البحث

التفاصيل

انتصار غزة يعيد الحياة إلى البشرية

الرابط المختصر :

انتصار غزة يعيد الحياة إلى البشرية

بقلم: ياسين أقطاي

 

إنه نضال أهل غزة بما وراءه من فلسفة وهيبة ونبل عالٍ ضد النظام العالمي الفاسد، ذلك النضال في كل لحظة وخطوة يخطوها لا شك يلقن ذلك العالم بكل مكوناته درسًا بعد درس.

فالحقيقة أن غزة أصبحت روحًا لعالمٍ بلا روح وقلبًا لإنسانية بلا قلب، ففي الوقت الذي يقاوم أهل غزة ظلم البشرية ومعاييرها المضطربة، تسقط كل معاقل الاستبداد واحدةً تلو الأخرى. وبينما تنجح غزة في صد العدو الذي ذبح البشرية، فإنها تحيي آمال المظلومين في تلك البشرية المذبوحة، وعندما تتمكن من العدو الذي جفف الحياة، فإنها تحيي كل جزء من الحياة القاحلة.

وهكذا يؤكد الواقع أن سكان غزة عندما يقاتلون ويقاومون ويناضلون، فإنهم لا يفعلون ذلك لأنفسهم فحسب، بل يعطون الأمل لبقية العالم. إنهم ينفخون روحًا جديدة في الحياة الذابلة، ويمنحون الفلسفة حقائق جديدة وصالحة لإحيائها بعد أن دُفنت في كذبة كبيرة.

وبالطبع، هذا الكلام ليس مجرد تجميل لغزة أو للمقاومة، بل إنها الحقيقة التي يعيشها العالم كله ويتنفس كل مراحلها. فما نراه شاخصًا في كل بيوت غزة من حمد الله وشكره الدائم على ألسنة أهل غزة الذين فقدوا جميع أقاربهم في أبشع الهجمات الصهيونية وأحقرها، وما يقدمونه للإنسانية كلها وللعدو الغاشم، يمثل صورة واقعية لها قدرة على صَدّ كل الهجمات وتجعل أعداءهم عاجزين عن تخويف الغزيين أو إخضاعهم وإجبارهم على الاستسلام.

الارتباط الوثيق بالخالق

ها هم أهل غزة الأم والأب والطفل في أشد لحظاتهم إيلامًا تمتلئ قلوبهم بالإيمان ولا يتخلون عن رفع أصواتهم بـ”حسبنا الله ونعم الوكيل”، غير مبالين بما يتترس به العدو من دروع فولاذية ولا بهجماته القاسية؛ فصراخهم الواثق بالله يخترق كل الدروع الفولاذية ويتصدى للهجمات. فالموت في غزة يشبه الانتقال من غرفة إلى أخرى في المنزل. وهذا لأنَّ وجود الارتباط الوثيق بالخالق يجعل صاحبه أقوى من أي شخص في العالم. فأنَّى لآلة الحرب الصهيونية من القَتَلة المدربين الذين يخافون من ظلالهم أن يتمكنوا من زعزعة هذا الإيمان؟

وهذا النضال بكل ما فيه من أخلاق وعمق فلسفي وإيمان يُوجِد أسبابًا جديدة وفعَّالة لفلسفة جديدة في النظر إلى مقاومة غزة والهمجية الوحشية للإرهاب الإسرائيلي. وكذلك انتفاضات الضمير التي أشعلها في جميع الساحات في كل بقاع المعمورة، حيث يُتيح مساحة جديدة وواسعة لخطاب قوي وصحيح.

وفي هذا السياق أعتقد أنَّ الكُتَّابَ الذين يهتمون برصد الوضع ويتابعون تدفق الموقف وتطوراته يخطُّون بأقلامهم مقالاتٍ وتوصيفاتٍ وتحليلاتٍ جميلةً للغاية. فهناك العديد من الأسماء التي تدفقت كتاباتهم خلال أيام غزة بغزارة وسلاسة؛ لتقدم مادة قوية تغذي العقل والقلب، وتحمل فلسفةً تتألق مباشرة من الواقع نفسه وتعبر عن نفسها.

وقد كتب هؤلاء وأكدوا في مقالاتهم أن أهل غزة عندما يقاومون ويقاتلون، فإنهم لا يقاتلون أو يقاومون من أجل أنفسهم فحسب، وهذا هو جوهر الحرب الإسلامية وأخلاقها في الأساس، وفضيلتها التي لا يتخلى عنها المسلم حتى في أكثر لحظات الحرب غضبًا؛ إذ يرجو من وراء قتاله خيرًا ليس لنفسه فقط، بل للبشرية كلها بما فيها أعداؤه. وهكذا فإن المسلمين وحتى في القتال لا يتخلون عن الرحمة وطلب الخير لكل إنسان ما دام لديه قلب حيٌّ ولو قليلًا، وما دام لديه أذن تسمع قليلًا لتسقي هذا القلب، وعين ترى قليلًا لتضيء الطريق أمام إحياء هذا القلب.

شجاعة أهل غزة

وقد أظهرت الحرب في غزة شجاعة المقاتلين الغزيين خلال الحرب، وظهروهم بلا خوف وبإمكاناتهم المحدودة أمام القوة الهائلة للاحتلال ومن يقفون وراءه، كما كشفت عن مدى حبهم للأطفال والكبار وكل شعبهم. ولعل الأمر الأكثر إدهاشًا هو كيف يتعاملون مع أَسْراهم الذين فقدوا قدرتهم على القتال. وهذه حقيقةٌ شاهدها العالم كله، ورأى كيف أن الوُدّ والرحمة في قلوب المسلمين ليس لهما حدود ولا يعرفان اللون أو الجنس أو العِرق.

وهناك كل الأمثلة الواقعية الدالة على أن هذه الأخلاق الإسلامية في الحروب تشمل جميع الناس، وأنها ليست حكرًا على فصيل دون غيره، وأنها أخلاق تفيض من قلب المجاهد الموحد الذي يرفض العبودية ويسعى للحرية، وهو يدرك أن جميع البشر خلقوا من نفس الجوهر.

ولذلك فإنك إذا سألت عن معنى الثورة، فسأقول: إنها القدرة على جعل الأعداء أصدقاء وإخوة، وجعل بعضهم يحب بعضا. فالثورة ليست مجرد قدرة على الإطاحة بالحكومات؛ فالحكومات قد تطيح بها الثورات أو أعمال الانقلابيين العسكريين المختلفة، ومن ثَمَّ تأتي حكومات أخرى لا تختلف عن سابقاتها، أما الثورة فهي التي تثير العواصف في قلوب الناس، وتجعل الأعداء يصبحون أصدقاء وإخوة.

ولهذا فإن طريق الثورة هذا هو طريق المؤمنين الذين يتبعون سياسة الصداقة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أظهر مثالًا رائعًا لمعنى “الرحمة” مع جميع الناس الذين قاتلهم سنوات.

والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أنه حتى في الوقت الذي يحارب فيه المسلمُ العدوَّ الصهيوني في غزة، فإنه يفعل ذلك في إطار رؤية لعالم يمكن فيه حتى لليهود العيش في سلام وطمأنينة وكرامة. ولذلك فإنه عندما ينتصر المسلم الذي يقاتل، فلن يخسر أحد، بل ستربح البشرية كلها؛ فما تحتاجه البشرية هو سياسة المودة والرحمة، ولا يوجد من يمكنه تنفيذ هذه السياسة في عالم اليوم غير المسلم.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ياسين أقطاي؛ أكاديمي، وسياسي، وكاتب تركي

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
إسبانيا.. فعالية احتجاجية تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة
السابق
قراءة في كتاب "تتمة النظام في تاريخ القضاء في الإسلام من العهد النبوي إلى عهد الإمارة الإسلامية" لمؤلفه قاضي القضاة الشيخ العلامة عبد الحكيم الحقاني الأفغاني

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع