البحث

التفاصيل

وقفة تأمُّل

الرابط المختصر :

وقفة تأمُّل

بقلم: د. محمد وثيق الندوي

 

نظرًا إلى ما يجري في الساحة الفلسطينية من قتل وفتك للفلسطينيين العزل الأبرياء، وتدمير وتخريب للمنازل في غزة بأيدي إسرائيل الغاصبة والصهاينة الطغاة، ومن صمت مريب وتقاعس مزر من قبل الإخوة الأشقاء، ومن غارات القصف الجوي في اليمن وسوريا ولبنان، ومما تتخذه الحكومات في مختلف دول العالم من مواقف معاندة وإجراءات لتضييق خناق الحياة على المسلمين، والهند ليست بنجاة منها، ينتابني حينًا ما أُكذِّبه، وحينًا لآخر ينتابني ما أُصدِّقُه، فتتجاذبني أفكار وأخيلة، وهموم وغموم، تبعث على التفكير والتأمل في الظروف التي يعيشها المسلمون على مستوى العالم، وعلى التدبُّر في البحث عن طرق للخروج مما يعانيه المسلمون بعامة، والإخوة الفلسطينيون بخاصة، وقد درست أخيرًا كتابات بعض الدعاة والمصلحين والمفكرين الإسلاميين في العصر المعاصر، بحثًا عما يشفي غليلي، ويفرج عن كربتي، ويخفف ما بنفسي من قلق واضطراب، فوجدت في كتاباتهم ما يوافق ما هداني إليه تفكيري، وهو لا ينقص المسلمين اليوم إلا القوة الإيمانية والقوة الروحية، وتمثيل الإسلام تمثيلاً عمليًا صادقًا-لأن الإسلام اليوم محجوبٌ بالمسلمين كما قال المفتي محمد عبده-، وعدم الاطلاع على ما يخططه العدو من مخططات، وما تحيكه القوى العالمية، من مؤامرات ومكايد، لضرب الإسلام في عقر داره، والقضاء عليه في كل مكان، مع أن عدد الدول الإسلامية أكثر من خمسين دولة، وهناك مؤسسات تعليمية، ومعاهد تربوية، ومراكز علمية، وجهود إصلاحية ودعوية، وحركات ومنظمات إسلامية، ونشاطات اقتصادية، وأحزاب سياسية، كلها تنتمي إلى ما يسمى بالإسلام، ولكنها لا تحقق الأهداف المنشودة، ولا تؤتي ثمارها المرجوة، الأمر الذي يحدث سؤالاً في النفوس لماذا لا تكسب هذه الجهود التي تبذل في سبيل الإسلام النصر؟ وتحدث في النفوس ظنون.

فإذا قام أحد باستعراض عميق لهذه الخيبة والفشل يجد أن المسألة الأساسية الجوهرية هي مطابقة الحياة الإسلامية مع تعاليم الإسلام الكاملة، وفي سائر الجهات من الشعور، والعاطفة إلى العمل والمظاهرة، والتناسق والانسجام بين هذه الجوانب، فإن الجهود المبذولة لرفع الأمة ككل اليوم تحتاج إلى تيقُّظ ووعي للأخطار والتحديات، ومعرفة العناصر المفسدة المتسربة إلى العاملين في الحقل الإسلامي، كما تحتاج إلى تعاوُن وتعاضُد وتواصُل رغم العقبات، وتجنُّب الفرص التي يستغلها الأعداء.

وإن العالم الإسلامي يحتاج أشد ما يكون إلى القوة المعنوية، والصبر والثبات، والصمود والاستقامة، وتحمُّل الشدائد والنكبات، والذاتية والأصالة، والجدية والصرامة، والإعداد الكامل المنظم المطلوب لمواجهة الأوضاع، وإن هذه الركائز الجوهرية والصفات الأساسية لا تتحقق إلا بالإيمان القوي السليم بالله، والارتباط الوثيق بالأسوة المحمدية، والاتصال الدائم بمنبع الحياة والقوة ومصدر النور والهداية وهو القرآن والسنة، وبتعبير آخر "إلا ببعث جديد في العقيدة والإيمان، والأخلاق والأعمال" كما يقول العلامة الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي في كتابه "المسلمون وقضية فلسطين":

"العالم الإسلامي ـ أيها السادة ـ في حاجة إلى بعث جديدة، في العقيدة والإيمان، والأخلاق والأعمال، وبتعبير أدق: إنه ليس في حاجة إلى دين جديد، ولكنه في حاجة إلى إيمان جديد بالحقائق الخالدة، والعقائد الخالدة، الرسالة الخالدة، والدين الخالد، وأنا أحمي سمعي وبصري ولساني وقلمي، أن أسميه القديم، فإن الدين ليس فيه قديم ولا جديد، إنه دين واحد، وإنه دين خالد، ولكني ألحُّ على أن أسمي الإيمان جديدًا، إن من الإيمان ما هو قديم، وإن من الإيمان ما هو جديد.

إن قوة الرعيل الأول، والطراز المتقدم من هذه الأمة، في أنه كان يحملُ إيمانًا جديداً، فعجز الإيمان القديم الضعيف البالي الذي كانت تحمله بعض الأمم عن مقاومته، وكان كالشمس الجديدة التي تطلع على العالم، فتسطع على كل شيء، وتبهر كل شيء.

إنه قد جدّت فتن، وجدّت خطوب، وجدّت معارك فليتجدد الإيمان.

إن هذا العالم الإسلامي يملك أعظم ثروة من الإيمان، ولكنها ثروة دفينة تحتاج إلى إثارة واستثمار.

إن الأسس التي تبني عليها الحياة، لا تزال موجودة في هذا الأمة، حين فقدتها الأمم الأخرى وضيعتها، وهي أسس الإيمان، فليبن عليها البناؤون، وليقم عليها صرحُ الإسلام من جديد.

إذًا فالعالم الإسلامي في حاجة إلى تجديد الإيمان، الإيمان بالله، والإيمان بالرسالة، والإيمان باليوم الآخر، إيمانًا حقيقيًا لا صوريًا، فإذا تحرك هذا الإيمان في النفوس، وتحوّل من الصورة إلى الحقيقة، وشمل الحياة كلها، انحلت كلّ مشكلة، وتفتّح كل قفل.

الواقع أن العالم الإسلامي اليوم ليس في إيمانه وصلته بالله كالعالم الإسلامي في العصر الأول، فلا نطلب منه ما يصدر عن إيمان عميق، متغلغل في الأحشاء، وليس ـ على عِلاته ـ كالأمم الجاهلية، فتعالج مشكلاته بطرق مادية، ووسائل صناعية، إنه مؤمن، ولكن إيمانه يحتاج إلى تجديد، وإلى إثارة وتحريك وإلى تنظيم.

إن قضية فلسطين كانت سبب الاتصال بهذا العالم الإسلامي، وكانت سبب الاطلاع على العالم الإسلامي، ولا أكون مجازفاً إذا قلت: إنها سبب اكتشاف هذا العالم الإسلامي، فكانت قضية مباركة من هذه الناحية، فقد عرفنا هذا العالم من جديد، وعرفنا ما ينقصه وما يحتاج إليه.

فلنعمل على تكوين هذا العالم، وبعثه من جديد على أساس من الإيمان والخلق، ولنعرف أن المفتاح الذي يفتح هذا القفل ـ وكل قفل من أقفال هذه الأمة ـ هو وجود الإيمان القوي، والوعي الإسلامي الصحيح في الشعوب الإسلامية وهو الضامن بالانتصار في معركة فلسطين، والكافل بالانتصار في كل معركة، الحافظ من كل خطر، ومن كل ضيم، والسبب في كل مجد، وفي كل سعادة".

وكذلك لابدَّ من الحذر كل الحذر مما يروج من التطبيع مع اليهود، لأنهم وراء كل مشكلة وأزمة ونكبة تواجهها الأمة الإسلامية، يقول فارس الخوري:

"نصيحتي لكل عربي، ولكل مسلم، ولكل عامل في الحقل الوطني والسياسي، ألا صلح مع اليهود مهما يكن نوع ذلك الصلح ومداه…..

فإن أي صلح مع اليهود مهما كان نوعه، ومهما يكن الاسم الذي يُعنونُ به، هو تضحية بالأمة العربية على مذبح الحماقة والجهل والمطامع الوقتية، وهو عار يلحق مرتكبه على مدى الأزمان، لأنه سيكون حتمًا بداية القضاء على هذه الأمة، وعلى جميع مقوّماتها المادية والروحية.

ثم إن عقد الصلح مع اليهود سيجعل العرب مسؤولين دوليًا عن المحافظة على الوضع الذي سينشأ عن قيامه، ويفقدهم حرية العمل، ويجعل من العسير عليهم القيام في المستقبل بأي عمل يرجى منه صيانة عروبة فلسطين فضلاً عن تحريرها.

ولا يصدقن أحدٌ ما تردده دوائر الاستعمار من أن الصلح مع اليهود سيقر الأمن والسلام في الشرق الأوسط، كما تزعم الدول الاستعمارية، وستضع حدًاً للمطامع اليهودية في بقية الأقطار الأخرى، لأن اليهود سيلجئون لأساليب أخرى في القضاء على الأمة العربية، (لو تم صلح ما معهم) عن طريق نشر المبادئ والآراء والعقائد والأخلاق، التي تجافي آداب العرب وروح الإسلام والمسيحية في هذه الديار، مما يسهل عليهم بمرور الزمان القضاء على الكيان العربي، وعلى الروح الإسلامية القضاء المبرم، الذي لا نهوض بعده.

فليتدبر المسلمون والعرب أمرهم، وليقاوموا أشد المقاومة كل فكرة لفرض صلح عليهم مع اليهود، وليستعدوا دائمًا وأبدًا للجولة الحاسمة، ولو اقتضى الأمر من الصبر قروناً وأجيالاً ".

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
اتهامات لجامعة هارفارد بعدم حماية طلاب داعمين للقضية الفلسطينية من التحرش والهجمات العنصرية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع