البحث

التفاصيل

التجديد في المقاصد حلقة مترابطة:

الرابط المختصر :

التجديد في المقاصد حلقة مترابطة:

الشيخ / خوالدية عاطف

اجتهد علماء المقاصد القدامى على مرّ العصور في وضع المقاصد المستنبطة من نصوص الشريعة، بدأً من الجويني في برهانه والإمام الغزالي في مستصفاه، ثم وسع من مساحة المقاصد الإمام الشاطبي في شرحه للموافقات، فهو هرم مترابط الأهداف والبيان والأصول.

أما العلماء المعاصرون، فنجد عندهم محاولات تجديدية تقترح توسيع المجالات الكلية لتحقيق مفهوم المصلحة، فقد أولى الطاهر بن عاشور المقاصد الاجتماعية اهتماماً خاصاً ظهر في فكره وكتبه، فجعل المقصد الكلي من التشريع هو حفظ نظام الأمة، وأدخل معه مجموعة من المعاني التي سماها بالمقاصد العامة، كالسماحة والمساواة والحرية والعالمية ومراعاة الفطرة وغيرها، وقسم هذه المعاني والمقاصد إلى جانب خاص بالفرد وآخر بالأمة، وجعل ما هو خاص بالأمة في مستوى أعلى على ما هو خاص بالأفراد.

وهذه التوسعة في مقاصد الشريعة، ما هي إلا تيسير لمقاصد الشريعة وسحبها على واقع الناس ليسهل عليهم فهم الشريعة دون مشقة وحرج، ونسمّي هذا الفعل من الطاهر بن عاشور توسيع وترتيب وتبويب مقاصد الشريعة الإسلامية.

وشاع عند علماء آخرين تجديد آخر في مستوى المقاصد النظري عن طريق إعادة التفسير "للمصطلح المقاصدي الموروث" فمثلا ذكر أبو الحسن العامري مزجرة هتك الستر التي شُرع لها حد الزنى، ثم اختار إمام الحرمين في برهانه عصمة الفروج للتعبير عن نفس المعنى، ثم استخدم أبو حامد الغزالي تلميذ الجويني في مستصفاه تعبير حفظ النسل، وهو التعبير تبناه الشاطبي في موافقاته ولكن القرضاوي قدم إضافة نوعية في هذا الباب حين أدرج "تكوين الأسرة الصالحة" في مقاصد الشريعة الإسلامية بشكل مباشر.

وإذا جاز الحديث عن حفظ الأسرة فهذا يعني أن تلغى مزجرة هتك الستر أو تسقط عصمة الفروج أو يؤخر حفظ النسل، وإنما المقصود أن يكون تحقيق هذه المصالح الفردية والجماعية جزء من بناء الأسرة، وأولى لتحقيق المصلحة في عصرنا، فكل من عصمة الفروج أو حفظ النسل مقصده الأعلى حفظ الأسرة ثم حفظ المجتمع ثم حفظ الأمة.

وتكلم العامري عن مقصد سماه مزجزة أخذ المال أين شُرعت لها حد السرقة والحرابة، وكان تعبير إمام الحرمين في نفس المعنى هو مصطلح "عصمة الأموال"، ثم طور أبو حامد الغزالي معنى ذلك في مستصفاه إلى جزء من نظرية الحفظ عنده سماه حظ المال، وأَصَّل الشاطبي لنفس المعنى في موافقاته، أما في العصر الحديث فقد توسع مفهوم المال ليشمل مفهوم القيمة التي ترتبط بالتداول الاقتصادي، وعبرت عن هذا التطور نظريات التمويل الإسلامي التي زاد البحث العلمي خاصة في العقد الأخير، بعد ظهور مشاريع البنوك الإسلامية، ثم حدث تطور نوعي في تناول مقصد حفظ المال عند بعض المعاصرين، وأصبح مفهوما اقتصاديا يلزم المؤسسات والدولة، أما بالنسبة لحفظ العرض أو مزجزة قتل النفس أو مزجزة ثلب العرض فهو مصطلح عند القدامى، أما بالنسبة للمعاصرين فقد شاع بينهم في معرض الحديث عن حفظ النفس وحفظ العرض مصطلح حفظ الكرامة البشرية، كنوع من التجديد والتفسير لهذين المصطلحين.

ومفهوم الكرامة البشرية لصيق بمفهوم حقوق الإنسان الذي ذكره كثيراً من المعاصرين في تجديد لمصطلح المقاصد، وهو تجديد يحاول أن يفعّل لمقاصد تفعيلاً يمس مشاكل الناس ويحل معضلاتهم وآلامهم ويحقق آمالهم.

إلا أنه من الواجب أن تحرر مصطلحات حقوق الإنسان بشكل مفصل قبل إدماجها بالمقاصد الشرعية، حتى يميز الخبيث من الطبيب، حتى يفرق بين ما يدعو إليه الغرب وما يدعو إليه الإسلام، فالغرب يدعو إلى التحرر المطلق في الحرية كالمثلية الجنسية وقطع النسل والرهبانية، بل وصل الأمر إلى أن يقدم الحيوان عندهم على الإنسان، أما بالنسبة لحقوق الإسلام فهي حقوق تجمع بين الجسد والروح، فلا تتعدى فيه حرية التعبير إلى حرية الإهانة والسخرية بالناس أو المقدسات وحرية اختيار الأزواج إلى حرية الشذوذ أو الخيانة ...الخ

فالأمر يحتاج إلى تحقيق وتدقيق حتى لا تفسر مفاهيم حقوق الإنسان مما يتناقض مع أسس الإسلام وثوابته، وحتى لا يطلق "مقصد حفظ حقوق الإنسان" دون تقيد بالصبغة الشرعية وحتى لا يساء استغلاله، وقد مر حفظ العقل بتطور مماثل على مدار الأجيال، من التركيز على حد الخمر فقط لكونها مذهبة للعقل، إلى توسيع ذلك المفهوم حتى يشمل كل ما يتصل بالعقل من علم وفكر، فحفظ العقل من كل ما يسلبه من أفكار وتسميم وغسيل مخ وحفظه من كل ما يذهبه عن الوجود والشهود الحضاري.

أما بالنسبة لحفظ الدين فعُبر عنده قديماً بمزجزة خلع (البيضة) بتعبير العامري الذي ارتبط (بحدّ الردّة)، وانتهى بمصطلح حفظ الدين عند معظم العلماء الذين كتبوا في المقاصد بمعنى حفظ العقائد والعبادات وغيرها من أصول الإسلام، فحفظ الدين مبدأ يضمن كفالة الحريات الدينية، بالمعنى المعاصر للمسلمين وغير المسلمين أو حرية الاعتقادات على حد تعبير شيخ الزيتونة ابن عاشور.

وكل هذه الاجتهادات المقاصدية تحتاج إلى مزيد من البحث حتى تؤصل علاقتها بالنصوص الشرعية، وترتبط مآلاتها بواقع المسلمين وما يصلحهم في هذا الزمان.

إن المقاصد منظومة معقدة تعقيد التصور الإنساني نفسه، وأن التجديد فيها لا ينبغي أن يحصر في نسق أولي بسيط، بل يحتاج إلى جهود جبارة وإلى مجامع فقهية لبلورة النظام الجديد لمقاصد الشريعة الإسلامية، فتصبح المقاصد عبارة عن قواعد تنزل عند الحاجة إليها أو تخرج عليها فروع فقهية مرتبطة بواقع معاش، لا مجرد توهمات أو تخمينات.

إن الإقتناع بضرورات التجديد المستمر للفكر الإسلامي بصفة عامة والفكر الفقهي بصفة خاصة، من شأن ذلك كله أن ينتج لنا خطاباً جديداً مفيداً بناءاً يساعد على تطوير الحياة الإسلامية والدفع بهذا إلى آفاق التقدم والنهوض، وفي الوقت نفسه يثري علاقات العالم الإسلامي بكل شعوب العالم، إذا أرادت الأمة أن تعيش عزيزة الجانب مسموعة الكلمة لابد لها أن تهتم بالعلوم الشرعية اهتماماً كبيراً كما فعل الأقدمون.

الخاتمة

إن دراسة تجديد علم المقاصد له الأهمية البالغة في الفقه والفكر الإسلامي، ويمكن حصرها في النقاط التالية:

  1. أهمية علم مقاصد الشريعة بوجه عام.
  2. التعرف على الخلاف بين العلماء في تجديد المقاصد بين التهيب والتسيب.
  3. تنمية الملكة المقاصدية لدى الباحث وتوسيع لمداركه المعرفية والفكرية.
  4. فهم النصوص الشرعية فهماً معللاً بالحكمة والمقصد.
  5. تجنب الفهم السطحي للنصوص وإعمال المقولة ماذا أراد لا ماذا قال.
  6. قطع الطريق على الفكر الحداثي وإبطال نظرية التأرخ التي هي مستندهم لهدم لهدم الشريعة ونسف قواعدها.
  7. إرساء الفكر الوسطي المقاصدي الذي لا يهمل المقاصد ويجافيها ولا يبالغ في المقاصد ويغاليها دون ضابط وقيد.
  8. لابد من الحفاظ على قابلية التجدد في الفقه الإسلامي وأن يتحول فقه مقاصد الشرعية من بيان لحكمة التشريع إلى منهج الحياة وإلى حل النوازل والمعضلات عن طريق توظيفه توظيفاً إيجابياً ليقل الخلاف الفقهي المبني على الظاهر وعلى تغييب المقاصد.
  9.  إن نفي المقاصد وإغفالها يؤدي إلى هيمنة النظر الجزئي، وإلى الجمود الحرفي مما يؤثر سلباً على حركة الاجتهاد وظهور الشريعة بمظهر الجمود وعدم مواكبة العصر.
  10.  إن مبررات دعاة إستقلال المقاصد عن الأدلة مبررات ضعيفة، كما فيها من التعسف وسوء الفهم في التأويل وخطأ في التنزيل.
  11.  إن الإفراط في استعمال المقاصد بمعزل عن النصوص ودون مراعاة الضوابط الكلية، يفضي إلى حركة اجتهادية تحكمها الأهواء، ويدفع البعض إلى الجمود والتفريط، ودعاة الحداثة هدفهم ليس خدمة الشريعة بل تمييعها وهدمها.
  12.  إن تقديم العقل عن النص وجعله الحاكم عليه، وتأويل كل نص يخالف مقتضاه أو ردّه، منهج مرفوض يؤدي إلى زعزعة الثوابت والتشكيك فيها.
  13.  إن الجمع بين النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية، هو المنهج السليم لفقه المقاصد والمعبر عن صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان.
  14. تجديد مقاصد الشريعة يحتاج إلى المنهج الوسطي الذي يجمع بين التمسك بالثوابت، وبين الانفتاح على العصر وفهم متغيراته.
  15. استقلال علم مقاصد الشريعة أصبح ضرورة ملحة بل واقع معيش.
  16. 29)      تجديد مقاصد الشريعة باب مفتوح لم يكتمل مباحثه وفصوله، وتبقي الإضافات مستمرة على مرور العصور.
  17. نظرية التأرخ نظرية مبنية على باطل، وكل ما بني على باطل فهو كذلك.

التوصيات

  1. تصفية مباحث المقاصد من المسائل غير المنضبطة والغامضة والمبهمة التي لا تصلح، لأن تبنى عليها الأحكام الشرعية.
  2.  عدم التسليم لكل ما هو موجود في كتب المقاصد، بل لابد من أن يوزن بموازين التأصيل العلمي المحكم.
  3.  توجيه اهتمام طلبة الماستر والدكتوراه إلى مباحث المقاصد وإعطائهم الموضوعات التي تخدم الشريعة.
  4. ضرورة الإستفادة من العلوم الإنسانية المعاصرة، شرط تنقيتها مما علق بها من مرجعيات غير إسلامية.
  5.  أهمية العمل الجماعي المتكاتف خاصة المجامع الفقهية للوصول إلى نتائج أكثر جدية وموضوعية وواقعية.
  6.  وضع شروط لتجديد المقاصد وتسييجه بسياج اللغة العربية وأصول الفقه، لكي لا يدخل إليه الغرباء والجاهلين والغالين والمتربصين.

 

المراجع:

  1. الموافقات، الشاطبي، تحقيق عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، سنة النشر: 1425هـ - 2004م.
  2. ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، سعيد رمضان البوطي، مؤسسة الرسالة، سنة النشر 1439هـ- 2018م.
  3. ضوابط منهجية التعامل مع النص الشرعي، قطب مصطفى سانو، مجلة الكلمة، تاريخ 15 أكتوبر 2004م.
  4. كيف نتعامل مع القرآن الكريم، القرضاوي، دار الشروق، الطبعة 3، سنة النشر 1421هـ - 2000م.
  5. مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية، 2004.
  6. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، دار الغرب الإسلامي، الطبعة 5، سنة النشر 1414هـ - 1993م.
  7. مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثانية، سنة النشر:1429هـ - 2008 م.

نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، أحمد الريسوني، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سنة النشر 1336هـ - 2015م.

 

([1]) هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي أبو حامد، الملقب بحجة الإسلام الفقيه الشافعي (الأصولي صنف كثير من الكتب منها: إحياء علوم الدين، الوسيط، والمنخول، وغيرها، توفي سنة (505 ه). انظر ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي: 4/101.

([2]) هو أبو الحسن، محمد بن يوسف العامري النيسابوري، عالم بالمنطق والفلسفة اليونانية، من أهل خراسان، وأقام بالري خمس سنين، واتصل بابن العميد فقرآ معا عدة كتب، وله عدة مؤلفات منها " الاعلام بمناقب الاسلام "و" أعلام الزركلي " ، انظر ترجمه في سير أعلام النبلاء للذهبي (ج16، ص406).

([3]) إمام الحرمين، هو أبو المعالي، عبد الملك بن يوسف بن عبد الله بن حيوية الجويني ثم النيسابوري، ولد سنة 419 هـ، وقد أثنى عليه كثيراً من العلماء لشدة حفظه وذكائه وبيانه ولسانه، من بين مؤلفاته: " الورقات" و"البرهان" و" مختصر النهاية"و" مختصر التقريب" و "وغياث الأمم في التياث الظلم"، توفي سنة 478 هـ. (انظر سير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي، (ج 18 – ص 468)).

([4]) القرضاوي،  كيف نتعامل مع القرآن الكريم، ص96.


: الأوسمة



التالي
التشديد في غير محله
السابق
الإنجاب والتربية أعظم الجهاد

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع