البحث

التفاصيل

قانون السببية وتجلياته في الهجرة النبوية

الرابط المختصر :

قانون السببية وتجلياته في الهجرة النبوية

بقلم: وصفي عاشور أبو زيد

 

أقام الله تعالى الحياة والأحياء على سنن في الاجتماع البشري متفرعة على السنن التي أقام عليها حركة الكون، فالذي خلق الكون وأودع فيه سننا لتنظيم حركته وحياته، أودع كذلك في الحياة سننا لا تتخلف ولا تتبدل ولا تتحول، قال تعالى: (فهل ینظرون إلا سنة الأولین فلن تجد لسنة الله تبدیلا ولن تجد لسنة الله تحویلا) [فاطر: ٤٣].

وهذه السنن إن تتبعناها في حياة الأنبياء وجدنا تطبيقا فذا فيها، وهذا يحتاج لتأمل ونظر: كيف أقاموا دعوتهم وبلغوا رسالتهم برعاية هذه القوانين الإلهية والسنن الربانية، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي تجلت السنن الإلهية في سيرته الشريفة أعظم تجل كما لم تتجل في حياة نبي من الأنبياء، وذلك لشمول سيرته وخاتمية رسالته وعالمية دعوته.

"جعل صلى الله عليه وسلم يفكر في الاختباء في الغار وفي تضليل أعدائه؛ فكان يتجه جنوبا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال"

ومن أهم هذه السنن وتلك القوانين الربانية قانون السببية، أو سنة الأخذ بالأسباب التي لا نجد لها تجليات في حياة الأنبياء، ولا في السيرة النبوية المحمدية كما نجدها في أحداث الهجرة النبوية الشريفة.

فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إننا أوذينا وأخرجنا من ديارنا؛ فعناية الله ينبغي أن تلاحقنا، وحماية الله يجب أن تحوطنا، ولا حرج في بعض التقصير فإن الله سيجبر الكسر ويسد النقص.. إلى آخر هذا الكلام، لم يقل النبي هذا، إنما استنفد كل وسيلة بشرية يمكن أن تؤخذ، فلم يترك ثغرة، ولا أبقى في خطته مكانا يكمله الذكاء والفطنة.

ومع أن محمد بن عبد الله -عليه السلام- أولى الناس بتوفيق الله ورعايته، وأجدر الخلق بنصره وعنايته؛ فإن ذلك لا يغني عن إتقان التخطيط وإحكام الوسائل وسد الثغرات شيئا مذكورا.

ومن هنا جعل صلى الله عليه وسلم يفكر في الاختباء في الغار وفي تضليل أعدائه؛ فكان يتجه جنوبا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال، وأخذ راحلتين قويتين مستريحتين حتى تقويا على وعثاء السفر وطول الطريق.

وهذا دليل مدرب ليعرف ما هنالك من وجوه الطرق والأماكن التي يمكن السير فيها بعيدا عن أعين الأعداء، وهذا علي بن أبي طالب ينام مكانه ليضلل الكافرين، وذلك يسير بالأغنام وراء النبي الكريم وصحبه يمحو آثار المسير، ولكي يكون على دراية تامة باتجاهات العدو ونواياه تأتيه الأخبار عن طريق راعي أبي بكر، كما أتت بعض الأغذية عن طريق بنت أبي بكر. هل بقي من الأسباب شيء لم يؤخذ، أو من الوسائل لم يستنفد، أو من الثغرات لم يسد؟ اللهم لا.

إن منطق الإسلام هو احترام قانون السببية؛ لأن الله تعالى لا ينصر المفرطين ولو كانوا مؤمنين، بل ينتقم من المقصرين المفرطين كما ينتقم من الظالمين المعتدين. يقول الشيخ محمد الغزالي: وإذا تكاسلت عن أداء ما عليك وأنت قادر، فكيف ترجو من الله أن يساعدك وأنت لم تساعد نفسك؟

كيف ينتظر المرء من الله أن يقدم له كل شيء وهو لم يقدم له شيئا؟!

وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سببا، ولا أحكم خطة، ولا سد ثغرة.

وهذا هو الفرق بين موقف المؤمن والكافر من الأخذ بالأسباب؛ فالمؤمن يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها ولا يعتقد أنها هي التي تفعل أو تترك، بل يؤمن بأن الأمور بيد الله، وأن النتائج تتم بقدرة الله، وأن شيئا لا قيام له إلا بالله.

بينما يعتقد الكافر -إن جاز أن تكون له عقيدة- أن الأسباب هي الفاعلة والمعول عليها، ولا علاقة لها بالتوفيق الأعلى.

"ما تحياه الأمة المسلمة الآن من استبداد سياسي، وتحلل اجتماعي، وتخلف حضاري، هو عدل وحق؛ فلوا أخذوا بأسباب الحرية وحفظ نظام الأمة والتقدم لما كانت حالهم مثل هذه الحال"

وقد وعى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم هذا المسلك، كيف لا وقد تربوا عليه في مدرسة النبوة، وهذا دليل يبرهن على ذلك في قصة طاعون عمواس الشهيرة، فحين همّ عمر بالرجوع إلى المدينة في حدود الشام، قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فدهش عمر لهذا الاعتراض، وقال لأبي عبيدة: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم أردف قائلا: "أرأيت لو كان إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصيبة والأخرى جديبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله". فهنا تفريق واضح بين علم الله بما جرى ويجري وسيجرى وبين أن نقوم نحن بالأخذ بالأسباب

إذن، فالإسلام يحترم قانون الأخذ بالأسباب، غير أن المسلمين لم يكونوا على مستوى دينهم مع هذا القانون. يقول الشيخ محمد الغزالي في ذلك متحسرا: "ومع حرص الإسلام على قانون السببية، وتنفيذ النبي -صلى الله عليه وسلم- له بدقة؛ فأنا لا أعرف أمة استهانت بقانون السببية وخرجت عليه وعبثت بمقدماته ونتائجه كالأمة الإسلامية".

فما تحياه الأمة المسلمة الآن من استبداد سياسي، وتحلل اجتماعي، وتخلف حضاري، هو عدل وحق؛ فلوا أخذوا بأسباب الحرية وحفظ نظام الأمة والتقدم لما كانت حالهم مثل هذه الحال، ولا يظلم ربك أحدا.





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع