البحث

التفاصيل

تزكية النفس وتقويمها بمنهج التخلية والتحلية:

الرابط المختصر :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبيّ الهُدى والرحمة المهداة، والنعمة المسداة، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.

إضاءات إيمانية: الحلقة الأولى

د. عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين     

  1. تزكية النفس وتقويمها بمنهج التخلية والتحلية:
  1. تزكية النفس:
  1. التزكية:

     إن التزكية في الإسلام مقام رفيع في العروج إلى الله تعالى، ومنزلة عالية القدر في معمار البناء البشري. ولها ضوابط أربعة في القرآن الكريم:

       الضابط الأول:

  1. تزكية المشيئة: وتتضمن مسألتين اثنتين:
    1. المسألة الأولى:         

   إن التزكية شأن رباني لا دخل للعبد فيه لأنها تدخل في مشيئته وعلمه جل وعلا. يقول تعالى: ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا﴾ النور: 21

وقوله سبحانه وتعالى أيضا: ﴿فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى﴾ النجم: 31

فبفضل الله تعالى ورحمته يصل الإنسان العبد إلى هذا المقام، مقام التزكية، وبدون ذلك لا يستطيع هذا الإنسان بلوغ هذه المنزلة، ولا يقدر على ذلك، «فلولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه، ويزكي النفوس من شركها، وفجورها ودنسها، وما فيها من أخلاق رديئة، كل بحسبه، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا» ([1]). إن الله تعالى بمشيئته المطلقة يمُنّ على العباد بأن يهديهم إلى سلك طرق الخير التي ينفعون بها أنفسهم. وبتلك المشيئة أيضا يهديهم إلى تجنّب طرق الشر، واتّقائها ودفعها عنهم. وبدون تلك المشيئة ما استطاعوا، ولا يستطيعون بلوغ هذه الغاية ([2]). ونجد نفس المعنى الذي تحمله الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿ولكن الله يزكّي من يشاء﴾، أي «ولكنّ الله بفضله ورحمته يطهّر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه، قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم» ([3]).

   2.1- المسألة الثانية:

نهى الله تعالى عن تزكية العبد نفسه، وهذا فعل مذموم قبيح. جاء عند الراغب الأصفهاني «ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدْح الإنسان نفسه عقلا وشرعا، ولهذا قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقا؟ فقال: مدْحُ الرجل نفسه» ([4]). فالنهي هنا حاصله أن هذا الفعل الذي هو التمادح والتزكية مذموم من قبل الخالق عز وجل، حيث أمر سبحانه وتعالى بعدم الوقوع فيه، ونهى عنه فقال جل وعلا: ﴿فلا تُزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى﴾ النجم: 31، أي «لا تنسبوا أنفسكم إلى الصلاح والخير» ([5]). وكذلك كان الرسول يمقت هذا الفعل، وينهى عنه، ففي الحديث الذي أخرجه مسلم برواية مجاهد عن أبي معمر قال: «قام رجل يثْني على أميرٍ من الأمراء، فجعل المقْداد يحْثي عليه التراب، وقال: أمرنا رسول الله أن نحْثي في وجوه المدّاحين التّراب» ([6]). وعند البخاري من طريق خالد الحذّاء عن عبد الرحمن بن أبي بكْرة، عن أبيه قال: «أثنى رجل على رجل عند النبي فقال: «ويْلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك» مرارا، ثم قال: «من كان منكم مادحا أخاه لا محالة، فليقل: أحسبُ فلانا، والله حسيبُهُ، ولا أزكي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه» ([7]). ولعل النهي عن المدح الوارد في النصوص السابقة ليس مطلقا، بل هو مقيّد بشرط عدم المجازفة والغلو في المدح والزيادة غير المشروعة في الأوصاف، «أو على من يُخاف عليه فتنة من إعجاب ونحوه، إذا سمع المدح، وأما من لا يُخاف عليه ذلك لكمال تقواه، ورسوخ عقله، ومعرفته، فلا نهي في مدحه في وجهه إذا لم يكن فيه مجازفة، بل إن كان يحصل بذلك مصلحة كنشطه للخير، والازدياد منه، أو الدوام عليه، أو الاقتداء به، كان مستحبّا» ([8]). وهذا هو نفس المعنى الذي انتهى إليه الإمام ابن عطية الأندلسي في معرض تفسيره قوله تعالى: ﴿فلا تُزكّوا أنفسكم﴾ النجم: 31، حيث ذهب إلى جواز تزكية الإمام ليُؤْتمّ به، ذلك أن الرسول زكّى «بعض أصحابه أبا بكر وغيره، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة للضرورة إليها. وأصل التزكية إنما هو التقوى، والله تعالى هو أعلم بتقوى الناس منكم» ([9]). ويجوز للتّقيّ العدل الضابط ذي المروءة الإقدام على طلب تحمّل مسؤولية تدبير شؤون الأمة، إن وجد في نفسه ما يؤهله لذلك أكثر من غيره، بقصد إقامة العدل ونشر الخير، وإحقاق الحقّ، كما فعل النبي يوسف عليه السلام، حيث قال للملك، كما يحكي القرآن الكريم عنه ﴿اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم﴾ يوسف: 55. يقول الصابوني: «أي أمين على ما استودعتني، عليم بوجوه التصرف، وإنما طلب منه الولاية رغبة في العدل، وإقامة الحق والإحسان، وليس هو من باب التزكية للنفس، وإنما هو للإشعار بحنكته ودرايته لاستلام وزارة المالية» ([10]). وإنما أقدم يوسف عليه السلام على هذا الأمر لإدراكه ووعيه بمؤهلاته، وكفاياته في مجال تدبير سني المجاعة التي ستهب على مصر وتبعاتها. لذلك «سألها بالحفظ والعلم، لا بالحسب والجمال...وليوصّل إلى الفقراء حظوظهم لا لحظ نفسه...وصار ذلك مستثنى من قوله تعالى: ﴿فلا تزكوا أنفسكم﴾» ([11]). فكما اقتضت مشيئة الله تعالى أن يُلْقى يوسف عليه السلام في الجبّ، ويباع في سوق النّخاسة كما يباع العبيد، ويُنقل للعيش في مملكة الملك عبدا خادما، ومولى تابعا لسيده داخل قصره، اقتضت مشيئته جل وعلا أن يصبح وزيرا قائدا يدبّر شؤون المملكة، بما عُرِف عنه من صلاح وتقوى وسيرة زكيّة، بوّأته هذه المكانة الكبيرة التي حظي بها في هرم الدولة. ومن الأكيد الثابت أن التقوى والصلاح يجعلان حصيلة المؤمن مثمرة طيبة مباركة، لأنه يضع وصية الله تعالى في الأولين والآخرين نصب عينيه أينما حلّ وارتحل. يقول تعالى: ﴿ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله﴾ النساء: 131

وصلى الله وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الهوامش:

[1] - تفسير ابن كثير، 5/388

2- تفسير الطبري، 7/6012

3 - تفسير القرطبي، 12/207، عن: صفوة التفاسير: للصابوني، 2/304

4 - مفردات ألفاظ القرآن: للراغب الأصفهاني، مادة (زكا)، ص.280

5- التسهيل لعلوم التنزيل: لابن جزي الكلبي أبي القاسم محمد بن أحمد، 2/384

6 - صحيح مسلم: مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح، رقم الحديث (3002)، 9/354، وعند الترمذي جاء بلفظ: «فجعل المقداد يحثو في وجهه التراب، وقال: أمرنا رسول الله ﷺ أن نحثو في وجوه المدّاحين التراب»: العرف الشذي شرح سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية المِدْحة، 3/458

7- صحيح البخاري: البخاري، كتاب الشهادات، باب: إذا زكّى رجل رجلا كفاه، رقم الحديث: 2662، 2/542

8 - صحيح مسلم بشرح النووي، هامش شرح باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، 9/355

9 - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: لابن عطية، 5/205

10 - صفوة التفاسير: للصابوني، 2/52

11 - أحكام القرآن: لابن العربي، 3/63، انظر أيضا: تفسير القرطبي: 5/2267

 

                                                    يُتْبـــــع

 

 

[1] - تفسير ابن كثير، 5/388

[2] - تفسير الطبري، 7/6012

[3] - تفسير القرطبي، 12/207، عن: صفوة التفاسير: للصابوني، 2/304

[4] - مفردات ألفاظ القرآن: للراغب الأصفهاني، مادة (زكا)، ص.280

[5] - التسهيل لعلوم التنزيل: لابن جزي الكلبي أبي القاسم محمد بن أحمد، 2/384

[6] - صحيح مسلم: مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب النهي عن المدح، رقم الحديث (3002)، 9/354، وعند الترمذي جاء بلفظ: «فجعل المقداد يحثو في وجهه التراب، وقال: أمرنا رسول الله أن نحثو في وجوه المدّاحين التراب»: العرف الشذي شرح سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في كراهية المِدْحة، 3/458

[7] - صحيح البخاري: البخاري، كتاب الشهادات، باب: إذا زكّى رجل رجلا كفاه، رقم الحديث: 2662، 2/542

[8] - صحيح مسلم بشرح النووي، هامش شرح باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، 9/355

[9] - المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: لابن عطية، 5/205

[10] - صفوة التفاسير: للصابوني، 2/52

[11] - أحكام القرآن: لابن العربي، 3/63، انظر أيضا: تفسير القرطبي: 5/2267





التالي
الإسلاموفوبيا فجوة ثقافية وسياسية بين الإسلام والغرب
السابق
لبنان.. لقاء يجمع مفتي الجمهورية والهيئة الدائمة لنصرة القدس وفلسطين حول "أسبوع القدس العالمي"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع