البحث

التفاصيل

في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم الدرس والعبرة   

الرابط المختصر :

في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم الدرس والعبرة   

الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي – عضو الاتحاد

 

على الرغم من الحراسة الأمنية المشددة التي رافقته على مدى أربعة عشر عاماً إلا أن الموت اختطف رسام الكاريكاتير السويدي لارس فيلكس صاحب الرسوم المسيئة لرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم والتي نشرها عام 2007 مما أثار غضب العالم الإسلامي في حينها ، حادث سير رهيب احترق فيه واحترقت السيارة التي كانت تقله ، هلك هو وهلك أيضاً حراسه الذين معه فلم ينجحوا بحمايته ولا بحماية أنفسهم.

 

نوقن أن كل نفس مؤمنةً أو غير مؤمنة ذائقة الموت ، ونعلم أن كثيراً من أبناء الأمة الموحّدين صادقي الإيمان المتمسكين بالإسلام قد لقوْا مصيراً مشابهاً ، ولكن الأمة عبرت عن شفاء غليلها وذهاب بعض غيظها بهذه النهاية الفظيعة التي حلت بمن استهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنني أرى ردة فعلها وكأنها ينطبق عليها قوله تعالى { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } التوبة 14- 15 ، ونؤكد على أنَّ هذا ليس هو المطلوب من الأمة في مواجهة الهجمة الشرسة على دين الله ورسوله والمؤمنين.

 

إنها ليست شماتة بالموت بقدر ما هي فرح المؤمنين بخلاصهم ممن سخر من نبيهم وحبيبهم وأساء لرمز دينهم وعقيدتهم، وهذه مشاعر مشروعة في ظل العجز والضعف والاستضعاف الذي يسيطر على الأمة في فلسطين والهند وبورما بل وفي كل مكان من العالم ، مشاعر مشروعة في ظل تداعي الأمم عليهم كما تتداعى الأكَلَةُ إلى قصعتها ، فها هم أبناؤها تنتهك كرامتهم وتهدر إنسانيتهم وتهان أعراضهم وهم لا يستطيعون الذود عن أنفسهم ، حتى كأنهم أصبحوا كمن ضُرِبَتْ عليهم الذِّلَّة.

 

ولعل ما يشعر أبناء الأمة اليوم بالفرح العارم أن هذا المصير الذي لقيه عدوهم وعدو رسولهم جاء بين يدي مناسبة عزيزة عليهم وفي غمرة احتفالهم بذكرى المولد النبوي الشريف، فربما رأوْا أن الله سبحانه وتعالى قد انتقم لهم وانتقم لرسوله ورسالته وعباده الصالحين،  

 ومع هلال شهر ربيع القلوب والأرواح الذي هلَّ على أهل الأرض جميعاً يستشعر المؤمنون في كل عام عظمة المناسبة فيه بمولد حبيبنا المصطفى المختار محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويستحضرون فيه العبر والدروس الغالية من قصة هذا المولد النبوي الشريف:

 

لقد كان المولد الشريف للأمة وللعرب على وجه الخصوص أعظم مِنْحة في مواجهة أصعب المِحَن التي كانت تكدّر حياتهم وعالمهم : فعلى قدر ما كانوا مستضعفين في جاهليتهم من الأمم الأقوى (الفرس والروم)، وعلى قدر طوفان الطبقية الذي أغرقهم والقهر الذي كسر قلوب غالبيتهم ، وعلى قدر سوء الاقتصاد وسيطرة أصحاب المال على فقرائهم ، على قدر هذه المحن كانت المنحة الإلهية لهم بمولد العربي محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه رسولاً فيهم ومنهم ، يعرفونه نسباً وحسباً وخلقاً وفضلاً ، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} آل عمران 164 ، فبدعوته وبسيرته وبتوجيهاته تبدلت قناعاتهم وحياتهم وتنسموا هواء الحرية والعزة والكرامة ، وحملوا مشاعل التغيير والنهوض بالبشرية كلها فأكرمهم الله بالسيادة والريادة والقيادة فيها.

 

وكان هذا المولد تحريراً للعرب بل للإنسانية كلها : فقد اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون سبب فكاك رقابهم من العبودية وتحررهم من الرق والإذعان لغير الله تعالى ، وكان به خلاصهم من نير الاستعباد والظلم والظلمات ، فكان لهم المَوْئِلَ والمأوى والملاذ ، فانطلق بهم من ظلام الجاهلية والجهل إلى نور العلم والعقل ، وإلى ظلال العدل والإنصاف ورحاب الوحدة والألفة والمحبة بعد الفرقة والتنازع والاقتتال ، فقد شملته العناية الإلهية وأهَّلته لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، فانتشلهم هذا المصطفى الرسول من الهوة الساحقة السحيقة التي سقطوا فيها فرفعهم إلى قمم التحضر ، ثم إنهم من بعده تقدموا بالبشرية وتقدموها باتباع رسالته وشريعته ونهجه الوسطي بعيداً عن التزمّت والتكلف والتطرف ، قال تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } آل عمران 110.

 

أما حياة اليُتْمِ والفَقْد للوالدين والجد التي عاشها محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانت درساً للصَّحْبِ وللأمة من بعده ، فهذه المعاناة صقلت نفسه ونفسيته وشخصيته ، فزكت فيه جذوة الإشفاق والعطف على المساكين واليتامى والحزن لآلامهم ، كيف لا وهو الرحمة المهداة من الله والنعمة المسداة ، قال تعالى فيه { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء 107 ، وقال هو صلى الله عليه وسلم داعياً { اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين } رواه الترمذي ، فالتربية الربانية التي تلقاها صنعت منه رجلاً صلباً وقائداً فذّاً أهلاً للمسؤولية متمسكاً بالرسالة راسخ الإيمان ثابتاً في مواجهة المصائب والمصاعب ، فكان النبراس الذي يضيء الطريق ويكشف معالمها للأمة كلها من بعده وكان المثل الأعلى لها ، فانعكست هذه الميزات في شخصيات أبنائها وقادتها الذين تأسَّوْا به وبسيرته الطاهرة.

 

إنه لدرس ثمين أن تتمثل الأمة أخلاق نبيها محمد صلى الله عليه وسلم: فمن يبحث في أخلاقه يجد نفسه أمام أعظم عظماء الإنسانية ، فقد وصفه ربنا عز وجل بقوله سبحانه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم 4 ، فهل عرفت الإنسانية كمحمد صلى الله عليه وسلم في الخُلُق ؟ إنه الذي أحسنَ وما أساء ، ووصلَ وما قطع ، وأعطى وما حرم ، وعفا وما ظلم ، وخالق الناس بخلقه الحسن كل حياته حتى أتاه اليقين ، هكذا كان قبل الرسالة وبعدها ، في شبابه وفي مشيبه ، مع الصديق ومع العدو ، كانت أخلاقه أوسع من كل الحدود والقيود ، علم الخلائق كيف تكون الأخلاق ، فالأخلاق جزء مهم جداً من الشريعة والدين ، قال صلى الله عليه وسلم [ بعثتُ لأتمم صالح الأخلاق ] رواه أحمد ، وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً [ ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا اللَّعَّان ولا الفاحش ولا البذيء ] رواه الترمذي ، فخير الأخلاق أخلاقه وأفضل الأعراف أعرافه لأنها ربانية المصدر.

 

وتأتي أهمية الأخلاق في الإسلام أنها أبرز ما يراه الناسُ ويدركونه من أعمال المسلم ، فالناس لا يرون عقيدته لأن محلَّها القلبُ ، وهم لا يرون كلَّ عباداته ولكنهم يرَوْن أخلاقه وسلوكه معهم ، ويتعاملون معه من خلالها ، فالخلق هو السَّجيَّة والطَّبع، وهو صورة الإنسان الباطنية ، وبالنتيجة فهو هيئة راسخة في داخل النفس الإنسانية وفطرة تصدُرُ عنها الأفعالُ بتلقائية وسهولةٍ ويُسرٍ من غير حاجة إلى فكرٍ ولا رويَّة ، وهو عبادةً يؤجر عليها المسلم ، وهو أساس الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة ، قال صلى الله عليه وسلم: [إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً ، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون ، قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون] رواه الترمذي ، ولْنعلمْ أن الأخلاق هي المؤشِّر على استمرار أمَّة أو انهيارها ، فالأمة التي تنهار أخلاقُها يوشك أن ينهارَ كيانُها.

 

وكانت البعثة النبوية في الأربعين من عمره درساً آخر للأمة ، فالله جل وعلا بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للعالمين برسالة التوحيد ، وأوجب على الناس الإيمان به واتباعه ، وهذه عبرة قَيِّمة من عبر ميلاده صلى الله عليه وسلم ، فقد جاءه الوحي بها وهو في غار حراء يتعبد ويتفكر ويتأمل ، يرى تعاقب الليل والنهار وحركات الشمس والقمر والنجوم ، ويراقب تنفس الصبح وبدء حركة الأحياء من جديد بعد ذهاب الليل واستيقاظ النائمين ، فكانت اللحظة التي تشرَّف فيها بالرسالة والنبوة التي ابتدأت بقوله سبحانه وتعالى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } العلق 1-5، ثم جاءه التكليف بالتبليغ ، قال تعالى { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } الشعراء 214.

 

ومن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم تتعلم الأمة بأجيالها المتلاحقة درس الثبات على المبدأ مهما عظمت التضحية ، فقد جاء التكليف له صلى الله عليه وسلم بالرسالة بعد التشريف بالنبوة ، قال تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} الحجر 94، فانتقلت الدعوة من المرحلة السرية إلى المرحلة الجهرية الجهرية ، فكانت دعوته إلى التوحيد تحدياً قوياً وسافراً لقوم يعددون الآلهة ويعبدونها من دون الله ، فواجه منهم حرباً ضارية ومؤامرات غادرة وافتراءات باطلة ، وألَّبوا عليه القبائل فناله منهم ومنها ضرر بالغ كمن سبقه من إخوانه الأنبياء من الرسل ، خاطبه ربه سبحانه وتعالى بقوله { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } الأحقاف 35 ، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يتراجع أبداً ولم ينثني ولم تَلِنْ له قناة ، بل صبر حتى أظهره الله وأظهر دعوته ورسالته ، وطوى صفحة الشرك والمشركين إلى الأبد ، فعل ذلك قومه به وهو ابنهم ومن جلدتهم ، فأين العروبة والقومية التي يتبجح بها أربابها؟

 

إن ذكرى المولد النبوي الشريف التي ستحل بنا بعد أيام هي موسم متجدد ، ومحطة سنوية نقف عندها لنستحضر هذه المعاني وغيرها ، فإن لنا في مسيرة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته المطهرة أسوة حسنة ومرجعية أساسية ، ولنا فيها فوائد وعبر جليلة وكثيرة لا تعد ولا تحصى علينا أن نتدبرها ونستفيد منها ، فهي بإذن الله ستعيننا على تجاوز نكباتنا ونكساتنا وانكساراتنا وإخفاقاتنا ، فسنجد فيها الحلول لمشاكلنا وأزماتنا ، فحريٌ بنا جميعاً أن نقتفي أثر نبينا صلى الله عليه وسلم ونتأسى بأقواله وأفعاله وعزمه وجهاده وأخلاقه ، وعلى كل فرد أو جماعة منا - وبالأخص المربين من الآباء والمعلمين- أن ينشروا عطر السيرة النبوية بالقول والفعل والتعامل والسلوك أينما حلوا ، فهم بذلك سيكونون خير رسلٍ وخير سفراء لها لأنهم خير ورثة له ، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {إن العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر} رواه الترمذي.


: الأوسمة



التالي
رابطة علماء فلسطين تناشد الشعب الفلسطيني في الداخل بهبة جديدة نصرة للأقصى
السابق
في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم الدرس والعبرة   

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع