البحث

التفاصيل

معركة الطوفان و"الإدارة بالأزمات"!

الرابط المختصر :

معركة الطوفان و"الإدارة بالأزمات"!

بقلم: رانية نصر

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

ما زلنا في خضمّ الحديث عن نفوذ الإعلام كأداة رئيسة في عملية الحروب النفسية، وكثيراً ما تلجأ الدول التي تدّعي أنها تتمتع بأفق كبير من الحرّيات والدّيمقراطيات للحروب النفسية لتقويض الرّأي العام وتوجيهه؛كنوع من التّحايل والتّغلّب على الأساليب التقليدية -والتي باتت مكشوفة- في السيطرة على الشعوب وللتّحكّم فيها، وهذه الحروب النّفسيّة ما هي إلا نوع من أنواع الممارسات الاستبدادية الخفية وصولاً للهيمنة الفكرية والثقافية.

وضمن سياسة حرب الأفكار والكلمات؛ تُسلّط هذه الأنظمة أذرعها الإعلامية الخبيثة لصالح أجندتها، ومن ذلك ذراع الدّعاية Propaganda ، والبروباجندا كلمة لاتينية الأصل وتعنى عرض المعلومات بهدف التأثير على المُتلقّي، وتُستخدم اليوم في السياسة والحرب والتّسوق والحملات الدّعائية، وتُعرف كذلك بأنها نشر المعلومات بطريقة موجّهة أحادية المنظور للتأثير على أفكار وسلوك أكبر عدد من الأشخاص، وتتصف ببعدها كل البعد عن الموضوعية، وغالباً ما تعتمد على الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

وعرّفها مؤسس الاتجاه السياسي في علوم الاتصال هارولد لازويل: "بأنها التّعبير المدروس عن الآراء أو أفعال أفراد أو جماعات أخرى، وذلك من أجل أهداف محدّدة مسبقاً ومن خلال تحكّم نفسي"، فهي تستند إلى الجانب النفسي ابتداءً وأساساً، وعادةً ما تعتمد على التّضخيم والتّضليل والكذب واجتزاء الحقائق، ويتفرّع عن الدعاية أيضاً أساليب مُلتوية تستهدف تهديد مساحة الأمن النفسي والاجتماعي لدى الجمهور، ومن هذه الأساليب ما يُسمى بـ"الإدارة بالأزمات".

 فن "الإدارة بالأزمات" هو خلق أزمة وهميّة مُفتعلة والعمل على تضخيمها لإثارة مخاوف الناس بما يُهدّد حياتهم وأمنهم واستقرارهم، أو لفت انتباه الجمهور عن أزمة حقيقيّة قائمة تمسّ بمصالح القائم بالدّعاية سواء تمثلت بالحكومات والمؤسسات أو الأشخاص والأفراد؛ إلى أزمة أخرى مُصطنعة وذلك في محاولة للتّغطية عن الأزمة الحقيقة، وهو ما يُعرف كذلك بعلم "صناعة الأزمة"، أو "إفتعال الأزمات".

تأثر إدوارد بيرينز "العرّاب الأول للخداع الإعلامي" بأفكار خاله عالم النّفس التحليلي سيغموند فرويد، وطورها في مجال الإعلام والّدعاية للسيطرة على الرّأي العام، ويُعد بيرينز أحد أهم المُنظّرين لمنهج هندسة العقل والتحكم في الجمهور والتأثير على العقل الباطن واللاوعي عبر مخاطبة غرائزه من خلال فهم حاجاته النفسيّة والسلوكيّة، يقول إدوارد بيرنيز: "التّلاعب بالجماهير الواعي والذكي بالعادات المُنظمة وبوجهات نظر الجماهير هو عنصر مهم في المجتمع، أولئلك الذين يتلاعبون بآلية المجتمع الخفيّة يشكلون حكومة غير مرئية هي القوة الحاكمة الحقيقية لحياتنا"!

وأكثر ما يُنقل عن هذا الرجل نجاح حملاته الإعلامية "الخداعية" وانطلائها على عامة الجماهير من خلال التأثير غير المباشر "توظيف عنصر ثالث مؤثر"، فبسببه انتشر تدخين السجائر بين النساء عام 1929، حيث ساعد في كسر هذا الحاجز الاجتماعي، وحيث كانت تُمنع النساء وقتئذ من التدخين في الأماكن العامة، ومن تخالف هذا القانون الأخلاقي تُعرّض للاعتقال والسجن!

قام بيرنيز بالاتفاق مع بعض العارضات المستأجرات "وهن العنصر الثالث غير المُباشر لعملية التأثير"، على الخروج في عيد الفصح في مدينة نيويورك عام 1929 وهو من أشد الأيام ازدحاماً بالناس وقتئذ، على أن يحملن "مشاعل الحرية" في يد، ويقمن بالتدخين في اليد الأخرى هاتفات بشعارات الحرية للنساء، ولم يكتفِ بذلك بل اتفق مع الصحافة على أن تغطي هذه المظاهرة وتكتب عنها في اليوم التالي في كافة الجرائد والصحف، وبالفعل تحقق ما أراده انتشر الخبر بين النساء كانتشار النار في الهشيم، تأثرت الجماهير النسائية بهذا الخبر وتجرأن بالخروج للمطالبة بحقوقهن في حرية الممارسة وبتغيير القوانين المُجحفة بحقهن والمساواة بالرجال (وفي هذه الحقبة كانت بداية ظهور التيار النّسوي)، وتم على إثر هذه الأزمة الكُبرى المُفتعلة تغيير القانون ليسمح للنساء بالتدخين في الأماكن العامة إلى يومنا هذا!

تحققت مكاسب صاحب شركة السجائر الذي لجأ لبيرينز طالباً منه حلاً لتغيير هذا القانون لتزيد أرباحه، وقد كان من خلال خداع النساء بشعارات حرية المرأة والنضال من أجل الحقوق!

ما زالت أفكار بيرينز تحيا بيننا، فهذه القنوات التي يتم استخدامها كعنصر غير مباشر "العنصر الثالث" للتأثير في الجماهير تؤدي دوراً مهماً في عملية تشكيل الرأي العام وتزييف الوعي والتلاعب بالعقول من خلال افتعال الأزمات لصرف الناس عن أحداث أكثر أهمية وخطورة.

ونحن نعيش اليوم أزمة من أكبر أزمات الإمة الإسلامية، وأشرسها على مرّ التاريخ على يد العدو الصهيوني بحق أبناء الشعب الفلسطيني، لا نكاد نجد قناة أو إذاعة تلفزيونية إلا وقت امتلأت شاشاتها بالأخبار والتحليلات والمقابلات لتغطية الوضع المأساوي والكارثي في غزة!

تتّحد المؤسسات الإعلامية العالمية والمحلية اليوم على تغطية هذه الأحداث؛ حيث تجاوزت هذه الحرب أفق الاصطفافات والانتماءات الأيدلوجية والحزبية، اتحد العالم على إنسانية الكارثة ومشروعية الشعب الفلسطيني في مقاومته للمُحتل والدّفاع عن أرضه وعن حقه في الوجود، في ظل هذا الإجماع العالمي؛ نجد قنوات عربية تشذّ وتنحرف عن هذا الائتلاف الوجداني والإنساني والحقوقي مُغردةً خارج السرب من خلال نشر مواضيع لا قيمة حقيقية لها سوى الإثارة وصرف انتباه الناس عن هذا الحدث العالمي الضخم!

تنتهج بعض القنوات سياسة "الإدارة بالأزمات" تلبية لسياساتها التحريرية والتي تُملى عليها ممن يُمولها أو يسيطر عليها؛ سواء من قبل دول أو حكومات أو أشخاص، ففي الوقت الذي تلتفت فيه شعوب العالم إلى غزة المكلومة وأطفالها الذين يموتون كل يوم جوعاً وعطشاً؛ يتم طرح وعرض قضايا هامشية لا تحمل أي قيمة فكرية أو معنوية إسلامية أو إنسانية سوى الإثارة الرّخيصة.

ومن ذلك -على سبيل المثال- ما طرحته مؤخراً قناة عربية موجهة -أجندتها السياسية والإعلامية مكشوفة- من مقاطع مصورة لزوجات من يدعى "بالبغدادي"، ضمن سياسة الإدارة بالأزمات لتحقيق أهداف مُزدوجة، منها:

الهدف الأول: إعادة تشويه الدّين الإسلامي بعدما اشتد بريقه في أعين شعوب العالم ولامس نوره قلوبهم بعد أحداث طوفان الأقصى، مما دفع آلاف الناس لاعتناق الإسلام، فعندما تتحدث نساء هذا الرّجل عنه بازدراء واستياء وبوصفه أنه لم يفهم من الدّين سوى الزواج والتعدد واتخاذ السبايا، وأنه كان يسعى لتأسيس دولة النساء لا دول الخلافة، ويصفنه بالإنسان الوحشي الذي لا يفكر إلا بنفسه، فتحاول هذه القناة في هذا الوقت البالغ الحساسية؛ أن تقارب صورة هذا الرجل الذي حاد عن جادة صواب الشريعة بهذه السلوكيات غير المنضبطة والمُشوهة للدين الإسلامي حيث ارتبطت صورته في الذهنية الجمعية الغربية بالإسلام المتطرف؛ تحاول أن تقارب صورته بصورة رجال المقاومة الذين يجاهدون في الثغور دفاعاً عن المقدسات الإسلامية سعياً لصرف الرأي العام عن تضامنه ودعمه للفلسطينيين ومقاومتهم، فهي بذلك تريد اجترار صورة الإسلام الإرهابي في العقلية الغربية، والذي يهين المرأة ولا ينظر لها إلا باعتبارها مصدراً للمتع والشهوات دون احترام إنسانيتها وفكرها!

الهدف الثاني: إثارة وتحفيز النساء والرجال نحو مسألة التعدد والسّبايا، هذه القضية الجدلية عبر التاريخ، فهي من شأنها إثارة غضب النساء وفضول الرجال لمعرفة المزيد عن حياة هذا الرجل الغامضة وإشغالهم بتفاصيل حياته التي انقضت وانتهت وأغلق ملفها بموته، وبالتالي صرف الانتباه عن القضية الأهم والأساس المسجد الأقصى وفلسطين وغزة.

والنماذج والأمثلة كثيرة التي تنتهجها مثل هذه المؤسسات الإعلامية المُوجّهة لإدارة الأزمة بافتعال أزمات أخرى رديفة تحقق الأهداف من خلال غسل الأدمغة والتلاعب بالوعي الجمعي من خلال إشباع حاجاتهم ورغباتهم النّفسية.

كلمة أخيرة؛ صناعة الوعي وإدراك خبايا هذه الحروب الخفيّة تحتاج ليقظة دائمة واتّقاد ذهن وعمل دؤوب وجهود مشتركة تنطلق من الإحساس بالمسؤولية الدينية أولاً ثم المجتمعية والأخلاقية والوطنية نحو حماية حصون الإسلام لمن يقف على الثّغور الفكرية ويقوم بحمايتها والدفاع عنها.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 





التالي
تفكيك منظومات الاستبداد (29): خطر المنافقين في مواقع البطانة والحكْم
السابق
تونس.. تنسيقية عائلات موقوفين معارضين تندد بمحاكمات التعسف وتطالب بإطلاق سراح أقاربهم

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع