البحث

التفاصيل

الهجرة النبوية في الذاكرة المصرية البعيدة والقريبة

الرابط المختصر :

الهجرة النبوية في الذاكرة المصرية البعيدة والقريبة

بقلم: عصام تليمة

 

الشعب المصري -كشأن كثير من شعوب العالم العربي والإسلامي- مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخه العربي والإسلامي، ولم تكن في الماضي تمر ذكرى قومية أو دينية إلا واحتفى بها المصريون، وكذلك نخبهم السياسية والثقافية والدينية والشعبية كذلك.

وقد كانت هناك مظاهر عدة تبدو في هذه الأحداث القومية والدينية، فعلى المستوى الديني هناك أحداث معينة من السيرة النبوية لا تمر مرور الكرام على المصريين، مثل: الهجرة النبوية، يوم عاشوراء، يوم المولد النبوي، الإسراء والمعراج، تحويل القبلة في النصف من شعبان، فضلًا عن المناسبات الكبرى كالعيدين وشهر رمضان، وكذلك كان شأن المناسبات القومية المختلفة، سواء ما يتعلق بالمسلمين أو الأقباط.

لكن الملاحظ أن هذه المناسبات لم تعد كما كانت من قبل، من حيث الاحتفاء، أو من حيث الاهتمام، ولست هنا بصدد مناقشة الخلاف الفقهي الدائر بين المجيزين والمانعين، بل نحن نرصد هنا الاختلاف الذي طرأ على ذاكرتنا المصرية البعيدة والقريبة، بعد أن تحولت هذه المناسبات لمجرد منشورات تكتب على وسائل التواصل الاجتماعي، منزوعة الروح، ومنزوعة الدسم الاجتماعي والتفاعلي، في تفاعل أقرب للشكلية منه إلى التواصل الحقيقي المعبّر.

الذاكرة الثقافية:

كانت ذاكرة المصريين الثقافية حاضرة بقوة في المناسبات الدينية، ليس على مستوى المجلات الدينية فقط، بل والمجلات الثقافية والعامة، فالثابت أن المجلات الدينية تخصص عدد شهر محرم للحديث عن الهجرة النبوية، ويقوم بكتابة المقالات كتاب من المشايخ أو المفكرين الإسلاميين، بل أكثر من ذلك أن المجلات الإسلامية في مصر، تحسب سنتها بالهجري، كمجلات الأزهر، ومنبر الإسلام، والتصوف الإسلامي، والتوحيد، ومجلات أخرى حتى خارج مصر، كالوعي الإسلامي في الكويت، ومنار الإسلام في أبو ظبي، فعامها يبدأ بشهر المحرم، من حيث ترقيم أعداد السنة، أو من حيث ترقيم أعوام الصدور.

وكانت المجلات الثقافية الأخرى على المنوال نفسه من حيث الاحتفاء، فكنا نرى مجلة (الرسالة) التي كان يصدرها الأديب الكبير أحمد حسن الزيات، يخصص عدد أول المحرم لعدد من المقالات عن الهجرة، وهو تقليد ثابت عنده، في كل مناسبة دينية، ويستكتب فيه بعض العلماء، وبقية المثقفين، فكنا نرى فيها مقالات عن الهجرة النبوية والمناسبات الدينية، للعقاد، وتوفيق الحكيم، وزكي مبارك، ومحمد مندور، وغيرهم.

وما تقوم به مجلة الرسالة، تقوم به مجلات أخرى، مثل (الثقافة)، التي كان يصدرها الأديب والمفكر أحمد أمين، وكذلك الصحف اليومية، مثل: الأهرام، والأخبار، والجمهورية، وغيرها، سواء الحكومية أو الشعبية، فتخصص زاوية، أو صفحة عن المناسبة الدينية، ومنها: الهجرة النبوية.

بل رأينا كبرى دور النشر، وكبرى المجلات المصرية، وبخاصة التي تصدر كتبًا، مثل: مجلة الهلال، فلها كتاب الهلال، ودار المعارف، وغيرها، كنا نرى في مثل هذه المواسم، إصدار هذه الدور كتبًا دينية في المناسبات الدينية، لعلماء يمثلون خطًا معتدلًا ووسطيًا، وحتى لو كان من رجال السلطة، لكن الكتاب يتعرض لحدث تاريخي نبوي مهم، حسب المناسبة الدينية.

الذاكرة الفنية والإبداعية:

وكذلك الحال في الفن والإبداع، فلم يكن يترك مناسبة دينية دون وجود مادة فنية تعبّر عن الحالة، فرأينا عددًا كبيرًا من الأفلام والمسلسلات الدينية، سواء التي أنتجها التلفزيون المصري رسميًا، أو ما قامت به شركات إنتاج فني خاصة وأنتجته، فرأينا أفلامًا تتحدث عن الهجرة، وأخرى عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كهجرة النبي، وفجر الإسلام، والشيماء، وغيرها من الأفلام، وكذلك المسلسلات لم يكن يخلو شهر رمضان من أكثر من مسلسل ديني، سواء يتحدث عن قصص الأنبياء، أو عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، مرورًا بالهجرة، ومراحل السيرة العطرة كلها، أو مسلسلات دينية تتحدث عن صحابة وفاتحين، وتمر سيرتهم بأحداث السيرة النبوية المطهرة.

وعلى جانب الإبداع سواء الفني، من حيث الرسوم، أو غيرها، كنا نرى ذلك أيضًا، ومن الشعراء، فكانت المجلات الدينية والثقافية لا تخلو في شهر محرم من قصائد عن الهجرة، وفي شهور أخرى عن الذكرى، كالإسراء والمعراج، أو تحويل القبلة أو شهر رمضان والصوم، أو هلال العيد، وقلّ أن يخلو ديوان شاعر من شعرائنا الكبار من قصائد في هذه الأغراض الدينية والقومية.

ولم يخل الجانب الغنائي من ذلك أيضًا، سواء الأغاني التي كانت في الأفلام الدينية، وقد كتبها شعراء، ولحنها ملحنون كبار، وغناها كبار المغنين في مصر، ونال جانب الحج وشهر رمضان القسط الأكبر، ولم تخل بقية المناسبات من أشعار وغناء كذلك، وقلّ أن تجد مغنيًا كبيرًا مصريًا من القدامى خلا تاريخه من أغانٍ دينية.

الذاكرة الشعبية:

كما كانت للمناسبات الدينية مكانة ومكانًا في الذاكرة الشعبية للمصريين، ولذا يسمون هذه المناسبات: المواسم، ويطلقون على الليلة التي تسبق هذا اليوم، ليلة الموسم، فهناك موسم عاشوراء، وموسم مولد النبي، وموسم ليلة الإسراء والمعراج، وموسم ليلة النصف من شعبان، وهكذا، كانت هذه المواسم، مناسبة مهمة اجتماعيًا يجتمع فيها الأهل، فكل من له أبناء أو بنات، وقد شق كل منهم طريقه في الحياة، تكون هذه المواسم أو المناسبات فرصة ليتجمعوا فيها، على عشاء هذه الليلة، ويذهب الأب أو الإخوة الذكور لزيارة الأخت بواجب هذه المناسبة، ففي المولد النبوي حلاوة المولد، وفي بقية المناسبات يرسل لهن الطعام على هيئة مواد جافة.

وكانت المساجد تمتلئ في هذه الليلة بالدروس والمواعظ الدينية، ويقوم أهل الخير بإعداد الطعام للجميع فقراء وأغنياء، فلا يدري الناس أيهم الفقير أو الغني، فالكل يأكل من طعام واحدة، احتفالًا بالموسم، وهو ذكرى مناسبة معينة في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويشارك الأطفال فيها بالحضور والسماع والبهجة، فكان يتم الجمع بين الجانب الخيري والجانب الديني في مناسبة واحدة.

وكانت هناك (التقاويم)، أو ما يسميه العوام في مصر: النتائج، وهو تقويم يومي فيه مواقيت الصلاة، وفيه مواعيد الزراعة، وهو ورقي، تنزع كل ورقة يومًا بيوم، فكان هناك تقويمان في مصر: الميلادي، والهجري، وكثير من الناس يشتري الاثنين، وفي كل منهما بالطبع التاريخان الهجري والميلادي، لكن الفرق بينهما أن هناك تقويمًا يبدأ بالشهر الهجري (المحرم)، وهناك تقويم يبدأ بالشهر الميلادي: يناير، ويميز ذلك عن الآخر، أن التقويم الهجري الذي يعلّق على الحائط في البيت، تكون الصورة المرسومة عليه معبّرة عن الهجرة، وغالبًا ما يكون مرسوم عليها: حمامتين ترقدان على بيض، وخيوط عنكبوت، تحاكي غار ثور الذي دخله النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق ليلة الهجرة.

الذاكرة المعاصرة وفقدان الهوية:

الآن وبعد تحول الدوريات الثقافية إلى ذكرى، ووجدنا عددًا منها يتحول إلى مواقع إلكترونية، لم يعد هذا التقليد موجودًا، ولا الاهتمام ذاته، لا من المواقع، ولا من كتّابها، إلا القليل جدًا منها، ومجال الإنتاج الفني رغم أن المسلسلات الكبرى كلها تنتظر شهر رمضان، ومنذ سنوات طوال لم نجد عملًا فنيًا يتعلق برمضان، أو بأي مناسبة دينية، ولم يعد لنا إلا ما تم إنتاجه من قبل، يبحث عنه من يريده على قنوات اليوتيوب، لا القنوات الفضائية للأسف.

بل صار التاريخ الهجري مهجورًا ومنسيًا، ولا يكاد يتذكره الناس، اللهم إلا عند اقتراب شهر رمضان، وقليل من الناس من يتذكر في أي عام هجري يعيش الناس، بما في ذلك متدينون، وقد نبهنا مرة لذلك شيخنا المرحوم القرضاوي، وقد كان يكتب إهداء على كتابه لأحد تلامذته، وكعادته يكتب التاريخين الهجري والميلادي، وقد سألنا أي يوم نحن، وقد سأل عن الميلادي والهجري، فأجاب الحضور عن الميلادي بدقة، يومًا وشهرًا وسنة، بينما غاب عن معظم الحاضرين معرفة الهجري، وكلهم من المتدينين!

كنا قديمًا نظن أن الذين يتحدثون عن أهمية التاريخ الهجري، وتاريخنا بوجه عام، أنه تشدد ومبالغة، لكن الأيام والسنين أثبتت أنها ليست مبالغة، فأي راصد لتزايد الاهتمام بالكريسماس، والناس تستعد له قبل قدومه بشهر، وما يحدث في أبنائنا من ضعفهم في اللغة العربية، على حساب لغات أخرى، لسنا ضد إتقانها، لكن قبل ذلك يتقنون لغتهم الأم، وهو ما كان ينذر منه التربويون والمختصون، فإن أكبر آفة تصيب الإنسان أن يفقد ذاكرته التاريخية، لأنها بداية فقدانه هويته.

 

ـــــــــــــــــــ

* د. عصام تليمة؛ عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. من علماء الأزهر، حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
بيان الملتقى العالمي للعلماء والبرلمانيين والمفكرين في غرة المحرم 1445 هجري:
السابق
مُغالطات رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي بحق الصحابة في موازين العلم وقواعد الإنصاف والعقل (6)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع