البحث

التفاصيل

صدق أو لا تصدق.. هذا ما يحدث في "أفغانستان الجديدة"

الرابط المختصر :

صدق أو لا تصدق.. هذا ما يحدث في "أفغانستان الجديدة"

بقلم: د. ياسين أقطاي

أكاديمي وسياسي وكاتب تركي

 

ترسل لنا أفغانستان الجديدة رسالة أمل ملهمة، تدعم إصرار أولئك المقاومين والمناضلين من أجل الحريّة، وترينا كيف أن طريق التغيير يبدأ بطرد الاحتلال.. كما تقدّم لنا كذلك درسًا في خطورة الصور النمطية التي يتمّ بيعها لنا، لإضعاف ثقتنا في الذات، وتقديم الصّديق في صورة عدوّ، والطيّب بوجه شرير.

كنتُ قد أشرت في مقالي السابق إلى هذه الرحلة الأولى من نوعها التي قدّر لي أن أقوم بها إلى كابل في وقت يتصاعد فيه استبسال المقاومة في غزة. واليوم، أحكي أكثر عما رأيته في هذا البلد الذي أفلت للتو من احتلال دام 45 عامًا تعاقبت فيه دول كبرى.

التعامل مع مشكلة صناعة المخدِّرات، والنجاح في تجفيف هذا القطاع بسرعة يعدان أيضًا من أبرز معالم النجاح في تجربة طالبان الجديدة

وسيكون غريبًا أن نعلم أن الموضوعين اللذين يتصدران أولويات الحكومة الحالية (حكومة طالبان)؛ هما: التنمية الاقتصادية، وتوفير بيئة تشجّع على الحد من الهجرة من البلاد. يبدو هذا مدهشًا مقارنة بالأخبار التي اقترنت باسم أفغانستان طوال العقود الماضية، عندما كانت اللغة السائدة في هذا البلد هي لغة الاحتلال والعنف والحرب وعدم الاستقرار، ولم يكن من الوارد أن ينشغل أحد بمثل هذه المواضيع، ولكن -صدق أو لا تصدق- هذا ما أصبح عليه الحال بالفعل عندما انتهى الاحتلال قبل عامَين ونصفٍ.

أولئك المهاجرون غير النظاميين أو اللاجئون الذين يتحركون من بلد إلى آخر – ونرى كثيرين منهم في تركيا- يشكلون عالميًا انطباعًا سلبيًا عن بلادهم المليئة بالمشاكل. ونظامُ طالبان الذي كافح الاحتلال الأميركي طوال 20 عامًا يعتبر نجاحه في طرد ذلك الاحتلال نصرًا مباشرًا وصريحًا للإسلام، ولذلك يعتبرون – كما أدركت خلال الزيارة – أن المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم هي الحفاظ على كرامة هذا الجهاد، ونصاعته وشرفه، وأن يكون أداؤُهم لائقًا بالراية التي يرفعونها، وأكبر اختبار يواجهونه في حالة كهذه هو وقف تدفّق البشر من أفغانستان إلى بلدان أخرى.

ولن يحدث هذا إلا بالتعامل مع الظروف التي تدفع الناس إلى الهجرة، حيث لا توجد فرص عمل، ولا ظروف معيشية مواتية، كما لم يكن هناك – لوقت طويل – وضع سياسي يبعث الأمل في صدور المواطنين الأفغان.

ولا شك أن مشكلة اللجوء والهجرة غير النظامية من أفغانستان لم تبدأ في العامين أو الثلاثة الأخيرة، أي في عهد طالبان. بل على العكس، فإن الاحتلالات المتعاقبة من روسيا وأميركا، والحروب الأهلية التي استمرت 45 عامًا هي التي عرقلت بشكل كبير تشكيل اقتصاد مستقر ومبشر في البلاد، وجعلتها دولة منتجة للاجئين والمهاجرين. واليوم، تحت الإدارة الثانية لطالبان، وللمرة الأولى منذ 45 عامًا، انعكس الحال، فتم إقامة حكومة مستقرة تغطي البلاد بأكملها وتسمح للمرة الأولى بالتفكير في مشكلة التنمية الاقتصادية.

التعامل مع مشكلة صناعة المخدِّرات، والنجاح في تجفيف هذا القطاع بسرعة يعدان أيضًا من أبرز معالم النجاح في تجربة طالبان الجديدة، فعلى مدى عقود من عدم الاستقرار، كانت المخدِّرات أكبر مدخلات الاقتصاد الأفغاني.. يتعيّش عليها عدد كبير من المواطنين، ولا يسعى الاحتلال بصورة جادة لمواجهتها، بل يمكن القول إنه يستفيد منها، فقد كان جزء من تمويل الاحتلال يعتمد على هذه الصناعة، كما أنه كان يستفيد من تزايد نسب الإدمان للحدّ من المقاومة.

عندما طردت طالبان المحتلين من البلاد، أنتجت صور الأشخاص – الذين تشبثوا بعجلات وأجنحة طائرات الشحن الأميركية – انطباعات معقدة حول رغبة المواطنين من الفرار من البلاد. وكانت الفكرة السائدة في وسائل الإعلام الغربية هي أن طالبان ستجعل البلاد غير صالحة للعيش. وتصاعدت التوقعات بأن تسعى إدارة طالبان للانتقام والتقليب في سجلات الماضي، وسيسرع ذلك من وتيرة الهجرة من بلد كان ينتج المهاجرين بالفعل.

ولكن ما حدث كان غير ذلك، إذ أعلنت إدارة طالبان عفوًا عامًا فور توليها السلطة، قائلة إنه لن يتم ملاحقة أي شخص بسبب علاقته بالنظام القديم ما لم يكن قد انتهك حقوق الإنسان. وحتى هذه اللحظة، ما زالوا ملتزمين بهذا الوعد. وساهم هذا في إيقاف هذا التسارع في معدلات الهجرة.

لم يكتفِ المسؤولون بهذا العفو الذي يَطال من هم داخل البلاد، فخلال الأشهر الأخيرة، تبحث حكومة طالبان عودة العديد من الأفغان – الذين هاجروا سابقًا إلى باكستان – إلى بلادهم. وبهذا الرشد تواجه طالبان أحد أكبر التحديات التي تواجهها في أفغانستان، عاملة على خلق الظروف التي تحفظ مواطنيها داخل البلاد، وتأمين السلام والهدوء الاجتماعي إلى حد كبير.

الخطوة التالية هي تطوير البلاد لتصبح مكانًا أفضل للعيش، بحيث لا يحتاج المواطنون للهجرة إلى أماكن أخرى، وذلك عبر تحقيق شروط التنمية الاقتصادية.

وَفقًا للوزراء الذين تحدثنا معهم، هناك جهود جادّة جارية لتحقيق هذا الهدف. لم تقم إدارة الولايات المتحدة الأميركيّة التي دامت 20 عامًا بأي استثمارات في البنية التحتية، أو المنشآت الصناعية أو في خلق موارد اقتصادية للناس. والإدارة الجديدة تعمل بجد للقيام بهذه الاستثمارات، وتعوّل بشكل خاص على التعاون الاستثماري مع الدول الإسلامية.

أفغانستان تقدم فرصًا جيدة جدًا للمستثمرين في مجالات الطاقة، بناء البنية التحتية، المعادن، الزراعة، ورأس المال البشري. لديها بالفعل سكان شباب، مجتهدون، ماهرون، سريعو التعلم ولا يتهربون من الصعوبات.

كما أن لديها أراضي واسعة عالية الجودة تصلح للزراعة. ويمكن جعل البلاد مركز جذب للمستثمرين الدوليين في مجال النسيج أو الصناعات التي تحتاج إلى العمالة الكثيفة، وذلك من خلال حملة ترويجية تعرض أفغانستان كدولة فرص.

وقريبًا قد يأتي مستثمرو تلك الصناعات إلى أفغانستان، كما يذهبون إلى الصين، الهند، بنغلاديش وباكستان، وحتى مصر. وسيكون ذلك خطوة للتنمية الاقتصادية وطريقة فعّالة لمنع الهجرة من مركز البلاد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
أحسنوا أحسن الله إليكم
السابق
ارتفاع حالات الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة بنسبة 180% خلال الحرب على غزة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع