البحث

التفاصيل

الفتوى رقم (2) لعام 1444 هـ الصادرة عن لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بشأن الاعتقال التعسفي في ميزان الشريعة

الفتوى رقم (2) لعام 1444 ه

الصادرة عن لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

بشأن الاعتقال التعسفي في ميزان الشريعة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وبعد:

فانطلاقا من المسؤولية الشرعية التي تقع على عاتق لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وما لاحظته - وبخاصة في الآونة الأخيرة - من كثرة الاعتقالات التعسفية التي تحصل في عديد من الدول العربية والإسلامية وغيرها، فإنها ترى من واجباتها تبيين الحكم الشرعي لهذه المسألة؛ التزاماً بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ‌وَلَا ‌تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]

تعريف الاعتقال التعسفي:

يقصد بـ " الاعتقال التعسفي" قيام السلطة - دولة أو نحوها- بالقبض على شخص – رجلا أو امرأة أو طفلا- من بيته أو من مقر عمله، أو من الشارع أو من أي مكان، وسوقه إلى مكان الاحتجاز معلوما كان أو مجهولا، دون دليل، أو اشتباه معقول، أو دون اتباع الإجراءات القانونية من استخراج إذن السلطات المختصة للتحقيق مع الشخص، أو باستخراج إذن رسمي لكنه دون حق، ولكن بسبب الخصومة السياسية، أو الشكاية الكاذبة، أو نحوهما.

الحكم الشرعي:

ترى لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن الاعتقال التعسفي حرام شرعا؛ سواء صدر من جماعات خارجة عن القانون، أم كان من سلطات الدولة نفسها، لا فرق في هذا بين الحالتين، لأن السلطة- ولو شرعية - لا تخول لأصحابها التعدي على حقوق الإنسان وكرامته التي أقرتها الشريعة، وأن يد الدولة ليست مسلطة تفعل ما تشاء مع الشعب، بل يجب أن تكون مقيدة بقواعد الإسلام والقوانين والأعراف الإنسانية التي استقرت على احترام حقوق الإنسان في العيش بحرية، وأن مساس حرية الإنسان في نفسه أو جسده أو ماله أو عمله دون جريرة أو ذنب اقترفه من كبائر الذنوب، وإن كان ذلك حراما في حق الأفراد والجماعات، فهو في حق السلطة والدولة أشد جرما وأعظم ذنبا؛ إذ حماية الأفراد من واجبات السلطة في الشريعة، فهي بمثابة الحامي للشعب من كل اعتداء وظلم، وأن من واجبات الدولة أن تحفظ على الناس دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، وأموالهم، وحريتهم، وأن تقوم بينهم بالعدل والقسط، على أن هذا لا يمنع الدولة من القيام بالحبس إن كان لمسوغ شرعي مقبول، مع اتخاذ كافة الإجراءات القانونية التي تسمح للمتهم بالدفاع عن نفسه وفق ما هو متفق عليه.

والأدلة على تحريم الاعتقال التعسفي كثيرة، من أهمها ما يلي:

أولًا- تدل على حرمته نصوص شرعية كثيرة في حرمة الاعتداء على الإنسان وكرامته ،منها قوله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾] الأحزاب: 58[، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا" قال الشوكاني في الفتح الرباني (8/3776): "أصبح - أي هذا الحديث- متواتراً تواتراً معنوياً" وعلى هذا الإجماع.

ثانياً- أنه ينافي عددا من مقاصد الشريعة، ومن أهمها: مقصد الحرية، ومقصد الكرامة الإنسانية، ودليله قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ‌كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، فالحبس التعسفي ينافي الكرامة الإنسانية.

ثالثاً- أن الشريعة حرمت الظلم بكل أشكاله؛ سواء أكان حبسا للنفس، أم تعذيبا لها، أم أخذا لمال المرء دون حق، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، منها ما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر  - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تعالى أنه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا". صحيح مسلم (2577) وغيره.

 وقد ذكر العلماء أن الظلم من أشد المعاصي عند الله، قال ابن الجوزي عن الظلم: "والمعصية فيه أشد من غيرها؛ لأنه لا يقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار" (فتح الباري لابن حجر 5 / 100 ط دار المعرفة)

رابعاً- نص الفقهاء على أن الحبس- إذا لم يكن لسبب مشروع- ظلم، وأن التهديد به من الإكراه المحرم شرعا، فعند الشافعية: " ويحصل الإكراه بتخويف بضرب....وحبس . .. قال النووي:" وفيما يكون التخويف به إكراها سبعة أوجه، ثم ذكر منها:" الضرب الشديد والحبس وأخذ المال". (روضة الطالبين للنووي 8/ 59 ط المكتب الإسلامي)

بل ذهب الحنفية إلى مجرد التهديد لذوي الوجاهة بالضرب أو الحبس إكراه، قال العيني في (البناية شرح الهداية 11/ 42 ط دار الكتب العلمية): " فإن مطلق القيد والحبس إكراه في حقه".

وعند الحنابلة قال ابن قدامة " ومن شرط الإكراه ثلاثة أمور: أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب... الثاني: أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به... الثالث: أن يكون مما يستضر به ضررا كثيرا؛ كالقتل والضرب الشديد والقيد والحبس الطويل". (المغني المطبوع مع الشرح الكبير 8 / 261 , 262 ط الكتاب العربي):

وفي فقه الإمام مالك قال الشيخ خليل: " أو أكره... بشيء مؤلم؛ من قتل، أو ضرب، أو سجن أو قيد، أو صفع لذي مروءة بملأ". (جواهر الإكليل شرح مختصر خليل 1/ 340 ط دار الفكر) ---

خامساً- أن الاعتقال التعسفي أو تقييد الحريات مما ينافي وظائف السلطة في الدولة المسلمة، فإن أهم واجبات السلطة إقامة العدل بين الناس، فمن باب أولى أن تكون هي عادلة. قال الماوردي في واجبات السلطان: "تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين، حتى تعم النصفة، فلا يعتدي ظالم ولا يضعف مظلوم". (الأحكام السلطانية للماوردي ص 15- 17ط دار الكتب العلمية).

سادساً- أنه يترتب على الاعتقال التعسفي عديد من المضار على الفرد والمجتمع والدولة، والضرر مرفوع في الشريعة كما تقرر،  ففي ظلم السلطة إخلال بتحقيق الأمن الاجتماعي، وإثارة الفوضى بين الناس، وعدم ثقة الناس بالحكام؛ مما يترتب عليه السعي في الخراب والفساد على المجتمع، وتضيع هيبة الدولة في عيون الناس، وهذا كله مما يعود بالضرر على الدين والدنيا، وقد أمرت الشريعة بوحدة المسلمين أفرادا وحكاما، فجاء النهي عن التنازع، كما قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ‌وَلَا ‌تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46] .

وإذا كانت بعض الحكومات التي تستعمل الاعتقال التعسفي ترى أن هذا من هيبة الدولة، فمن الواجب الاحتكام عند التنازع في هذا إلى أحكام الشريعة، كما قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ‌فَرُدُّوهُ ‌إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59]، وبيان الاختلاف في التنازع إلى الكتاب والسنة، ومرده إلى الفقهاء المجتهدين والعلماء الصالحين، كما قال تعالى: ﴿‌وَلَوْ ‌رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83].

وتدعو لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين جميع الحكومات العربية والإسلامية وغير الإسلامية إلى تحري العدل والحق، وعدم الاعتداء على الأفراد بالظلم والعدوان، وأن تسعى الحكومات إلى كسب شعوبها؛ بميزان العدل وتحقيق الكرامة الإنسانية، وألا تكون تلك المخالفات داعية إلى الخروج عن النهج القويم، وألا تكون سببا في تحقيق الفوضى في المجتمعات المسلمة، وأن المحاكمات يجب أن تخضع لسلطة القانون وفق الإجراءات المتعارف عليها، دون ظلم أو تعسف، وأن تكون تقوى الله وحب الأوطان ميزان المصلحة الشرعية في بلادنا.

 

والله الهادي إلى الحق والصواب

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

 

أصحاب الفضيلة أعضاء لجنة الاجتهاد والفتوى الموافقون على القرار

1

علي القره داغي

رئيس اللجنة

2

فضل مراد

المقرر العام

3

نور الدين الخادمي

عضوا

4

سلطان الهاشمي

عضوا

5

فريدة صادق عمر

عضوا

6

خالد حنفي

عضوا

7

مصطفى داداش

عضوا

8

عبد الله الزبير

عضوا

9

سالم الشيخي

عضوا

10

محمد كورماز

عضوا

11

مسعود صبري

عضوا

12

إبراهيم أبو محمد

عضوا

13

عكرمة صبري

عضوا

14

خالد سيف الله الرحماني

عضوا

15

أحمد كافي

عضوا

 

 

 

 





التالي
الابتزاز الإلكتروني في ميزان الشريعة بقلم الدكتور مسعود صبري 
السابق
التعريف بموسوعة الأعمال الكاملة للإمام يوسف القرضاوي رحمه الله (بقلم: إسماعيل إبراهيم)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع