الجنسية في الدولة الإسلامية.. التاريخ والنشأة
بقلم: د. علي محمد الصّلابي
تعدّ الجنسية التي تمنحها الدولة رباطاً بين الشخص والدولة، بمقتضاه تلتزم الدولة بحماية الشخص في مجال العلاقات الدولية ، بينما يخضع الفرد لسلطات الدولة باعتباره أحد رعاياها. وبناء على هذا الدور الذي تؤديه الجنسية نجد أن أبرز صفاتها وسماتها قانونية وسياسية ، فهي تخضع لقانون محدد واضح المعالم ، بيّن طرق اكتسابها وفقدها ، واثارها من حقوق وواجبات متبادلة ، ثم نجد أن لها أبعاداً سياسية ، سواء في المجتمع الدولي ، إذ لا يستطيع الفرد التعامل مع الوسط الدولي إلا عن طريق تبعيته لدولة معترف بها سياسياً ودولياً ، وهذا الاعتراف ينعكس بدوره السياسي على الشخص ، أو في داخل الدولة نفسها ، فالفرد لا يستطيع القيام بدوره السياسي إلا إذا كان يتمتع بجنسيتها ، كما أنه لا يحتل مركزاً قانونياً إلا عن طريق حمله للجنسية [الجنسية في الشريعة الإسلامية ، د. رحيل غرايبة ص (18).].
وتعتبر الجنسية حقاً للمواطن يكتسبه منذ لحظة ولادته ، وذلك من خلال النظم والقوانين المنظمة في وطنه. والجنسية عنصر من عناصر هوية الأفراد ، وبالتالي لا يجوز حرمان أي شخص من جنسيته ، ويرتبط الحق في التمتع بالجنسية بحق المأوى بإقليم الدولة ، حيث لا تلتزم الدولة بإيواء أو استقرار أي شخص بإقليمها طالما لا يحمل جنسيتها إلا في حدود القانون ، والاتفاقيات ،
والعهود الدولية التي تلتزم بها الدولة [المواطن والمواطنة، ص (40)].
1 ـ نشأة الجنسية وتطورها:
على الرغم من أن مصطلح الجنسية حديث العهد في الاستعمال ، إذ أن هذا المصطلح قد ظهر في أواسط القرن الثامن عشر ، فإن فكرة الجنسية ولدت مع وجود الدولة ؛ لأن الجنسية هي السمة المهمة التي تميز الركن الأساسي في الدولة ، وهو الشعب.
ولا بد للدولة من ضابط معين كمعيار في تحديد صفة المواطنة التي ترى أنها صالحة لأن تكون ركناً مهماً من أركانها ، سواء كان هذا الضابط عرقياً ، أو إقليمياً ، أو مذهبياً.
وقد كانت صفة المواطن تُكتسب في روما بطريق الأصل العائلي ، وهو أسبق الأسس لكسب الجنسية في المدن القديمة ، كما عرفت روما التجنس ، وكسب الجنسية بفضل القانون كطريق يكسب الجنسية اللاحق للميلاد [الجنسية في الشريعة الإسلامية، ص (27)].
وكانت الجنسية ضرباً من التبعية الإقطاعية، كرابطة بين قطاع العاملين في الإقليم مع الإقطاعي الكبير ؛ الذي يعتبر حاكم الإقليم في عصر الإقطاع الذي كان يسود أوربة ، وقسماً كبيراً من العالم في العصور الوسطى وما قبلها.
ولكن مع نشوء الدولة الإسلامية نشأت رابطة جديدة بين الفرد والدولة الإسلامية ، قامت على أسس جديدة راقية ، لم تكتشف البشرية أرقى منها ، فقد أصبح أساس هذه التبعية يقوم على الإيمان بالإسلام عقيدة وفكراً وسلوكاً ، وتذوب فيه كل أشكال التبعية الأخرى ، عرقية كانت أم قبلية
أم قومية ، فكل من امن بالإسلام ، وهاجر إلى مجتمع المدينة ، وجاهد مع المسلمين أصبح فرداً من أفراد شعب الدولة.
وليس هذا فحسب ، بل إن الدولة الناشئة تلك استوعبت أيضاً فئات أخرى من أتباع ديانات مخالفة مثل اليهود والنصارى ، فجُعلوا في عدد المواطنين ، ضمن روابط ، وعهود ، ومواثيق.
2 ـ من معالم الجنسية في الدولة الإسلامية الأولى:
بدأت ملامح الدولة الإسلامية الناشئة تكتمل وتأخذ أبعادها التنظيمية بعد أن اكتملت أركانها باجتماع القيادة والشعب على الإقليم المختار ، وهو المدينة ، وهذه هي الأركان الأساسية لأي دولة ، قديمة كانت أو حديثة: السلطة الحاكمة ، الشعب ، والإقليم.
ومن ثم باشر الرسول الكريم (ص) باعتباره السلطة السياسية الحاكمة الخطوات التأسيسية للدولة الوليدة ، فكانت الخطوة الأولى بناء المسجد ؛ الذي يُعد إلى جانب كونه مكاناً للعبادة ؛ الذي يجتمع فيه المسلمون مع قيادتهم للتباحث في كل أمور الدولة السياسية ، والإدارية ، والعسكرية ، والروحية ، والتربوية.
ثم كانت الخطوة الثانية هي: وضع الحدود للإقليم الجديد ؛ الذي أصبح حرماً ، كما ورد في كتب الحديث ، فقد ورد عن كعب بن مالك ، رضي الله عنه ، أنه قال: بعثني رسول الله (ص) أُعلِّم على أشراف مخيض ، وعلى الحُفيا ، وعلى ذي العشيرة ، وعلى تيم[الوثائق السياسية للعصر النبوي ، محمد حميد الله ص 64 ـ 65]، وهي جبال المدينة ، وهذا يمثل تخطيطاً لحدود الدولة بعد نشأتها.
ثم توجَّهت أنظار النبي القائد (ص) نحو عملية تنظيم يتم من خلالها إيجاد صيغة دستورية تحدد أسس المواطنة في الدولة ، إذ لابدَّ من قانون مبدئي يتم بموجبه قبول الفرد ضمن سكان الدولة ، ووضع الشروط لمن يرغب في التبعية للدولة ، ويمكن أن نرى ذلك في بنود الوثيقة الدستورية الأولى ؛ فقد أصدر الرسول (ص) لائحة دستورية مبدئية لشعب المدينة ؛ الذي أصبح خاضعاً للسلطة السياسية المتمثلة بقيادة النبي (ص).
ويمكننا أن نلاحظ أن هذه الوثيقة لم تكن عقد صلح بين طرفين ، ولا هي عقد هدنة بين طرفين متحاربين نتجت من مداولات وتنازلات ، بل هي لائحة دستورية صادرة عن القيادة السياسية والعسكرية الحاكمة للمدينة ، وتتمثل بسبع وأربعين مادة تشمل جوانب الحياة المتعددة ، من اجتماعية ، وسياسية ، وعسكرية للدولة الناشئة.
ونودُّ هنا أن نعرض بعض البنود المتعلقة بمبحث الجنسية ، التي تنظم علاقة التابعية بين الفرد والدولة ، ومن تلك البنود:
أ ـ تحديد صفة المواطنة الرئيسية ، والتي تمثل الشرط الرئيس لاكتساب الجنسية التأسيسية ، وذلك في المادة الأولى من الوثيقة: هذا كتاب محمد النبي «رسول الله» بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ، ومن تبعهم فلحِق بهم ، وجاهد معهم. فكل من أسلم وهاجر إلى المدينة ، والتحق بشعب المدينة ليجاهد معهم يصبح مواطناً ، ويمنح الجنسية.
ب ـ شعب المدينة شعب متميز مستقل بتبعيته ، وأنظمته ، وحقوقه ، وواجباته: إنهم أمة واحدة من دون الناس[السيرة النبوية لابن هشام 1/501].
ج ـ منحت الجنسية لفئات أخرى غير المسلمين المهاجرين من قريش والمسلمين من أهل يثرب ، وهم اليهود الذين كانوا يقيمون في المدينة قبل مجيء الرسول الكريم (ص) ، وقد أتى ذلك في عدة مواد:
_خ وأنه من تبعنا من يهود ؛ فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ، ولا متناصر عليهم.
_خ وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم.
وذلك شريطة الالتزام بشروط المواطنة ، فإن يتبعوا القيادة الحاكمة المتمثلة بالنبي (ص).
د ـ ضبط أسماء العشائر المختلفة من المسلمين وغيرهم الذين يمثلون شعب المدينة ، وذِكْرُهُم قبيلة قبيلة: الأوس ، الخزرج ، بنو عوف ، بنو النجار ، بنو ساعدة ، بنو الحارث ، بنو جشم.
هـ لابد لكل من أراد السفر والخروج من المدينة أن يأخذ إذناً من الرسول (ص) ، وهذا يمثل تأشيرة الخروج الصادرة عن السلطات المختصة المعروفة في أيامنا هذه ، ويدل على ذلك ضبط عملية المرور للخارجين والداخلين إلى حدود الدولة ، والمادة تقول: وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد [السيرة النبوية لابن هشام 1/501].
و ـ تنظيم عملية دخول الأجانب إلى إقليم المدينة ، فلم تكن هذه الأمور متروكة للتسيب ، وعدم الاهتمام ، وخصوصاً الأفراد غير المرغوب فيهم من الأجانب ، ونأخذ ذلك من المواد.
_خ «وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها».
_خ «وأنه لا يجيز مشرك مالاً لقريش ولا نفساً» [المصدر السابق 1/504].
_خ وأنه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة ، وامن بالله واليوم الاخر أن ينصر مُحْدِثاً ، ولا يأويه».
_خ «وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها» .
ز ـ نصَّت الوثيقة على اثار الجنسية والمواطنة ، من تكاليف وحقوق ، فهناك واجب الدفاع المشترك عن أرض المدينة على كل من شعب المدينة ، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
_خ «وعلى كل إناس حقهم من جانبهم الذي قبلهم» .
_خ وجاء أيضاً: وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
_خ وورد كذلك: وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
_خ كما جاء في نصوص الوثيقة أن لكل مواطن من مواطني الدولة ، سواء كان مقيماً ، أم مسافراً ، حق الأمن والحماية: وأنه من خرج امن ، ومن قعد امن بالمدينة إلا من ظلم وأثم.
كما نصت الوثيقة على حق التكافل الاجتماعي: وكل طائفة تفدي كاتبها بالمعروف والقسط بين المؤمنين [السيرة النبوية لابن هشام 1/503].
بالإضافة إلى كل ذلك ، جاء في «الصحيفة» التشديد على وجوب الخضوع لأنظمة السلطة الحاكمة المتمثلة بالرسول (ص) وقوانينها ، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء ؛ فإن مردّه إلى الله عز وجل ، وإلى محمد [المواطنة والمساواة، باعزيز الفكي، ص 19].
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: "المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة"، للدكتور علي محمد الصلابي
المراجع:
- الجنسية في الشريعة الإسلامية ، د. رحيل غرايبة.
- الوثائق السياسية للعصر النبوي ، محمد حميد الله.
- الوثائق السياسية للعصر النبوي.
- السيرة النبوية، ابن هشام الأنصاري.
- المواطنة والمساواة ، باعزيز الفكي.
- المواطنة والوطن في الدولة الحديثة المسلمة، د. علي محمد محمد الصلابي.