البحث

التفاصيل

من “الكوفيّة” إلى “الصّلعة” حكايةُ شعبٍ لا تموتُ ثورتُه

الرابط المختصر :

من “الكوفيّة” إلى “الصّلعة” حكايةُ شعبٍ لا تموتُ ثورتُه

بقلم: محمد خير موسى

 

للشّعوب الثّائرةِ على الطّغيانِ والاحتلال والاستبداد روحٌ لا تموتُ، بل تنبعثُ بين فينةٍ وأخرى على شكلِ أفعالٍ تمتدّ أفقيًّا في المجتمعات لتعيدَ لنا أملًا ربّما خبا قليلًا أو تبعثَ يقيننا بعد أن رقد في فراش اليأس والإحباط زمنًا.

وهناكَ في فلسطين شعبٌ لا يزالُ قابضًا على جمرِ المواجهة مع المحتلّ، لا يتركُ ثائريه في الميدان وحدهم، بل يحتضنهم احتضان الأمّ الرّؤوم، ويسندهم ببعض الظواهر التي تعني للنّاظر إليها الكثير من معاني تجذّر روح الثّورة في عموم النفوس وتحوّلها من أفعالٍ يقومُ بها الفردُ الثّائر والمقاوم إلى ثقافة شعبٍ يعرفُ جيّدًا معنى أن يكون حيًّا.

الكوفيّة سلاحٌ ثوريّ

في الثّورة الفلسطينيّة الكبرى كان الثّوّار الفلسطينيّون يأتون من القرى لتنفيذ عمليّاتهم ضدّ شخصيّات ودوريّات الاحتلال البريطانيّ في المدن الفلسطينيّة.

وكعادة أهل القرى كان الثّوار يلبسون الكوفيّة ويتلثّمون بها، بينما كان لباس أهل المدن الفلسطينيّة آنذاك هو الطربوش التركيّ الأحمر، فبدأت سلطات الاحتلال البريطاني تستهدف من يلبسون الكوفيّة في المدن وتعتقلهم، وذلك لسهولة تمييزهم عن المحيط الاجتماعيّ العام، وتسبّب هذا في إحباط العديد من عمليّات الثّوّار، واعتقال الكثير من أهل القرى.

هنا أصدرت قيادة الثّورة تعميمًا تطالبُ فيه أهل المدن بنزع الطربوش الأحمر وارتداء الكوفيّة التي هي لباس الفلاحين من أهل القرى، وكانت الاستجابة مذهلة، وكانتشار النّار في الهشيم أصبحت الرّؤوس مغطاة بالكوفيّة والعقال عوضًا عن الطربوش الذي لم يعد له وجود في المدن الفلسطينيّة.

يقول أكرم زعيتر -وهو أحد أبرز قيادات الثّورة آنذاك ومن أوائل المعتقلين فيها- في كتابه “يوميات أكرم زعيتر، وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية 1935 ـ 1939”: “المعروف أن الثوار في فلسطين يلبسون على رؤوسهم العقال والكوفية، وذلك أساسًا هو ما يلبس على الرأس في القرى، وحيث إن الثورة المباركة قد استطاعت أن تقضي على الجواسيس في معظم المناطق الفلسطينيّة، فلم تجد السّلطة ما تميّز به المجاهدين في المدن عن غيرهم إلا اعتبار كل لابس للعقال والكوفية ثائرًا فتلاحقه بالتحقيق أو الاضطهاد.

وهنا فكّرت إحدى القيادات في الأمر فأذاعت بيانًا تحضّ على نزع الطّربوش عن الرأس ولبس الكوفية والعقال، وبذلك يزول الفارق بين المجاهدين وغيرهم ويكون ذلك إعلانًا لتضامن سكان البلاد في الجهاد رمزًا لكون الناس جميعًا ثائرين.

وما أن صدر البيان المذكور حتى بادر سكّان البلاد إلى انتزاع الطربوش وإحلال الكوفية والعقال رمز الثّورة محله، مما أدهش السّلطات ودل على نفوذ الثورة وقوة سلطانها. ومن كان يتصور أن تنزع أمة بكاملها لباس رأسها الذي هو من تقاليدها الثابتة الموروثة”.

ويقول في موضع آخر من كتابه: “كتب كبار الموظفين وقضاة المحاكم والقائمقامون إلى السّلطة أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا من بيوتهم إلى أعمالهم ما لم يلبسوا العقال والكوفيّة فأذنت لهم بذلك فلبسوها وهكذا اختفى الطربوش، وقد شوهد موظف بريطاني كبير يلبس الكوفيّة والعقال اتقاء الاغتيال”.

أجل؛ هكذا غدت هيمنة الكوفيّة والعقال التي هي لباس الثّوار ورمز الثّورة حتّى أصبح من لم يرتدِها يخشى على نفسه، وكانت مقياسًا على مدى نفوذ الثّورة وقوّتها وامتدادها مجتمعيًّا وتجذّرها في نفوس هذا الشّعب بمختلف مكوناته وشرائحه ومختلف أماكن وجوده.

الصّلعةُ مقاومة

يتجدّد المشهد عام 2022م، فقبل أيّام يسيرة نفّذ البطل الفلسطينيّ عديّ التميمي البالغ من العمر 22 عامًا -ابن مخيّم شعفاط في القدس المحتلّة- عمليّته الفدائيّة البطوليّة؛ إذ ترجّل من سيّارته عند حاجز للعدوّ الصّهيونيّ ومشى بكلّ ما في الجمال من معان لا تتسع لها اللغة وكأنّ إبراهيم ناجي قال فيه لا في سواه:

 

واثق الخطوة يمشي ملكًا  **  ظالمُ الحسنِ؛ شهيّ الكبرياء

وتقدّم إلى أكثر من عشرة من الجنود الصهاينة المدججين السلاح وأطلق النّار عليهم من نقطة الصّفر ومضى في طريقه بكلّ ثقةٍ وهدوء.

وبعد ذلك جنّدت دولة الاحتلال الصّهيونيّ كل قدراتها الأمنيّة جوًّا وبرًّا للوصول إلى هذا البطل الأغرّ، وعمّمت أوصافه ومن بينها أنّ اسمه عديّ التميميّ وأنّه أصلع.

فهبّ الشّباب الفلسطينيّ في شعفاط وفي مناطق الضّفة الغربيّة إلى صالونات الحلاقة يحلقون رؤوسهم ليصبحوا صلعانًا في مبادرةٍ جماعيّة تضافروا عليها دون توجيه من أحد ودون طلب من أحد سوى شعورهم بأنّهم ينبغي أن يكونوا مع هذا البطل فيعملون كلّ ما بوسعهم من أجل إرباك الاحتلال الصّهيونيّ والتعمية على البطل المطارد.

لقد غدت الصّلعة مخبأ المطارَد، وسلاح إرباك ومقاومة، وعلامةً على نفوذ الثّورة في المجتمع الفلسطينيّ، ودلالةً على مدى تجذّر ثقافة المقاومة في نفوس الشّباب الفلسطينيّ.

وفعلًا لم يستطع الاحتلال الصّهيونيّ الوصول إلى البطل عديّ التميمي ليخرج عليهم من حيث لم يحتسبوا بعد عشرة أيّام من المطاردة منفذًا عمليّةً فدائيّةً بطوليّة ثانية على مشارف مستوطنة “معاليه أدوميم” لتنقل الكاميرات اللحظات الأخيرة في حياته فيرى العالم أجمع لحظاتٍ أسطوريّة من الإصرار على الاشتباك حتّى الرّمق الأخير.

إنّ استمرار الاحتضان الشّعبيّ للثّورة في فلسطين من أيّام الثّورة الفلسطينيّة الكبرى وارتداء الكوفيّة حفاظًا على الثّوار، وصولًا إلى حلاقة شباب شعفاط وشباب الضّفة الغربيّة رؤوسهم حفاظًا على المطارد المقاوم يؤكّد أنّ من أهمّ ركائز استمرار أيّ ثورةٍ ضد الاحتلال أو الاستبداد ومن صميم عوامل انتصارها؛ تحوّلها إلى ثقافةٍ شعبيّة عامّة وإيمان شرائح الشّعب المختلفة بها واستعدادهم للقيام بأفعال تلقائيّة ومبادراتٍ عامّة للحفاظ على الثّوار وحفظ الثّورة.

فالثّورات التي تتفجر من قلوب الشّعوب على هيئة مبادراتٍ جماعيّة للحفاظ على القابضين على زناد الثّورة هي ثورات لا تموت، بل تظل هي والشعوب التي تحتضنها على قيد الحياة.





السابق
فيديو للملاكم الأمريكي أندرو تيت يثير أزمة على التواصل الاجتماعي.. السبب؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع