البحث

التفاصيل

في حقيقة نظرية العلم الإسلامية وأهميتها

الرابط المختصر :

المقال الخامس عشر- في حقيقة نظرية العلم الإسلامية وأهميتها

بقلم: بدران بن لحسن

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(المقال الرابع عشر- القرآن وتكامل مصادر المعرفة)

 

إن تناول مشكلاتنا وقضايانا اليوم بمعزل عن المعطيات العالمية لهو ضرب من الوهم، وبخاصة أن المسلمين اليوم لا يصنعون مصيرهم منفردين، بل في صلتهم بالعالم وفي صلتهم بالمرحلة الحضارية التي تعيشها الإنسانية اليوم، حيث صار العالم اليوم يعيش كأنه قرية واحدة. ثم أن قيادة العالم اليوم ليست بأيديهم بل بأيدي غيرهم، وبأيدي الحضارة الغربية خاصة، تلك الحضارة التي هيمنت على العالم وأشعت عليه بمنجزاتها وبمشاكلها منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي على الأقل.

ولعل هذا ما جعل مالك بن نبي، وهو يتحدث عن صلة الغرب بالمشكلة الحضارية في العالم الإسلامي، يقول: "ولا شك أن هذا الإشعاع العالمي الشامل الذي تتمتع به ثقافة الغرب، هو الذي يجعل من فوضاه الحالية مشكلة عالمية، ينبغي أن نحللها وأن نتفهمها في صلاتها بالمشكلة الإنسانية عامة، وبالتالي بالمشكلة الإسلامية"[1].

وهو ما أشار له الدكتور طه جابر العلواني في تصديره لكتاب "إشكالية التحيز رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد" الذي قام بتحريره الدكتور عبد الوهاب المسيري، ضمن سلسلة كتب المنهجية الإسلامية، حيث يؤكد ما ذكره بن نبي قبله بنصف قرن، بأن الحضارة الغربية قدر فرضت نفسها، في الميدان الفكري، منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم على العالم كله، وقد تبنت معظم الشعوب نموذج أوروبا إما كليًا أو معدَّلاً، فسادت مفاهيم الغرب ونظرياته المختلفة؛ في العلم والمعرفة والمناهج العلمية والتفسيرات العلمية، وفي السياسة والاقتصاد وغيرها، وهيمنت الرؤية الغربية للكون والحياة على سائر الرؤى الأخرى، حتى صارت كأنها قانون العصر الذي لا محيد عنه[2].

فثقافة الغرب التي حصلت على هذا الإشعاع، وبما تتضمنه من عناصر إيجابية وأخرى سلبية، وبفعل التمدد الغربي في العالم، فقد صارت مشكلاته الحضارية بمختلف أبعادها مشكلات عالمية. وعلينا أن نقوم بتقييمها ونقدها وصياغة حلول تمكن المسلم من أن يحقق ذاته ويستفيد من منجزات الحضارة الغربية، ويتجاوز فوضاها.

وفي سياق مقالات موضوعنا المتعلق بصلة الدين بالعلم، نسعى للتركيز على الجهود الإسلامية في تناول هذه الصلة في ظل هذه الفوضى المعرفية إن صح التعبير. ذلك أنه منذ تراجع الابداع العلمي لدى المسلمين في عصورهم المتأخرة، وبخاصة مع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، وظهور العلوم الغربية موضوعا ومنهجا، وانتشارها في العالم بتوسع الحضارة الغربية، كما أسلفنا القول، وسيطرة الرؤية الغربية للعلم على العالم وعلى العلوم بدرجات متفاوتة في حجم الانتشار والتأثير، سعى كثير من المفكرين والعلماء المسلمين لتناول موضوع صلة الإسلام بالعلوم الحديثة.

يرى سيد حسين نصر في تقديمه لكتاب "التوحيد والعلم" للمفكر الماليزي عثمان بكر أن كثيرا من العلماء والمفكرين المسلمين اعتبروا -بكل بساطة- أن العلوم الحديثة استمرار للعلوم الإسلامية، وأنها بضاعتنا ردت إلينا. ولذا ترى أن بعضهم اندرج في سياق توظيف مخرجات العلوم الحديثة في التفسير وفي الحديث عن الإعجاز العلمي وغيره، لإثبات وبيان كيف سبق القرآن المكتشفات العلمية الحديثة أو أنه تنبأ بها، وهذا معناه أنهم اعتبروا أن هذه العلوم الحديثة هي في الحقيقة علوم "إسلامية"[3].

ولكن مثله هذه النقاشات- كما يقول سيد حسين نصر- تصدرت لها شخصيات محدودة الاطلاع والعلم بما تتضمنه هذه العلوم الغربية الحديثة من أسس وخلفيات فلسفية، ومحدودية اطلاع على تاريخ العلوم الإسلامية وعلى الفلسفة الإسلامية للعلم، ولم يُظهروا -بشكل عام- الصرامة الفكرية اللازمة للمهمة المطروحة أمامهم[4].

وإن جهودهم هذه، مهما كانت درجة نضجها ونوعيتها، فإنها أدت إلى هيمنة الوضعية العلموية "Positivistic Scienticism" التي نرى حضورها اليوم في دوائر كثيرة للفكر والثقافة والعلم والفلسفة في العالم الإسلامي، فأدت إلى قيام بعض المسلمين أنفسهم بإنكار وجود علم إسلامي أو نظرية علم إسلامية لها مناهجها الخاصة ولها رؤيتها الكونية. وأمثال هؤلاء الذين ينفون وجود علم إسلامي يرون أن "العلم هو العلم"، وفي السياق نفسه ليس هناك علم مسيحي، وبالتالي ليس هناك علم إسلامي أيضا.

وقبل خمسين سنة، حينما بدأت جهود إثبات حقيقة وجود نظرية علم إسلامية ووجود علم إسلامي، وأهمية ذلك لعالمنا الإسلامي المعاصر، كانت المعارضة الأشد تأتي من العالم الإسلامي ذاته وليس العالم الغربي فقط، ولكن مع تطور الدراسات النقدية، وتوسع البحث في تاريخ العلم في الحضارة الإسلامية، وتطور البحث في فلسفة العلوم، والرؤى الكونية الكامنة خلفها، من قبل علماء مسلمين وغير مسلمين، ممن لهم اطلاع واسع على العلوم الغربية الحديثة وفلسفتها، ولهم اطلاع واسع أيضا على العلوم الإسلامية وتاريخها وفلسفتها، بدأ تراجع المواقف الناكرة لوجود نظرية العلم الإسلامية ووجود علوم إسلامية، وأهميتها في التلاقي المهم بين الإسلام والعلوم الحديثة[5].

ولما تعمق البحث أكثر، وبدأت برامج جامعية للدرجة الأولى وللدراسات العليا في فلسفة العلوم الإسلامية وتاريخها تنشأ وتتأسس وتفتح في كثير من البلدان الإسلامية، مثل ماليزيا وإيران وباكستان، لتنتشر بعدها هذه البرامج، وتتعمق الدراسة في فلسفة العلم في الإسلام، والبحث في تاريخ نشأة العلوم في الحضارة الإسلامية، وفي الأسس المؤسسة للعلوم في الحضارة الإسلامية، وفي تاريخ هذه العلوم، مما يعطي مبررات للحديث عن نظرية العلم الإسلامية، أو العلم الإسلامي؛ والذي نقصد به أن المسلم منطلقا من الإسلام ومصادره (القرآن والسنة) ومن الرؤية الإسلامية للكون والحياة، أسس علوما جوهرها التوحيد، استطاعت أن تحدث نقلة حضارية فريدة في التاريخ، وبإمكان المسلم استعادة فعالية هذه الرؤية الكونية واستئناف القول العلمي على أساس الإسلام مرة أخرى بما يتجاوز فوضى الحضارة الغربية المعاصرة[6].

 

 

[1] بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص113

[2] عبد الوهاب المسيري، إشكالية التحيز: دعوة إلى الاجتهاد، هرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417هـ/ 1996م، من تصدير الكتاب الدكتور طه حابر العلواني للكتاب، الصفحات ل-م.

[3] Osman Bakar, Tawhid and Science, 2nd edition, Shah Alam: Arah Publications, 2008, p. Vii.

[4]   المرجع نفسه.

[5] المرجع نفسه، ص Viii

[6]   بدران بن لحسن، الدين ودوره في تحقيق العمران، الأغواط: المركز الوطني للبحث في العلوم الإسلامية والحضارة، 2018، ص82-88.





السابق
تعزية للشعب السّوري والقَطري والأمة الإسلامية بوفاة العلّامة المفسّر والخطيب المحبوب والداعية الشيخ مصطفى الصيرفي عن عمر ناهز 93 عاماً

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع