة والسلام.

عباد الله، تعالوا بنا لنتعرف علـــــــى الأسباب التي تتحقق بها محبة الله عز وجل، أولا، كما جاء في كتاب بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي، وبعدها نتحدث عن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أولا: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، و التفطن لمراد الله منه، والقرآن الكريم مملوء بذكر مـــن يحبه الله سبحانه مـــــن عباده، من ذلك قوله تعالى في سورة البقرة والمائدة: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، [البقرة: 195]، [المائدة: 13]، وقوله تعالى في سورة آل عمران، والمائدة: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، [آل عمران: 134]،[آل عمران: 148]،[المائدة: 93]، وقوله تعالى في سورة الصف: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)، [الصف: 4]. وقوله تعالى في سورة التوبة: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة: 4] [التوبة: 7].

ثانيا: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصل إلى درجة المحبوبية بعد المحبة، جاء في صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: (مَنْ عَادَى لِيْ وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِيْ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ ِإِلَيَّ عَبْدِيْ بِشَيْءٍ أَحَبَّ ِإِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ ِإِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ….) الحديث. [أخرجه البخاري 8/131 (ح 6502)].

ثالثا: دوام ذكره سبحانه على كل حال: باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيب المحب من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.

رابعا: إيثار محابه سبحانه على محابكم عند غلبات الهوى.

خامسا: مطالعة القلب لأسمائه سبحانه وصفاته ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، أحبه سبحانه لا محالة.

سادسا: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة فإنها داعية إلى محبته.

سابعا: وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليتـه بــين يديه سبحانه.

ثامنا: الخلوة به سبحانه وقت النزول الرباني، أي وقت التجلي الرباني، وهو في الأسحار قبل الفجر، وذلك بمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقالب والقلب بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة، قال تعالى في سورة الذاريات: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). [الذاريات: 17، 18].

تاسعا: مجالسة المحبين الصادقين، قال تعالى في سورة التوبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)، [التوبة: 119]. والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، وأن لا يتكلم – أي المحب – إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلم أن فيه مزيداً لحاله. وفي صحبة هؤلاء المحبين الصادقين، والحرص عليها، وحبهم، إنهاض للحال. واقتصار للطريق الموصل إلى الحق عز وجل، وتيسير لتحقيق الأسباب السابقة الذكر.

عاشرا: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل. ومع كل هذه الأسباب؛ يُكثر الفرد من الدعاء الذي هو مخ العبادة، روى أبو نعيم في الحلية، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ كـــــان يقـــــول: “اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي والماء البارد”، [أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/226)، وأخرجه أيضًا: الديلمي (3/271، رقم 4810)].) [من كتاب بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 2/421-422 بتصرف].

عباد الله، بهذه الأسباب، وصل المحبون إلى منازل المحبة، فأحبوه سبحانه وتعالى أولا لنعمه عليهم، روى أبو نعيم في الحلية، عن ابن مسعود رضي الله عنه، والعسكري في الأمثال، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها)، ثم بعدها أحبوه سبحانه لأنه هو الله.

عباد الله، أما علامات محبة العبد لمولاه، فسنقتصر على ستة منها:

أولا: تقديم أمور الآخرة، وكل ما يقرب من الحبيب على أمور الدنيا.

ثانيا: إيثار محبة الله على هوى النفس.

ثالثا: اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ونهى عنه.

رابعا: الخضوع لأوليائه من العلماء بالله العاملين له.

خامسا: التعزز على أبناء الدنيا المؤْثِرين لها دون كبرياء، كما أمر الله حبيبه صلى الله عليه وسلم  في قوله تعالى في سورة المزمل: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا). [المزمل: 8].

سادسا: ألا يخاف في حبه لومة لائم، ولا مدح مادح، وقد وصف أبو الحسن أحمد بن الحسين، سبيل الحب لله في قوله: ( سمعت أبا عبد الله أحمد بن عطاء الرزباري يقول: العلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص فيه، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله تعالى، ويدني من الحب).

عباد الله، أما العلاقة بين العبادة  وحب الله عز وجل، فيقول الحق عـــــز وجـــــل في ســــورة الذايات: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ). [الذاريات: 56 – 58]، وأصل العبادة كما قال ابن القيم رحمه الله وغيره: (محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب سواه، وإنما يحب لأجله وفيه)، وقال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين في المجلد الأول: (والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل و الخضوع، والعرب تقول: طريق معبد؛ أي مذلل، والتعبد: التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعا له، لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابدا له حتى تكون محبا خاضعا).

عباد الله، إن حب الله عز وجل هو أساس الدين كله، قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين في المجلد الثالث عن المحبة: (وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها)، وليست مسألة حب الله عز وجل من المسائل التي للعبد عنها غنى، أو منها بد، كدقائق العلم والمسائل التي يختص بها بعض الناس دون بعض، بل هي فرض على كل مسلم ومسلمة،  كما قال ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين، وباب السعادتين: (بل هذه مسألة تُفرض على العبد، وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل في الداخل إلا بها، ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها، فليشغل بها العبد أو ليعرض عنها، ومن لم يتحقق بها علما وحالا وعملا، لم يتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله، فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون، وقصر عن علمه الجاهلون، فإن الإله هو المحبوب المعبود)، لهذه الأسباب؛ كان البدء بهذه الشعبة في سلم الأولويات، فمن شعب الإيمان وبها، بدأنا أساسنا الذي نقيم عليه بنيان أعمالنا، وهي قطب رحى الدين الذي عليه مداره، وإذا صحت؛ صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد، فالفساد لازم في علومه و أعماله و أحواله و أقواله، فمحبة الله هي رأس الأولويات، فعليها نبحث، وفيها نتذاكر، وعن أسباب تحقيقها نفتش، وعن السبيل الموصل إليها نسعى بدل أن نخوض فيما يفرق صفنا، ونضيع أوقاتنا فيما دونها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.





التالي
مغاربة يشاركون في وقفات احتجاجية داعمة للمرأة الفلسطينية ومطالبة بوقف الحرب والعدوان الإسرائيلي على غزة
السابق
مدينة تورونتو الكندية تحتضن فعاليات أسبوع مقاومة "الأبارتهايد الإسرائيلي".. نضال من أجل العدالة الفلسطينية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع