البحث

التفاصيل

الإنطاء النبوي لتميم الداري معجزة وبشرى بهوية فلسطين الإسلامية

الرابط المختصر :

الإنطاء النبوي لتميم الداري معجزة وبشرى بهوية فلسطين الإسلامية

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي

 

اختص الله جل وعلا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بعدد من الفضائل والمكرمات مما لم يعطها لغيره من الأنبياء والرسل الذين سبقوه تشريفاً له ورفعة لمكانته بينهم ، ومن دلائل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {أعطيتُ خمساً لم يُعْطَهُنَّ أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجِداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة} رواه البخاري، وفي رواية أخرى: {فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍّ: أعطيتُ جوامع الكلم، ونصرتُ بالرعب، وأحلتْ لي الغنائم، وجُعِلَتْ لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلتُ إلى الخلق كافة، وخُتِمَ بي النبيون} رواه مسلم،، وجوامع الكلم أنه صلى الله عليه وسلم كان لفصاحته وبلاغته يتكلم بالكلام القليل يجمع به المعاني الكثيرة.

ويُعَدُّ الإنطاء النبوي الشريف للصحابي الجليل سيدنا تميم بن أوس الداري رضي الله عنه إحدى هذه الخصائص النبوية العديدة ، فليس لأحد من الأئمة والخلفاء والحكام من بعده أن يُقطِعَ أحداً شيئاً لم يدخل في ملك المسلمين، وهو من بشارات الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته بأن أرض فلسطين ستؤول إلى المسلمين، وقد وقع ذلك فعلاً بعد زمن قصير من الإنطاء النبوي، فكان فتح بيت المقدس وفلسطين في السنة الخامسة عشرة من الهجرة النبوية، وبعدها استلم الداريون أراضي الإقطاع، ثم أقبل المسلمون الفاتحون لبيت المقدس وفلسطين فيما بعد على وقف كثير مما يملكون من أراضيها وعقاراتها في وجوه الخير والبرّ، فما من ذرة من ترابها من رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش (أَيْلَةَ) جنوباً إلا أُوقِفَتْ وقفاً إسلامياً صحيحاً، تؤكد ذلك وتشهد عليه وثائقُ تسجيلِها في سجلاَّت المحاكم الشرعية في فلسطين.

ويُعَدُّ هذا الإنطاء النبوي الشريف أيضاً من المعجزات النبوية الكثيرة التي أظهرها الله عز وجل على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعجزات هي جزء من العقيدة والدين لأنها من عند الله عز وجل، وتعرَّفُ بأنها أمرٌ خارقٌ للعادة مقرون بالتحدِّي وسالم عن المعارضة يظهره الله على يد رسله، والغرض منها تأييدهم وإقامة الحجة على الناس ليصدقوا ويؤمنوا برسالاتهم ويتبعونهم عليها، وكلمة معجزة لم يستخدمها القرآن الكريم بل استخدم كلمات أخرى للدلالة عليها كالآية والبرهان والبيّنة والسلطان، فمثلآً قال سبحانه عن عصا سيدنا موسى ويده: { ... فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} القصص 32، وعلى لسان سيدنا صالح مخاطباً قومه قال تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الأعراف 73.

ووجه الإعجاز في هذا الإنطاء النبوي الشريف سواء في مرحلتَيْه المكية والمدنية أنه كان قبل الفتح الإسلامي لأرض فلسطين المباركة، وأنه كان بشارة نبوية على فتحها واستخلاف أمة محمد فيها واكتسابها الهوية الإسلامية، وهي البشارة الثانية بهذا الفتح بعد معجزة الإسراء إليها من مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية، والتي خلَّدها القرآن الكريم بقرآن يتلى أناء الليل والنهار إلى يوم القيامة وهي قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } الإسراء 1.

     أما عن الإنطاء النبوي لتميم في العهد المكي ( كما ذكرتُ في مقال الجمعة الماضية ) فقد أوردت كتب السيرة النبوية ان عكرمة رضي الله عنه قال { لما أسلم تميم الداري قال يا رسول الله : إن الله مظهرك على الأرض كلها فهب لي قريتي من بيت لحم ، قال هي لك ، وكتب له بها ، فلما استخلف عمر وظهر على الشام جاء تميم الداري بكتاب النبي ، فقال عمر أنا شاهد ذلك فأعطاها إياه ، وأمضى ذلك لهم } وهذا الكتاب في العهد المكي شهد عليه عباس بن عبد المطلب وجهم بن قيس وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنهم ، وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإنطاء للداريين لما وفدوا عليه بعد غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة بكتاب جديد شهد عليه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً .

     وقد ظهرت قديماً بعض التشكيكات المُغْرِضَة في صحة هذا الإنطاء النبوي وثبوته ونفاذه بذريعة عدم وقوع أرضه في ملك المسلمين ، ومن أمثلة هؤلاء المشكّكين ما كان من القاضي الهروي ، فقد اعترض بعض الولاة على آل تميمٍ بالشام وأراد انتزاع الإقطاع منهم ، فحضر القاضي الهروي ، فاحتج الدَّاريون بكتاب الإقطاع الذي أعطاه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال القاضي [ هذا الكتاب ليس بلازمٍ لأنَّ النبي أقطع ما لا يملك ] فاستفتى الوالي الفقهاء وكان الإمام أبو حامد الغزالي حجة الإسلام وصاحب كتاب إحياء علوم الدين حينئذٍ ببيت المقدس فقال [ هذا القاضي كافرٌ ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال " زُويت لي الأرض كلها " وكان يُقطع في الجنة فيقول قصر كذا لفلان ، فوعده صدق وعطاؤه حقٌّ ] فخزي القاضي والوالي ، وبقي آل تميمٍ على ما بأيديهم  ، فكانوا كلما نازعهم أحد أتَوْا بكتابهم إلى السلطان بالديار المصرية ليقفَ عليه ويكفَّ عنهم من يظلمهم .

     وقبل هذه الواقعة بقرون أورد البلاذري في كتابه فتوح البلدان أن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك إذا مر بهذه القطعة لم يُعَرِّجْ وقال [ أخاف أن تصيبني دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ] ولم يتعرض للداريين بأذىً أبداً ، ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الواردة في نهاية كتاب الإنطاء {... فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } ، وكذلك فعل الخليفة هشام بن عبد الملك ، فقد رفض أن يمر بمدينة الخليل وهوفي طريقه للحج خوفاً من أن يؤذي بعض حاشيته أوعسكره أحداً من الداريين فتصيبه لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم .

     وذكر السيوطي في رسالته الفضل العميم في إقطاع تميم ما أورده المؤرخ الطبري أن سعيد بن زياد بن أبي هند الداري رضي الله عنه لما دخل على الخليفة العباسي المأمون وهو بدمشق ، قال (المأمون) [ أرني الكتاب الذي كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لكم ] قال فأريْتُه ، قال : فقال [ إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على الخاتم ] فقال له أبو إسحق المعتصم : حُلَّ العقد حتى تدري ما هو ، قال : فقال (المأمون) [ ما أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم  عقد هذا العقد ، وما كنتُ لأحل عقداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ثم قال للواثق [ خذ فَضَعْهُ على عينيك لعل الله يشفيك ] وجعل يضعه على عينه ويبكي  .فالمأمون خاف أن يحل العقد الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم على رقعة الإنطاء إجلالاً وإكباراً له ولفعله .

      والحديث الذي ذكره حجة الإسلام الغزالي هو حديث صحيح ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله قد زوى لي الأرضَ فرأيتُ مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطِيتُ الكنزين الأحمر والأبيض } رواه مسلم ، وزوى معناها جمع ، وفي هذا الحديث معجزات ظاهرة ، وقد وقعت كلها بحمد الله كما أخبر به صلى الله عليه وسلم ، قال العلماء [ المراد بالكنزين الذهب والفضة وهما كنزا كسرى وقيصر ملِكَيْ العراق والشام ، وفي ذلك إشارة إلى أن مُلك هذه الأمة سيكون معظم امتداده في جهتَيْ المشرق والمغرب ، وهكذا وقع . وأما في جهتَيْ الجنوب والشمال فقليلٌ بالنسبة إليهما ... ]

     وقصة الإقطاع النبوي لتميم وتحققه ونفاذه بعد الفتح يشبه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم لسراقة بن مالك بسوارَيْ كسرى أثناء الهجرة ، وكان سراقة ممن يقتفون الأثر ، فانطلق باحثاً عن رسول الله طمعاً في الجائزة الكبرى التي رصدتها قريش لمن ياتي به حياً أو ميتاً ةهي مائة من الإبل ، قال سراقة رضي الله عنه في ذلك { ... أتيتُ فرسي فركبتُها فرفعتُها تقرُبُ بي حتى دنوتُ منهم فعثرتْ بي فرسي فخرَرْتُ عنها ، فقمتُ فأهويْتُ يدي إلى كنانتي فاستخرجتُ منها الأزلام فاستقسمتُ بها أضرُّهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره ، فركبتُ فرسي وعصيتُ الأزلام ، تقرُبُ بي حتى إذا سمعتُ قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفتْ وأَبو بكر يكثر الالتفات ساختْ يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررتُ عنها ، ثم زجرتُها فنهضتْ فلم تكد تُخْرِج يديها ، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عَثَانٌ ساطعٌ في السماء مثل الدخان ، فاستقسمتُ بالأزلام فخرج الذي أكره ، فناديتُهم بالأمان فَوَقَفُوا فركبتُ فرسي حتى جئتُهم ، ووقع في نفسي حين لقيتُ ما لقيتُ من الحبس عنهم أن سيظهرُ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية ، وأخبرتُهم أخبار ما يرِيد الناس بهم وعرضتُ عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسأَلاني إلاَّ أن قال : أَخْفِ عنا . فسألتُه أن يكتب لي كتابَ أمنٍ فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه البخاري ، ومعنى لم يرزآني أي لم يطلبا من مالي شيئاً .

     وتتمة هذه القصة ذكرها الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة ، وذكرها أيضاً الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتابه الاستيعاب في معرفة الأصحاب وهي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك : كيف بك إذا لبستَ سوارَىْ كسرى ؟ قال فلما أتى عمر بسوارَىْ كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه إياهما ـ وكان سراقة رجلاً أَزَبَّ كثير شعر الساعدين ـ وقال له ارفع يديك ، فقال : الله أكبر ، الحمد لله الذي سلبهما كسرى ابن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي رجل من بني مدلج ـ ورفع بها عمر صوته } ومنطقة كسرى هي أحزمته ، وفي رواية أن عمر رضي الله عنه أمر سراقة أن يطوف بين الناس ليروا تحقق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعده لسراقة ، لذا فقد وصفه الكاتب المصري الراحل أحمد شوقي الفنجري بأنه الصحابي المتوّج ، وألف فيه كتاباً بالعنوان ذاته .

     وإنه لأمرٌ مستغرب ويدعو إلى الدهشة ، فمحمد هذا شخص كذبه قومه ومكروا به وهمُّوا بقتله ، فاختفى هرباً منهم في الغار أياماً ثم خرج من مكة خائفاً شريداً طريداً وما معه إلا صديقه الصِّدِّيق فقط يبحثان عن مأوىً آمن وأنصارٍ يحمونه من قومه ، ويَعِدُ سراقة وهو على هذه الحال بأن دينه سيظهر وأنه سوف يأخذ عرش كسرى ، وأن سراقة سيلبس سواريه ! إنها الثقة الكاملة بالله ورسالته ، إنه اليقين الراسخ بنصر الله وتأييده وتمكينه ، والمذهل في الواقع أن هذا ما كان بالفعل بعد سنوات ، والتاريخ الوثيق شاهد على ذلك ، أنها لمن دلائل النبوة وصدق بشاراتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ د. تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس





التالي
"الإسلاموفوبيا".. لإقالة رئيسة اتحاد طلبة بريطانيا المسلمة شيماء دلالي بدعوى "معاداة السامية"
السابق
باكستان.. الجماعة الإسلامية تقيم مؤتمر شبابيا بحضور أكثر من 50000 شاب (صور)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع