البحث

التفاصيل

كيفية سداد الحقوق المالية عند التضخم

الرابط المختصر :

كيفية سداد الحقوق المالية عند التضخم

بقلم: عصام تليمة

 

أحوال الناس المادية – وكذلك الدول – لا تسير على وتيرة واحدة، فالاقتصاد يرتفع وينخفض، وكذلك حال الأموال التي في أيدي الناس، فقد ترتفع عملة دولة في ظل ازدهار اقتصادها، وقد تنخفض بشكل كبير، يكاد لا يكون لها قيمتها السابقة، ومنها ما تنحدر بشكل مهول، كما رأينا في عملات عربية وغربية في ظل الأزمات الاقتصادية التي تصيب الدول واقتصادها وعملتها.

وهو ما يعرف في لغة أهل الاقتصاد بالتضخم، والذي عرفه أهل الاقتصاد المعاصر بأنه: “عبارة عن حالة اقتصادية في بلد مخصوص، يزداد فيها مقدار النقود السائلة على مقدار البضائع والخدمات التي يمكن شراؤها بالنقود”. ومن النتائج اللازمة لهذه الحالة: أن ترتفع أسعار البضائع والخدمات فيحدث الغلاء العام، لأن النقود السائلة في البلاد تمثل طلب المجتمع للبضائع والخدمات، والبضائع والخدمات الموجودة في البلاد تمثل عرضها للمجتمع، وحيثما ازداد الطلب على العرض، ازدادت الأسعار، كما هو معلوم من قواعد الاقتصاد الأساسية.

أسئلة يومية ملحة عن التضخم:

ويكاد لا يمر يوم أو يومان على الأكثر، ويطرح السؤال في صيغة فتوى، أو خلاف بين أطراف متنازعة تريد الفتوى التي يطبقون عليها الصلح، أو إنهاء النزاع. وتأتي في أسئلة الناس بشكل مستمر، أضرب نماذج منها ليعلم الناس كم هي مؤرقة هذه المسألة بين الناس، وموضع نزاع كبير، بل وخصومة.

فمنها: من اقترض مبلغا من المال، ولطول مدة القرض لدى المقترض، انخفضت قيمة العملة. ومنها: حالات الإرث، فهناك حالات تود الأسرة أن يحتفظ الأولاد الذكور بالبيت، أو الأرض، فيعرضون على البنات، أو يريد أخ معين الاحتفاظ أو الشراء من إخوته الورثة نصيبهم، فيقدر النصيب للورثة الباقين بمبلغ معين، ثم تمضي السنوات ولا تصل الحقوق لأصحابها، وتقل قيمة المال الذي هو إرث، أو حق منذ سنوات.

ومنها: مؤخر الصداق مثلا، فقد كتب وقت الزواج بمبلغ، وعند الانفصال بعد سنوات طويلة مثلا، لا تكون قيمة هذا المبلغ المالي ذات جدوى، فلو ضربنا مثلا بزوجين مصريين تزوجا منذ (12) عاما، وقد كتب الزوج مؤخر الصداق خمسة آلاف جنيه، أي ما يعادل ألف دولار أمريكي، وتم الطلاق بينهما الآن في نهاية عام 2023م، فكم تساوي الخمسة آلاف جنيه الآن: حوالي مائة دولار، أي أن المفقود من قيمة المال بلغ تسعين بالمائة، فهل يسدد مؤخر الصداق بمثله أم بقيمته حاليا؟

ومنها: من سرق مالا من إنسان، أو اغتصب حقا ماليا من شخص، ثم أراد السارق أو المغتصب التوبة، ومن شروط التوبة: رد الحقوق لأهلها، وقد سرق منذ سنوات طويلة مبلغا ماليا، فكيف يسدد الآن في ظل انخفاض قيمة العملة؟ وهكذا، أسئلة ترد يوميا تتعلق كلها بكيفية رد الحقوق المالية في ظل التضخم المالي في البلاد.

اهتمام الفقهاء قديما وحديثا بهذه المسألة:

لقد اهتم فقهاؤنا بمثل هذه المسائل، لأن الحقوق تحفظ أو تضيع بناء على ضبطها، فرأينا الفقهاء يميزون بين العملات التي تسك من ذهب أو فضة خالصة، وبين العملات التي تسك وتكون مخلوطة بمعادن مع الذهب والفضة، فنجد كتب المذاهب الفقهية تتناول الموضوع وتميز بهذا التمييز المهم، لأنه في الذهب أو الفضة الخالصة تكون المعاملة بالمثل، لأنه ثابت لا يتغير، لكن بالمخلوط تتغير القيمة. كما رأينا فقيهين كبيرين من مجتهدي المذهب الحنفي، وهما: العلامة ابن عابدين، يكتب رسالة كاملة في الموضوع بعنوان: تنبيه الرقود على مسائل النقود، وسبقه إمام حنفي آخر هو التمرتاشي فكتب كتابا بعنوان: بذل المجهود في تحرير أسئلة تغير النقود، تناولت الرسالتان مثل هذه الحالة.

وعقد مجمع الفقه الإسلامي سواء التابع لمنظمة التعاون الإسلامي، أو التابع لرابطة العالم الإسلامي، كلاهما عقدا جلسات فقهية، تناولت الموضوع بشكل مستفيض، جمع بين علماء الاقتصاد وعلماء الشريعة، وقد كان منذ سنوات عديدة، قبل التضخم الذي أصاب كثيرا من دول العالم العربي والإسلامي اليوم، وقد كانت نسبته وقت المؤتمر أقل بكثير مما عليه الحال الآن.

آراء الفقهاء في المسألة:

وقد اختلف الفقهاء قديما وحديثا في هذه المسألة، إلى عدة أقوال، يمكن إجمالها في ثلاثة، وهي: أولها: أن يرد بالمثل، فالجنيه بجنيه. وثانيها: أن يرد بقيمته، فالجنيه ينظر كم يساوي وقت الدين، وكم يساوي حاليا. وثالثها: التراضي والصلح، بأن يتحمل الطرفان الخسائر، ويعوض كلا منهما بما يرضي الطرفين.

وبالطبع إن الرأي الثالث جيد ومناسب، لو وصل الطرفان لحل مناسب، وبخاصة لو كان تأخير الحقوق ليس مبنيا على مماطلة من المدين، فلو بني على مماطلة، فعندئذ لا يكافأ على مماطلته، ولكن إن تم الاختلاف ولم يتفق الطرفان على حل وسط يعوض كل متضرر منهما بما يناسبه، عندئذ نرى أن الرأي الأرجح: هو أن يسدد الحق المالي بقيمته لا بمثله. وهو رأي قال به بعض الفقهاء القدامى، وقال به عدد من المعاصرين لما رأوه من تفاوت كبير في العملات، ومن هؤلاء العلماء: يوسف القرضاوي، وعلي محيي الدين القره داغي، ونزيه حماد، وغيرهم من العلماء المعاصرين الكبار.

لماذا السداد بالقيمة؟

والسداد بالقيمة هنا هو التعويض اللائق لصاحب الحق، سواء كان لقرض أو لحق مالي متأخر، فالواجب على المدين هنا، أن يكون صاحب خلق ومروءة ويعوض صاحب الدين من نفسه، دون أن يطلب ذلك، فهذا هو السلوك القويم، وجزاء إحسانه وإكرامه له بالمعونة بالمال، في وقت كان يمكنه أن يحبس ماله ويرفض الإعطاء، وهو ما أصبح سلوكا لدى الكثيرين مخافة مماطلة المدين، فإذا كان كريما في خلقه، فليكن المدين كريما في القضاء ولا يضر به، خاصة في ظل تغير العملة تغيرا كبيرا يضر بصاحب المال، وهو ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث:

جاء أعرابي يتقاضى النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “التمسوا له مثل سن بعيره”، قال: فالتمسوا له، فلم يجدوا إلا فوق سن بعيره، قال: فأعطوه فوق بعيره، فقال الأعرابي: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن خيركم خيركم قضاء”. فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجل حقه بما يزيد، ولم يكن ذلك مشروطا.

أما الاستدلال بحديث: “كل قرض جر نفعا فهو ربا”، فهو أولا حديث ضعيف من حيث السند، وثانيا: فسره بعض شراح الأحاديث بأن المقصود كل قرض جر نفعا مشروطا، فهو ربا. والرد بالقيمة، ليس ردا بزيادة، بل هو رد بنفس قيمة المال، لأنه رد بما يساويه، وليس بالزيادة.

لقد اعتبر الفقهاء قضية القيمة في أحكام مثل الزكاة، وذلك في تحديدهم نصاب زكاة المال، فقالوا: إن نصاب الزكاة (85) غراما من الذهب، أو ما يعادله، وبالطبع إن هذا النصاب يتغير بتغير قيمة الغرام وبيعه، ولذا يحسب بما يعادل هذه الغرامات من المال، لأن النقود ليست ثابتة في قيمتها.

تعريف مجلة الأحكام العدلية للنقود:

وقد فطن واضعو مجلة الأحكام العدلية – وهي المجلة التي أصدرتها الخلافة العثمانية لتقنين مواد الفقه الإسلامي على المذهب الحنفي – لهذا الفرق، أن النقود تكون عند الرواج مثلية، وعند الكساد (أي التضخم) قيمية، أي بقيمتها، فنصت المادة (130) من المجلة على تعريف النقود بأنها: (النقود: جمع نقد، وهو عبارة عن الذهب والفضة)، ثم شرح شراح المجلة هذه المادة فقالوا: (إذا كانت مسكوكة، أما غير السكوك منها، لا يعتبر نقودا إلا إذا تعومل به، وإلا كان عرضا)، ثم زاد المحاسني أحد الشراح استطرادا مهما لعلة اختيار الذهب كعملة، فقال: (إن الله سبحانه وتعالى خلق الذهب ثمنا لأنه مقياس القيم، وأصح شيء ثابت لأنه قليل بالنسبة للمعادن الباقية، وقيمته غالية، ووزنه خفيف، ومتى كان خالصا لا يرى تفاوت بين أنواعه، ولا تسقط قيمته بمرور الزمن، لقلة موجوده، ولكثرة المصاريف التي تصرف على استحصاله ولعدم وجود فرق بين أفراده وأجزائه، لذلك فإن هذا المعدن بالدرجة الأولى، والفضة بالدرجة الثانية).

وقال شارح آخر للمجلة وهو علي حيدر: (‌أما ‌النقود ‌النحاسية، ‌والأوراق ‌النقدية (البانكنوط)، فتعد سلعة ومتاعا، فهي في وقت رواجها تعتبر مثلية وثمنا، وفي وقت الكساد تعد قيمية وعروضا).

والنقود المعدنية المتداولة في أيامنا هذه ليست بثمن في الأصل، ولكن بما أنه يحتاج إليها في شراء الأشياء البخسة فهي بمقام أجزاء ضربت للتسهيل على الناس، إذ لو أراد المشتري شراء شيء بقرش فليس في إمكانه استخراج المقدار المساوي لهذه القيمة فضة من الريال أو ذهبا من الجنيه).

أليست هذه فائدة ربوية تحرمونها؟!

وهناك نقطة قد تثار في الأمر هنا، وهو: أليس ما يقول به الفقهاء الذين يفتون بأن الدين أو الحق المالي يرد بالقيمة عند التضخم الشديد، هو عين ما يقول به من يبيحون فوائد البنوك؟! والإجابة: لا، فقد يتفق معه في نقطة، لكنه يختلف معه في نقاط، وما يتفق معه فيه قد يباح وقتها، لكن على ألا يشترط ذلك في العقد، وهو ما يتم الاتفاق عليه في الفوائد البنكية المحرمة، فالفائدة البنكية مرتبطة بزيادة سواء ربح أم خسر، وسواء قلت قيمة العملة أم لا، أما السداد بالقيمة هنا فمرهون بتغير العملة تغيرا يضر بصاحب المال، ففرق كبير بين الحالتين.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. عصام تليمة: من علماء الأزهر، حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
فلسطين “إدوارد سعيد”: مطامع غربية في كنوز الشرق
السابق
أَدْرِكوا السودان

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع