البحث

التفاصيل

غزوة بدر.. ذاتُ الشّوكة طريق لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل

الرابط المختصر :

غزوة بدر.. ذاتُ الشّوكة طريق لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل

بقلم: محمد خير موسى

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

كلّما أتى رمضان حضر الحديث عنه في خطب الجمعة والدروس المسجديّة والإذاعيّة بوصفه شهر الانتصارات العظيمة، وهذا لا شكّ فيه غير أنّ هذا الحديث لا يعدو أن يكون وقوفًا على أطلال الانتصارات بوصفها ذكريات رمضانيّة دون أدنى تفعيلٍ لهذه الذّكريات لتغدو اقتناعات فكريّة تثمر سلوكًا عمليًّا يغيّر الواقع.

فالتاريخ ينبغي أن يكون شعاعًا من الماضي يطلّ علينا في الحاضر لينير لنا الطّريق إلى مستقبلنا وإلّا كان محضَ قصائد تدبّج في المديح ورثائيّات على أطلال الأمجاد المُضيّعة.

المفاصلة مع الباطل

من أعظم الحوادث التي كان لشهر رمضان أثرٌ حقيقيّ في صياغتها معركة بدر الكبرى التي وقعت في أوّل رمضانٍ يصومه المسلمون، وكانت أوّل موقعةٍ داميةٍ بين الحقّ والباطل في تاريخ الأمّة الإسلاميّة، ولقد سمّاها الله تعالى “يوم الفرقان” أي يوم التفريق بين الحقّ والباطل والمفاصلة مع الباطل، فمن أراد أن يتمثّل يوم بدر ويحييه حقّ الإحياء فأوّل ما يجب عليه هو الفرقان أي المفاصلة مع الباطل والانحياز للحقّ وإعلان رفض الباطل.

ولن تجد مشهدًا أكثر تدليسًا وذرًّا لغبار الرذيلة الفكريّة في العيون من أن يتغنّى بعض أهل الباطل اليوم من الطغاة والمستبدّين بغزوة بدر ويشاركون في الاحتفال بذكراها، ويلقي أصحاب العمائم الكلمات مديحًا لهم في ذكرى الفرقان بين الحقّ والباطل!

أرادوا العير وأراد الله لهم النّفير

بلغ النبيّ صلى الله عليه أن قافلةً لقريش يقودها أبو سفيان في طريقها من الشّام إلى مكّة؛ فيها ألف بعيرٍ موقّرةٌ بالحرير والبضائع الثّمينة، وليس معها أكثر من أربعين حارسًا يصحبونها في رحلتها.

من الطبيعيّ أن يرى فيها المسلمون فرصةً لاسترداد بعض الحقّ الذي اغتصبته قريش منهم، وهي التي اغتصبت دورهم وأموالهم وتجاراتهم عقب هجرتهم من مكّة المكرمة إلى المدينة.

ولم يكن في نيّة النبيّ صلى الله عليه وسلّم القتال على الإطلاق ولهذا طلب من الموجودين في المدينة أن يتجهّزوا على عجلٍ للخروج لملاقاة القافلة، وكان طلبه متركزًا على الموجودين في المدينة آنذاك دون الحاجة إلى انتظار أحد من الغائبين خارجها، وكان الكثير من الصحابة لهم أعمالهم في الزراعة وغيرها في محيط المدينة ولم تتم دعوتهم ولا انتظارهم، وهذا ما يفسّر أنّ الذين خرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلّم لم يكونوا أكثر من ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلًا وفي أعلى الروايات ثلاثمئة وسبعة عشر رجلًا.

يشاء الله تعالى أن تفلت القافلة بحنكة أبي سفيان الذي كان قد أرسل النذير إلى قريش في مكة فجهزوا جيشًا قوامه تسعمئة وخمسين مقاتلًا تجهزوا بعدّة القتال و{خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}.

أفلتت العير التي أرادها المسلمون، ولم يكن أمامهم إلّا المواجهة أو الانسحاب فعقد النبي صلى الله عليه مجلسًا استشاريًّا استمع فيه إلى مختلف مكونات الخارجين معه من المهاجرين والأنصار وعلى ضوء تلكم المشاورات أُعلن النفير وبدأ تجهيز الخارجين لملاقاة الجيش ليكونوا أوّل جيشٍ يواجه جيش المشركين في أولى المعارك الدّامية بين الحقّ والباطل.

إنّها طريق ذات الشّوكة

هذا المشهد ليسَ صورةً عابرةً تطويها صفحات الأيّام، بل تحوّل إلى قانون يرسّخه القرآن الكريم في معركة التدافع بين الحقّ والباطل المستمرّة إلى قيام السّاعة، ولهذا بقي مشهد إرادة المسلمين للعير وإرادة الله تعالى لهم النفير آياتٍ تتلى إلى قيام السّاعة لترسم منهج تحصيل الحقوق ومجابهة الباطل؛ فيقول ربنا تبارك وتعالى في سورة الأنفال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.

في هذه الآيات يبيّن الله تعالى أن الرّغبة الدّاخليّة عند المسلمين كانت أن يحصلوا على القافلة وما فيها من أموال دون أيّ قتال، ففي ذلك تحصيل لبعض حقهم بغير ذات شوكة أي بغير ألمٍ وتضحية ومعاناة وشدّة.

لكنّ الله تعالى شاء أن يرسّخ الطريق الحقيقيّ لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل فاختار لهم طريق ذات الشّوكة؛ أي طريق ذات الألم وذات التضحية وذات السّلاح وذات الدماء وذات بذل المهج والأرواح.

مخطئون أولئك الذين يظنّون أنّ طريق إحقاق الحقّ وإبطال الباطل معبدة بالحرير وعلى جانبيها الزّهور، بل إن الله تعالى سمّاها ذات الشّوكة؛ فهي طريق مليئة بالأشواك والمصاعب والمتاعب والآلام والتضحيات، إنّها طريق معبّدة بالدّماء ومفروشة بالأرواح، وهذا أهمّ درسٍ ينبغي أن يستحضره أهل الحقّ وهم يحيون ذكرى بدر، وينبغي أن يضعوه نصب أعينهم كلّما شعروا بالتّعب وآثروا الرّاحة إن رأوا استعلاء الباطل وتردّي أوضاع أهل الحقّ.

وما أجمل ما قاله سيد قطب في بعض تعليقه على المشهد والآيات: “فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي لو كانت لهم غير ذات الشّوكة قصّة غنيمة؛ قصة قومٍ أغاروا على قافلة فغنموها! فأمّا بدر فقد مضت في التّاريخ كله قصة عقيدة؛ قصّة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل؛ قصّة انتصار الحق على أعدائه المدجّجين بالسّلاح المزوّدين بكلّ زاد والحق في قلّة من العدد، وضعف في الزّاد والرّاحلة؛ قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي؛ بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال! ولكنّها ببقيّتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي، وبيقينها في حقيقة القوى وصحة موازينها؛ قد انتصرت على نفسها، وانتصرت على من فيها، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحانًا ظاهرًا في جانب الباطل فقلبت بيقينها ميزان الظاهر فإذا الحقّ راجحٌ غالب”.





السابق
صدمة واستنكار بعد تداول مقطع فيديو يظهر شابًا يطعن إمام مسجد خلال صلاته في ولاية نيوجرسي الأميركية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع