البحث

التفاصيل

إضاءات إيمانية: الحلقة الرابعة

الرابط المختصر :

                          بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبيّ الهُدى والرحمة المهداة، والنعمة المسداة، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.

إضاءات إيمانية: الحلقة الرابعة

عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين     

  1. الشرط الثاني: قوله تعالى: ﴿واعبدوا ربّكم﴾

أمر الله تعالى في الآية الكريمة عباده المؤمنين بإفراده بالعبادة، وتوحيده وعدم الشرك به جل وعلا ([1]). ولعل هذا الأمر يتضمن الأساس القويم الذي ينبغي أن تقوم عليه سائر أفعال جميع أنواع العبادات التي يشملها الفعل الطلبي في قوله تعالى: ﴿واعبدوا ربكم﴾ ([2])، لأنه إذا كانت هذه العبادات التي أمر الله بها عباده، محصّنة بهذا الأساس المتين الذي هو توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته وأفعاله، فإنها ترفع صاحبها إلى مقام الإخلاص الصادق، والصدق الخالص، فيتزكّى ويترقّى في معراج السير إلى الله تعالى، ويبلغ شرف الدين. يزكّيهم الله تعالى بالأعمال التي يوفقهم إليها، ويسدّدهم لبلوغها، فينتج عن ذلك دوام الصلة بالله في كل وقت وحين إلى ان تقوم ساعة المؤمن الصغرى التي تأذن بخروجه من الدنيا، والتحاقه بالرفيق الأعلى، فيُكتب من الذين يختم الله لهم بالحسنى إن شاء الله تعالى، ويدخل بإذن الله وقوته ومنّه وفضله وكرمه، في زمرة الذين يبشرهم الحق جل وعلا بقوله: ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قترٌ ولا ذِلّة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون﴾ يونس: 26

  1. الشرط الثالث: قوله تعالى: ﴿وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)

ما زالت سلسلة الأوامر والأفعال الطلبية متصلة إلى نهاية الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وافعلوا الخير لعلكم تفلحون﴾. جاء في "معالم التنزيل" أن ابن عباس رضي الله عنه فسّر كلمة "الخير" بصلة الأرحام، ومكارم الأخلاق المطلوب تحقّقها في المسلم المؤمن ([3]). وجلّ العلماء المفسّرين يتفقون على إدراج الخير المقصود في الآية الكريمة، في إطار المندوبات التي تزيد العبد المؤمن تزكية وترقية وتقرّبا وطاعة لله تعالى، بالإضافة إلى الواجبات المنصوص عليها وجوبا ([4]).

ولئن كان فعل الواجبات أصلا، وفعل المندوبات والطاعات الأخرى التي يتقرّب بها العبد إلى الله تعالى فرعا من ذلك الأصل، فكل الفعلين يتناغمان وينسجمان، بل وينصهران في معادلة الإيمان والعمل، إذ لا يكتمل أحد الطرفين إلا بالآخر، إذ أن فعل الخير المذكور هنا ترجمة عملية وحسية لمفهوم العبادة المنصوص عليه في الآية الكريمة السابقة: ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون﴾، أي «صلّوا لربكم خاشعين... وافعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرّات كصلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام» كما جاء في صفوة التفاسير ([5]).

ومجمل القول إن مقام التزكية يحضر في القرآن الكريم بصيغ، وألفاظ مختلفة ومتنوعة حسب السياق القرآني الذي ترد فيه. وهذه الصيغ هي كالآتي:

  1. صيغة الفعل الدال على الحدث مقيّدا بالزمن:

تأتي صيغة فعل التزكية إما في الماضي أو الحاضر. وكلاهما أي كلا الزمنين جارٍ ودائم في الحال والاستقبال، ولا ينتهي الحدث بصيغة الماضي، لأن فعل (زكا) يبقى مستمرا ومتواصلا ما دام مرتبطا بالعمل الدؤوب الذي لا ينقطع حدثه ولا ينتهي جريانه إلا بانقطاع حياة العبد وانتهائها وخروجه من الدنيا. أما أثر ذلك الفعل فيبقى مستمرا دائبا، وينضاف في صحيفة صاحبه، خاصة إذا كان هذا الفعل ممّا كتب الله تعالى أن يكون صدقة جارية. يقول تعالى: ﴿إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم﴾ يس: 12، أي «نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي آثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضا، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، كقوله ﷺ: «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا. ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة كان عليه وِزرها ووِزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» ([6])، رواه مسلم من رواية شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه» ([7]). ولذلك فإن صيغة الفعل هاهنا تدل على درجة تحصيل العمل لبلوغ مراتب جيدة تجعل العبد المؤمن ينال رضى الرحمن، فيكون موفّقا بإذن الله لتزكية نفسه وترقيتها وتطهيرها بالأعمال الصالحة التي تجعله من المفلحين الفائزين بجنة الرضوان.

  1. صيغة اسم التفضيل الدال على الخيرية والأفضلية:

ومنه قوله تعالى: ﴿ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ البقرة: 232

وقوله تعالى أيضا: ﴿وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم﴾ النور: 28

إن صيغة اسم التفضيل هنا تدل على مقام الخيرية والأفضلية في الدين. فالأزكى والأطهر في سياق الآية الأولى ما كان اتباعا لشرع الله تعالى، بإتيانه والأمر به. وهو من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر ([8]). كما تتضمن هذه الصيغة في سياق الآية الكريمة معنى الطهر والصفاء، فمن انخرط في سلك هذا المقام الإيماني فقد طهُر قلبه وصفتْ نفسه، وكان ذلك أطهر وأصلح له، كما هو متضمن في سياق الآية الكريمة الثانية. جاء في "معالم التنزيل" في شأن قوله تعالى: ﴿هو أزكى لكم﴾: «وكان ابن عباس يأتي باب الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب حتى يخرج، ولا يستأذن، فيخرج الرجل ويقول: يا ابن عمّ رسول الله لو أخبرتني، فيقول: «هكذا أُمِرْنا أن نطلب العلم». وإذا وقف فلا ينظر من شقّ الباب إذا كان الباب مردودا» ([9]). فالخيرية والأفضلية تدل على مرتبة من مراتب الطّهر والتطهير لا ينالها إلا المتقون الذين ينظرون بقلوبهم وبصائرهم، فتنجلي الحقائق لهم، فيسارعون إلى ثواب الله، لأنهم يدركون أنه هو الأفضل والأزكى والأبقى، يقول الله تعالى: ﴿وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثوابُ الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يُلقّاها إلا الصابرون﴾ القصص: 80، أي أن ما يحصل من ثواب وجزاء للمؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما يراه الناس موجودا في الدنيا الفانية ([10])، لأن ما عند الله جل وعلا خير وأبقى، وهو «أزكى لمن آمن به» ([11]).

  1. صيغة المصدر الدال على الحدث مطلقا دون تقييد:

ومنه قوله تعالى: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ البقرة: 42

وقوله تعالى: ﴿وآتوا الزكاة﴾ البقرة: 83

وقوله تعالى: ﴿والذين هم للزكاة فاعلون﴾ المؤمنون:4

وقوله تعالى: ﴿وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرْضِيّا﴾ مريم: 55

إن صيغة المصدر هنا تدل على أن الحدث في الاسم الذي هو الزكاة يبقى دائبا وجاريا، لا ينقطع ولا يحدّه حدّ، لأنه أمْر من الله لا ينتهي بنهاية زمن أو ظرف أو حالة من الحالات التي يكون عليها الإنسان في حياته. وإذا كان سياق الآيات البينات يتضمن معنى الفعل الذي به تستقيم عبادة المؤمن، وهو فعل الزكاة المفروضة مقترنة بفرض الصلاة، فإن هذا الفعل في حقيقة الأمر لا يتعلق بما أوجبه الله تعالى من حق في الأموال فحسب، بل يتضمن معاني أخرى ترتبط بمفهوم الطهارة والنماء والزيادة في الأجر وتثقيل ميزان الحسنات، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فكل عمل صالح رائد ينفع الأمة أفرادا وجماعات، ويعود على الناس أجمعين بالنفع والخير في حياتهم الدنيوية، يدخل في هذا الخصوص، لأنه تزكية لصاحبه وترقية لدرجته ونماء لحصيلة أعماله. وخير ما يتزكى به المؤمن العابد تلك الباقيات الصالحات التي يبقى أثرها إلى يوم القيامة، فينتفع بها، ويكون جزاؤه عند ربه جنة الرضوان التي وعد الله تعالى عباده المتقين، حيث قال جل وعلا: ﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنّات عدن. ورضوان من الله أكبر. ذلك هو الفوز العظيم﴾ التوبة: 72

فاللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات والمكرمات، واجعلنا من التائبين التوابين ومن الطاهرين المتطهرين، واجعل أعمالنا كلها صالحة واجعلها لوجهك خالصة، برحمتك وفضلك ومنِّك، وكرمك، يا أرحم الراحمين يا أكرم الأكرمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد في الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإحالات:

[1] - صفوة التفاسير: 2/274

2 - فتح القدير: 3/585

3 - تفسير البغوي: 3/228

4 - المحرر الوجيز: 4/134، تفسير القرطبي: 6/64، فتح القدير: 3/585

5- صفوة التفاسير: 2/274

6- أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، رقم الحديث: 1017، ولفظه عند مسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء - الحديث»، 4/111

7- تفسير ابن كثير: 6/366

8- تفسير ابن كثير: 1/370

9- تفسير البغوي: 3/284

10 - تفسير ابن كثير: 6/130

11 - الجامع التاريخي في تفسير القرآن الكريم

 

                                                         انتهى بحمد الله وتوفيقه

 

 

 

 

[1] - صفوة التفاسير: 2/274

[2] - فتح القدير: 3/585

[3] - تفسير البغوي: 3/228

[4] - المحرر الوجيز: 4/134، تفسير القرطبي: 6/64، فتح القدير: 3/585

[5] - صفوة التفاسير: 2/274

[6] - أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، رقم الحديث: 1017، ولفظه عند مسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء - الحديث»، 4/111

[7] - تفسير ابن كثير: 6/366

[8] - تفسير ابن كثير: 1/370

[9] - تفسير البغوي: 3/284

[10] - تفسير ابن كثير: 6/130

[11] - الجامع التاريخي في تفسير القرآن الكريم





التالي
الاتحاد: زيارة رئيس دولة الإحتلال لتركيا خطوة تطبيعية مرفوضة ومدانة
السابق
القدس المحتلة: إضراب شامل في جبل المكبر احتجاجًا على هدم المنازل

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع