البحث

التفاصيل

في ظلال مقاصد التوحيد (من مقاصد الخلق والإيجاد)

في ظلال مقاصد التوحيد (من مقاصد الخلق والإيجاد)

بقلم: الدكتور انجوغو امباكي صمب – عضو الاتحاد

الحلقة السابعة

أولا: المقاصد العامة للخلق والإيجاد:

 من المقاصد العامة للخلق والإيجاد:

  1. مقصد الدلالة على الخالق.

فجميع المخلوقات تدل على خالقها وصانعها وهو الله الواحد الأحد، وليس لهذه المخلوقات خالق غير الله، ولم يشهد الله على خلقها أحدا، ولم يتخذ المضلين عضدا ولا معينا في خلقها، قال تعالى{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[1]، قوله {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: ((قرئ ليعلموا بالياء والتاء أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السموات والأرض، وما جرى من التدبير فيها أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء عما أراده))[2]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (( فجميع الكائنات آيات له شاهدة دالة مظهرة لما هو مستحق له من الأسماء الحسنى والصفات العلى؛ وعن مقتضى أسمائه وصفاته خلق الكائنات))[3].

  1. مقصد العبادة لله تعالى.

فجميع المخلوقات من الإنس والجن والحيوان والنبات والجماد عباد لله تعالى اختيارا أو اضطرارا، خاضعون لحكمه وأمره طوعا أو كرها، ومقهورون بما خلقه من السنن والقوانين الكونية، قال تعالى { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[4]، وقوله {وَلَهُ أَسْلَمَ}: (( أي خضع وانقاد {طَوْعاً وَكَرْهاً } : الطوع الانقياد والاتباع بسهولة ، والكره ما كان من ذلك بمشقة وإباء من النفس))[5].

 وقال تعالى{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}[6]، قال ابن كثير رحمه الله ((يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه، الذي قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعا من المؤمنين وكرها على الكافرين وظلالهم بالغدو أي البكر والآصال وهو جمع أصيل، وهو آخر النهار))[7].

وقال تعالى {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[8]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (( وهو كما يشهد ربوبيته وتدبيره العالم المحيط وحكمته ورحمته، فكذلك يشهد إلهيته العامة؛ فإنه الذي في السماء إله وفي الأرض إله...، ونشهد أن كل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه فإنه باطل إلا وجهه الكريم، كما نشهد أنها كلها مفتقرة إليه في مبدئها، نشهد أنها مفتقرة إليه في منتهاها، وإلا كانت باطلة، فهذه المعاني التي فيها تأله الكائنات إياه وتعلقها به ...)).[9]

  1. مقصد التفكر والاعتبار.

 فالمخلوقات علويها وسفليها كلها آيات ومظاهر للقدرة الإلهية، أمر الله تعالى بالنظر والتفكر فيها، قال تعالى { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[10]، قال أبو حيان[11] : ((لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلا، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وانفراده بالإلهية، وعظيم قدرته، وباهر حكمته))[12].

وقال تعالى {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}[13]، وقوله عز وجل { قُلِ انْظُرُوا } : (( أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات انظروا يعني انظروا بقلوبكم نظر اعتبار وتفكر وتدبر {ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}: يعني: ماذا خلق الله في السموات والأرض من الآيات الدالة على وحدانيته ففي السموات الشمس والقمر وهما دليلان على النهار والليل والنجوم سخرها طالعة وغاربة وإنزال المطر من السماء وفي الأرض الجبال والبحار والمعادن والأنهار والأشجار والنبات كل ذلك آية دالة على وحدانية الله تعالى))[14].

 وقال تعالى { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[15]، قال ابن عاشور رحمه الله (( وجعل الأشياء المذكورات ظروفا لآيات، لأن كل واحدة من الأمور المذكورة تتضمن آيات عظيمة يجلوها النظر الصحيح والتفكير المجرد عن الأوهام، ولذلك أجرى صفة التفكير على لفظ قوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعلت من مقومات قوميتهم))[16].

 والتفكر في خلق السماوات والأرض فريضة شرعية وضرورة علمية، وعلى علماء الإسلام أن يحيوا هذه الفريضة العظيمة ويضعوا لها مرشدات إيمانية ومنهجية، ويبينوا  للناس كيف يمكن الاستفادة من التكنولوجيا المعاصرة لمشاهدة آيات الله في الآفاق وفي الأنفس .

 

  1. مقصد التسخير والامتنان.

خلق الله السماوات والأرض وما بينهما، وسخرها للإنسان تكريما له،  قال تعالى {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ }[17]، وقوله { وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا}: (( أي مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير وغير ذلك من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ}: أي السفن والأنعام { مَا تَرْكَبُونَ}: أي ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها{ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}: أي لتستووا متمكنين مرتفقين على ظهوره أي على ظهور هذا الجنس {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ}: أي فيما سخر لكم { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي مقاومين، ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه))[18] {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[19]، وقوله {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ}: أي (( من شمس وقمر ونجوم، {وَمَا فِي الأرْضِ} من دابة وشجر وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم، {جَمِيعًا مِنْهُ}: جميع ما ذكرت لكم أيها الناس من هذه النعم، نعم عليكم من الله أنعم بها عليكم، وفضل منه تفضّل به عليكم، فإياه فاحمدوا لا غيره، لأنه لم يشركه في إنعام هذه النعم عليكم شريك، بل تفرّد بإنعامها عليكم وجميعها منه))[20].

  1. مقصد الابتلاء والاختبار.

الابتلاء والاختبار من المقاصد في الخلق والإيجاد،  قال تعالى { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[21]: أيّ الناس أدرى بالغاية من وجود السماوات والأرض، وأحسن عملا في تحقيق تلك الغاية، وقال تعالى{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }[22] : أي الناس يأخذ من حلها ويترك حرامها .

وقال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }[23]، أي الناس أعلم بقيمة الحياة وأيقن بحتمية الموت، وأيهم أخلص عملا وأصوبه، وبتدبر هذه الآيات الثلاثة  نجد أن الابتلاء المذكور فيها بحسب السياق.

 ففي الآية الأولى الابتلاء بأمر كوني يجب على المؤمن بالله أن يسلم له ويرضى به ويعمل بمقتضى الشرع فيه، والابتلاء في الآية الثانية بأمر شرعي تعلق بزينة الحياة الدينا وشهواتها، يجب على المؤمن بالله أن يأخذ بحلالها ويترك حرامها، وأما الابتلاء في الآية الثالثة فهو عام في الحياة والموت، ولذلك حمله بعض المفسرين على مقصد العبادة، وهو مقصد عام يشمل الاعتقاد الواجب في القضاء والقدر وغيره من أمور العقيدة، كما تشمل العبادة والطاعة لله تعالى التي يقوم بها سائر الجوارح .

  • تفعيل مقاصد الخلق والإيجاد في تحقيق التوحيد وتقوية الإيمان .

إن التفكر في هذه المقاصد والحكم يورث المعرفة بالله تعالى ومحبته وتعظيمه، قال تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[24]، و قال أبو حيان رحمه الله:  قوله تعالى { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } : ((أي المخلصون لهذه العبر، الناظرون فيها))[25].

ومع موجة الإلحاد التي تجتاح المجتمعات الإسلامية اليوم فلا بد من الاهتمام بتوحيد الربوبية وتفعيل مقاصده علما وعملا وبحثا ودراسة، لمواجهة الشبهات المثارة حول وجود الله تعالى، والرد على الطعون الموجهة إلى العقيدة الإسلامية الصافية، وذلك وفق منهج القرآن الكريم والسنة النبوية في تقرير الربوبية والرد على الملاحدة والدهرية وغيرهم ممن ينكر وجود الله سبحانه وتعالى.

(الحلقة السادسة في ظلال مقاصد التوحيد: مقصد معرفة الله تعالى وإفراده بالعبادة)

يتبع ....

 

[1] سورة الطلاق، الآية 12

[2] مفاتيح الغيب، 30 / 567

[3] مجموع الفتاوى ، 2 / 405

[4] سورة آل عمران، الآية 83

[5] لباب التأويل في معاني التنزيل، 1/265

[6] سورة الرعد، الآية 15

[7] تفسير القرآن العظيم، 4 / 383

[8] سورة الجمعة، الآية 1

[9] مجموع الفتاوى، 2 / 405

[10] سورة البقرة، الآية 164

[11] هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفزي الأندلسي الجياني الأصل الغرناطي المولد والمنشأ المصري الدار...، مولده بمطخشارش وهي مدينة مسورة من أعمال غرناطة في أخريات شوال سنة أربع وخمسين وستمائة...، كان الشيخ أبو حيان إماما منتفعا به اتفق أهل العصر على تقديمه وإمامته...، توفي عشي يوم السبت الثامن والعشرين من صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة بمنزله بظاهر القاهرة ودفن بمقابر الصوفية. انظر : طبقات الشافعية الكبرى، 9 / 275

[12] البحر المحيط في التفسير 2 / 82،

[13] سورة يونس، الآية 101

[14] لباب التأويل في معاني التنزيل، 2 / 467

[15] سورة الرعد، الآية  3

[16] التحرير والتنوير ، 13 / 94

[17] سورة الزخرف، الآيات 12 ، 13 ، 14

[18] تفسير القرآن العظيم، 7 / 202

[19] سورة الجاثية ، الآية 13

[20] جامع البيان، 22 / 65

[21] سورة هود ، الآية 7

[22] سورة الكهف، الآية 7

[23] سورة الملك ، الآية 2

[24] سورة فاطر، الآيتان 27 ، 28

[25] البحر المحيط في التفسير 9 / 30





التالي
الصين.. الفتاة الإويغورية روفينا مردان "شعبي مضطهد ونواجه القمع من السلطات في وطننا"
السابق
تدشين حقيبة د. القره داغي الاقتصادية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع