البحث

التفاصيل

أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار

الرابط المختصر :

أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار

بقلم: الشيخ د. تيسير رجب التميمي

 

شهر رمضان المبارك الذي هلَّ علينا هلاله أمس جعله الله لنا موسم خير عميم عظيم ، ولو علمت الأمة حقيقته وخيره لتمنت أن يكون عامها كله بل عمرها كله رمضان ، فهو غنيمة للمسلم بما يكتسب من صيام أيامه وقيام لياليه والانقطاع إلى الله عز وجل بالعبادة فيه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيره؛ {...ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه...} رواه أحمد.

وفي هذه العشر الأولى منه ندعو الله سبحانه وتعالى أن يغمرنا برحمته ، وأن يعيذنا من وساوس شياطين الإنس والجن جميعاً ، وأن يقيَّدّهم ويضيَّق عليهم فلا يبلغون في رمضان من الشر والإفساد ما يبلغون في غيره ، وهذا وعد الرحمن لنا ، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا كان أول ليلة من رمضان صُفِّدَت الشياطين ومَرَدَةُ الجن وغُلِّقٌتْ أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة} رواه الترمذي.

ونسأله سبحانه وتعالى أن يرحمنا بشفاعة القرآن ، فقد قال شفيعنا وحبيبنا رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم { الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام: أيْ ربِّ منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفّعْني فيه ، ويقول القرآن: ربِّ إني منعته النوم بالليل فشفّعْني فيه ، فيشفعان} رواه أحمد.

ونحمد لله عز وجل أن رحمنا بإضافة جزاء الصيام إلى نفسه سبحانه وتعالى فلا أحد يحصي ثوابه غيره ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  في الحديث القدسي؛ {قال الله عز وجل : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به} رواه البخاري ، ونحمده أيضاً أنه سيرحم الصائمين يوم القيامة بأن يخصهم وحدهم بدخول الجنة من باب الريان ، قال صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة باباً يقال له الرَّيَّانُ يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يُقَالُ أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد} رواه البخاري.

وحث الله جل وعلا عباده المؤمنين على التراحم فيما بينهم في شهر رمضان المبارك تقرباً إلى الله ، ومن صور ذلك تفطير الصائمين ، قال صلى الله عليه وسلم؛ {من فطر صائماً صلت عليه الملائكة وكان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً} رواه الترمذي ، لذا فإننا ندعو للمؤمن أن يكرمه الله بتفطير الصائمين لما لذلك من فضل ، فعَنْ أَنسٍ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رضي الله عنه فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ ، ثُمَّ قالَ النبيُّصلى الله عليه وسلم؛ {أَفْطَرَ عِندكُمْ الصَّائمونَ ، وأَكَلَ طَعَامَكُمْ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ المَلائِكَةُ} رواه أبو داود، ويتسابق المسلمون في هذه السُّنَّة الحميدة  تجسيداً واستجابة للتوجيهات الربانية والنبوية ، وتعميقاً للتكافل والتعاطف الذي يعتبر علامة مميزة للمجتمع المسلم، ولكن ينبغي أن تكون بعيدة عن الإسراف والرياء والانتقاء والمكافأة، وأن تقترن بالتزاور وصلة الرحم وصفاء القلوب وصدق المشاعر ، وبتجنب الهجران وترك القطيعة بين الإخوة.

ومن أبرز صور تراحم المسلمين في شهر رمضان التيسير على عباد الله بعدم رفع الأسعار وتحويل هذا الشهر إلى شهر معاناة وحرمان من خيرات الله وأرزاقه ، فإن من أجلّ حكم الله تعالى أن دافع الصوم هي فضيلة التقوى ، فكيف يكون تقياً من ضيَّق على الناس واستغل حاجاتهم ، فالتجارة مع الله أكثر بركة وأعم رزقاً وأوسع فضلاً ،فيجدر به ألا يجعله سبباً في اختلال الإنفاق، ولا يجعله موسماً تجارياً يستغله لزيادة الأرباح الطائلة . إن التخفيف عن المسلمين في هذه الظروف التي يمر بها أبناء شعبنا حيث يحاربهم الأعداء في لقمة العيش هو تقرب إلى الله تعالى ، فإن من خفف عن مسلم خفف الله عنه يوم القيامة.

ثم سوف تظلنا العَشْر الثانية من شهر رمضان الفضيل ، فندعوه سبحانه أن يفتح لنا فيها سائر أبواب المغفرة ، وأن يقبل منا التوبة والإنابة إليه ، وأن يمحو عنا الآثام والحوبات ويضع عنا الأوزار ، ومن أبواب المغفرة الصدقة ، قال صلى الله عليه وسلم {الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار} رواه الترمذي ، وتتأكد الصدقة في رمضان ويتضاعف الأجر والثواب عليها لأنه شهر الجود والكرم والعطاء.

ومدارسة القرآن الكريم وكثرة تلاوته باب من أبواب المغفرة أيضاً ، ومدارسته بأن يقرأه المؤمن على غيره ويقرأه غيره عليه ، فقد؛ {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجودُ ما يكون في شهر رمضان ، إن جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنةٍ في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} رواه البخاري.. وقراءة القرآن مستحبة في كل وقت استجابة لقوله تعالى {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} المزمل 4 ، وقال صلى الله عليه وسلم: {من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف} رواه البخاري ، وتلاوته في رمضان آكد وأعظم أجراً.

والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء والذكر والتسبيح والتهليل من أبواب الغفران ، فالدعاء عبادة عظيمة وعنوان الإيمان والعبودية لله سبحانه ، قال تعالى في سياق الحديث عن الصيام وأحكامه؛ {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة 186 ، ولنعلم أن دعوة الصائم لا ترد.

وذِكْرُ الله تعالى من العبادات والقُرُبات ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً ، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة} رواه البخاري ، والتسبيح من الباقيات الصالحات ومن أيسر الطاعات ، قال صلى الله عليه وسلم: {كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده} رواه البخاري.

ومن السنة قيام رمضان وإحياء لياليه بالتراويح ، وهو باب آخر من أبواب المغفرة ، قال صلى الله عليه وسلم: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} رواه البخاري ، ثم إن الله تعالى يطَّلع كل ليلة على عباده القائمين الركّع السجود حتى يطلع الفجر فيقول: {هل من سائل فأعطيه ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من تائب فأتوب عليه ؟ هل من داع فأجيبه؟} رواه أحمد.

وفي العشر الثالثة من ليالي رمضان المبارك نسأل الله عز وجل فيها أن يعتق رقابنا من النار ، ويجدر بالمؤمن دوماً السعي بالخير والعبادة وصالح الأعمال للنجاة من غضب الله تعالى ، فلْنغتنمْ هذه العشر الأواخر التي لا تأتي إلا مرة في كل عام ، قال صلى الله عليه وسلم: {..فكل الناس يغدو فبائع نفسه : فمعتقها أو موبقها} رواه مسلم، وحذار أن ينقضي رمضان ولا ندرك أجره أو ألاَّ نخرج منه بفضيلة التقوى والاستقامة ، قال صلى الله عليه وسلم { رغِمَ أَنف رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبل أن يُغفَرَ له، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَه أبواهُ الكِبَر فلم يُدْخِلاهُ الجنة} رواه الترمذي ، ومعنى رغب أنفه أي خاب وخسر.

ومن مكانة هذه العشر أن فيها ليلة القدر ، وفي بيان منزلة هذه الليلة المباركة قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } القدر1-5 ، وقال صلى الله عليه وسلم في بيان فضلها { أتاكم رمضان شهر مبارك ، فرض الله عز وجل عليكم صيامه ، لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم } رواه النسائي ، وإحياؤها وتحريها لقيامها باب من أبواب المغفرة، قال صلى الله  عليه وسلم؛ {من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} رواه البخاري.

والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان سنة مؤكدة لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه حيث {كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده} رواه البخاري ، وقال سبحانه وتعالى { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} البقرة125 ، وفي السنة النبوية انه{كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجدَّ وشدَّ المئزر} رواه مسلم.

وشد الرحال إلى المسجد الحرام بالعمرة وإلى المسجد النبوي للصلاة والزيارة من سنن الإسلام وشعائره، والعمرة في رمضان عظيمة الأجر ، قال صلى الله عليه وسلم { عمرة في رمضان تقضي (تساوي) حجة معي} رواه البخاري، فكيف بها إذا أداها المسلم في العشر الأواخر من رمضان؟ إن من يعتمر في العشر الأواخر هو الذي يدرك حلاوتها في روحه وقلبه وجوارحه.

ونحن في أرض الإسراء والمعراج حقُّ علينا أن نشد الرحال إلى مسجدنا الأقصى المبارك للصلاة والاعتكاف فيه وإحياء لياليه وبالأخص ليلة القدر بالتراويح والدعاء والتسبيح، ويتعيَّن علينا في خضم المؤامرات المتواصلة والمتسارعة التي تحاك ضده؛ وفي ظل التهديدات التي تحيط به وتستهدف هويته وانتسابه لأمة الإسلام ؛ يتعيَّن علينا أن نكثّف حضورنا فيه عبادة ورعاية وزيارة ، إعماراً وحماية وعمارة.

هذا بعض من بركة وخير رمضان المبارك ، وسبب لفرحة المؤمنين بقدومه ، فقد قال الله تعالى في الحديث القدسي عن هذه الفرحة الكبيرة به: {للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه} رواه البخاري، فهنيئاً للأمة الإسلامية أن بلّغها شهر رمضان ، وجعله موسم فضل وخير عميم عليها ، وأذاقها حلاوة العبادة فيه وتقبلها منها ، وأعاده الله عليها بالعزة والنصر والتمكين.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي للعماء المسلمين، قاضي قضاة فلسطين، رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع