البحث

التفاصيل

في ظلال مقاصد التوحيد (مقصد الكفر بالطاغوت)

في ظلال مقاصد التوحيد (مقصد الكفر بالطاغوت)

بقلم: الدكتور انجوغو امباكي صمب

الحلقة (9)

المبحث الأول: معنى الطاغوت لغة وشرعا

اختلفت عبارات السلف رضي الله عنهم في معنى الطاغوت، فقيل هو الشيطان، وقيل الساحر ، وقيل الكاهن ، وكلها تفاسير صحيحة لم يقصد بها الحصر ,وإنما قصد بكل واحد منها التمثيل بذكر فرد من أفراد الجنس، ولذلك قال الطبري بعد ذكر هذه الأقوال: ((والصواب من القول عندي في الطاغوت أنه : كل ذي طغيان على الله فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، وإنسانا كان ذلك المعبود، أو شيطانا، أو وثنا، أو صنما، أو كائنا ما كان من شيء))[1].

 وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ((الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع؛ فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله ))[2].

فالطاغوت باختصار إذن:  اسم جامع لكل ما يعبد أو يطاع من دون الله تعالى، وقد يكون من الإنس أو الجن أو الجماد، وقد يكون فردا أو قبيلة أو حزبا أو نظاما، ومن أهم مقاصد التوحيد الكفر به، وذلك بترك عبادته إن كان صنما أو وثنا، وترك طاعته إن كان حاكما أو أميرا أو سيدا، وعدم نصرته والدفاع عنه إن كان ظالما متكبرا، قال تعالى{ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[3]، وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ}: قال أبو حيان رحمه الله ((الكفر بها هو رفضها، ورفض عبادتها ))[4]، وقال ابن كثير رحمه الله هو ((خلع الأنداد والأوثان، وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله))[5].

 ولأهمية الكفر بالطاغوت ومنزلته في التوحيد قدمه الله تعالى في الآية الكريمة على الإيمان بالله تعالى، وجعله من ضروراته الواجبة المتحتمة على كل من يدعي الإيمان بالله، (( لأن الشخص ما لم يخالف الشيطان ويترك عبادة غير الله تعالى لم يؤمن بالله، كما قالوا: إن التخلية مقدمة على التحلية))[6]، وقال تعالى{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}[7]، وقال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا}[8]،

  • وجوب الكفر بالأوثان والأصنام

إن أول ما يتبادر إلى أذهان كثير من الناس اليوم من معاني الكفر بالطاغوت، هو الكفر بالأوثان والأصنام، وذلك لأنها أشهر المعبودات من دون الله تعالى، بل إن من عامة المسلمين من يظن أن الكافر هو من يعبد الأصنام والأوثان فقط، ولا يعرف نوعا آخر من أنواع الكفر غير ذلك، وعبادة الأصنام والأوثان قديمة في التاريخ، فأول من عبد الأصنام هم قوم نوح عليه الصلاة والسلام، وعبدها بعدهم فئام كثيرة في أزمنة متعاقبة وأماكن مختلفة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما  قال: (( صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع))[9].

و لم يزل في الناس إلى يومنا هذا من يعبد الأصنام والأوثان على ما وصلت إليه البشرية من تقدم وتطور في العلوم والمعارف والتجارب والاختراعات، فما زالت معابد الأصنام والأوثان منتشرة في كثير من بقاع الدنيا، خاصة في آسيا وأفريقيا أكثر القارات أديانا وأصناما وأوثانا.

  • تكذيب مدعي الألوهية من الجن والإنس

من الطواغيت الذين يجب تكذيبهم مدعو الألوهية من الجن والإنس، ممن تطاولوا على مقام الألوهية والربوبية، و طغوا وتجبروا على الخلق، قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[10]، وقال تعالى { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ }[11]، قال ابن كثير رحمه الله (( يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الإلهية لنفسه القبيحة لعنه الله، كما قال الله تعالى:{ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ }[12]، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم))[13]، ويفسره قوله تعالى { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى}[14].

وكما وجد طواغيت من جبابرة الإنس ادعوا الألوهية والربوبية، فكذلك اجتالت شياطين من الجن بعض الناس فدعوهم إلى عبادتهم من دون الله، قال تعالى{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[15]، وعبادة الجن حقيقة تاريخية ثابتة، فإن كثيرا من المشركين كانوا يعبدون الجن ويقصدونهم في قضاء الحاجات، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[16]، قال ابن كثير رحمه الله ((أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها، كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم...))[17].

 ويجدر بالتذكير في هذا المقام أنه ليس من شرط دعوى الألوهية أو الربوبية التصريح بلفظيهما، كما فعل الطاغية فرعون حين قال{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[18]، وحين قال{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}[19]، بل يدخل في دعوى الربوبية أن يصف المدعي نفسه بصفات الألوهية والربوبية، أو يصفه بها غيره فيقرّه عليه، ولذلك أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يصرح بأنه لا يملك لنفسه - فضلا عن غيره -نفعا ولا ضرا، ولا حياة ولا نشورا، قال تعالى { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[20].

  • عدم طاعة السادة والكبراء في التحريم والتحليل

من معاني الطغيان والتأله على الناس التحليل والتحريم من دون الله تعالى، فكل من جعل نفسه مشرعا في الدين، يحل للناس ما يشاء و يحرم عليهم ما يشاء، فيطيعونه في ذلك ويتحاكمون إليه، من فعل ذلك فقد جعل نفسه إله من دون الله، لأن التحليل والتحريم حق خالص لله تعالى، قال تعالى{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[21]، ومن الكفر بالطاغوت ترك طاعة السادة والكبراء في التحليل والتحليل من دون الله تعالى وعدم التحاكم إليهم في صغير أو كبير، قال تعالى{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا }[22]، وقال تعالى{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[23]، وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: (( يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك))، فطرحته، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، فقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[24]، حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال ))أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله، فتستحلونه؟ )) قلت: بلى، قال: (( فتلك عبادتهم ))[25].

 فلا يطاع حاكم ولا عالم ولا سيد ولا زعيم في معصية الله تعالى، لأن الطاعة المطلقة للمخلوق عبادة له من دون الله، قال ابن القيم رحمه الله (( فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته))[26].

(الحلقة الثامنة: في ظلال مقاصد التوحيد: توحيد الله تعالى في الأسماء والصفات نظرة مقاصدية)

يتبع ....

 

[1] جامع البيان ، 4/ 558

[2] إعلام الموقعين عن رب العالمين، تأليف محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)

تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم، 1 / 40  الناشر: دار الكتب العلمية - ييروت 1411هـ

[3] سورة البقرة ، الآية 256

[4] البحر المحيط في التفسير، تأليف أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، 2 / 617 ، الناشر: دار الفكر - بيروت 1420 هـ

[5] تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ، 1 / 522

[6] فتحُ البيان في مقاصد القرآن، تأليف أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن بن علي ابن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي،2 / 99  الناشر: المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر، صَيدَا - بَيروت 1412 هـ

[7] سورة البقرة ، الآية 257

[8] سورة النساء ، الآية 51

[9] صحيح البخاري، 6 / 160

[10] سورة القرة، الآية 258

[11] سورة القصص ، الآية 38

[12] سورة الزخرف ، الآية 54

[13] تفسير القرآن العظيم ، 6 / 213

[14] سورة النازعات ، الآيات من 15 إلى 25

[15] سورة سبأ، الآيات 40 ، 41 ، 42

[16] سورة الجن، الآية 6

[17] تفسير القرآن العظيم ، 8 / 252

[18] سورة القصص، الآية 38

[19] سورة الأعلى، الآية 24

[20] سورة الأعراف، الآية 188

[21] سورة الشورى، الآية 21

[22] سورة النساء، الآية 60

[23] سورة التوبة ، الآية 31

[24] سورة التوبة ، الآية 31

[25] المعجم الكبير، للطبراني، 17 / 92 ، برقم ( 218 ) الناشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة

[26] إعلام الموقعين 1 / 40





التالي
الاتحاد يندد بشدة الأعمال الإجرامية التي قام بها المحتلون اليوم من اقتحام المسجد الأقصى واعتقال المصلين داخل الحرم الجامعي
السابق
إلا من أتى الله بقلب سليم

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع