البحث

التفاصيل

النموذج التربوي في القرآن الكريم

الرابط المختصر :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبيّ الهُدى والرحمة المهداة، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.

سلسلة إضاءات إيمانية: الحلقة السابعة

د.عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين     

النموذج التربوي في القرآن الكريم:

توطئـــة:

يتضمن كتاب الله تعالى، بما هو كتاب وحي وهداية، نموذجا فذّا في تربية الإنسان العبد وتنشئته التنشئة السوية الصالحة في كلا الدارين الدنيا والآخرة. وهو نموذج لا مثيل له ولا نظير في تاريخ البشرية جمعاء منذ آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إنه نموذج يتأسس على منهاج قويم يتكون من عناصر أساسية داعمة تتمثل في الوحدات التالية:

1. الأسس والمبادئ الكبرى المؤطرة للتربية القرآنية.

2. المضامين والمفاهيم والأهداف المركزية الحاملة للرؤية التربوية القرآنية

3. المواصفات والسمات المثلى المشكلة لشخصية المربي القدوة كما هي مجسدة في الرسل والأنبياء وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

4. الأساليب والوسائل والطرق المستعملة حسب المقامات الإيمانية والتعبدية، وحسب الأحوال والسياقات الاجتماعية والنفسية والفكرية والبيئية.

5. النتائج والآثار والامتدادات التي تثمر ما يمكن الاصطلاح عليه بالسحنة المبتغاة لدى الأمة كلها أفرادا وجماعات وهيئات ومنظمات ومؤسسات.

 

 

  1. الأسس والمبادئ الكبرى:

تمثل الأسس والمبادئ الكبرى المؤطرة للتربية القرآنية دعائم الإيمان وأركانه الأساسية، التي لا تستقيم حياة الإنسان والمجتمع بدونها.

       1.1. أولها الإيمان بالله تعالى وتوحديه في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته. يقول تعالى: ﴿هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم﴾ الحشر: 22. ويقول عز وجل أيضا: ﴿إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين﴾ الأعراف: 53. وهناك آيات كثيرة تدل على ربوبية الله عز وجل مما لا يسمح المقام باستعراضها كلها. ونعرض بعضها باعتبارها أدلة شرعية نقلية، منها قوله تعالى: ﴿الحمد لله رب العالمين" الفاتحة: 1، وقوله عز وجل أيضا: "قل من ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون﴾ المؤمنون: 88، وقوله تعالى: ﴿قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون﴾ يونس: 31ـ32. كما نجد آيات بينات كثيرة في شأن توحيد الأسماء والصفات، تزرع في قلب المسلم بذور تطهير العقيدة من الانحراف أو الزّيغ، يقول تعالى: ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه، سيجزون ما كانوا يعملون﴾ الأعراف: 180. فالمؤمن الحق يتربى من خلال آيات الأسماء والصفات على هذا التطهير وهذا النقاء الذهني والعقلي، والصفاء النفسي والروحي الذي يجعله "يؤمن بما لله تعالى من أسماء حسنى، وصفات عليا، ولا يشرك غيره تعالى فيها، ولا يتأوّلها فيعطّلها، ولا يشبهها بصفات المحدثين فيكيفها أو يمثلها، وذلك محال. فهو إنما يثبت لله تعالى ما أثبت لنفسه، وأثبته له رسوله من الأسماء والصفات. وينفي عنه تعالى ما نفاه عن نفسه، ونفاه عنه رسوله من كل عيب ونقص إجمالا وتفصيلا» . يقول تعالى:﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى﴾ الإسراء:109.

ويترتب عن الإيمان بالله تعالى وتوحيده، الإيمان بملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر، وهي الأركان الأساسية التي يقوم عليها مفهوم الإيمان في الإسلام. يقول تعالى: ﴿آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ـامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾ البقرة: 284. ويقول عز وجل: ﴿ليس البرُّ أن تُوَلُّوا وُجُوهَكم قِبَلَ المشرق والمغرب ولكنِ البرّ مَن ـامَنَ بالله واليوم الآخر والملائكة والكِتاب والنّبيين وءاتى المال على حبّه ذوي القُربى واليَتَمَى والمساكين وابْن السبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصلواةوءاتى لزكاة والموفون بِعَهْدِهم إذا عَاهَدُوا والصّابرين في البأساء والضَّرّاء وحين البَأسِ أولئك الذين صدقوا وأولئك هُمُ المُتَّقون﴾ البقرة: 176. ويقول جل وعلا: ﴿إنّا كل شيء خلقنـ'ـه بقدر﴾ القمر:49. وقوله أيضا: ﴿ومَنْ يَكْفُرْ بالله وملائكته وكتُبِه ورُسُلِه واليوم الآخر فقد ضَلَّ ضلالا بَعيدًا﴾ النساء:135.

إن القصد من إيراد هذه الأدلة الشرعية هو التنبيه على أن القرآن الكريم أنزله الله تعالى رحمة للعالمين وهداية للخلق أجمعين، واستجابة لحاجة دفينة في الإنسان مفطور عليها، إنها الحاجة إلى «الإيمان والتدين والعقيدة الصحيحة، وأن الدين ضرورة من ضرورات حياته، وحاجة من حاجات نفسه، فلا غنى له عن الإيمان بربه، وعن عبادته بحال من الأحوال. ومن هنا لم تخل أمة وجدت على وجه الأرض، ومنذ عهد الإنسان بالحياة من عقيدة ودين، ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ فاطر: 24» .

إن الحاجة إلى الإيمان تعكس في العمق فطرة عقيدة المسلم، وفطرة الإقرار بالوحدانية ونفي الشرك، وتحرير العقيدة من براثنه، وتصفية النفوس والعقول من أكداره وأدرانه، ليصل المؤمن الحق إلى مقام التوحيد الخالص الذي يشعر فيه الإنسان بعبوديته المطلقة لله تعالى، وتعلق قلبه به جل وعلا، خوفا ورجاء، ورهبة ورغبة. فكل شيء في حياة الإنسان ومماته لله تعالى. يقول الحق عز وجل: ﴿قل إنّ صَلاتي ونُسُكي ومَحْيَاي ومَمَاتِي للهِ ربّ العَـ'ــلَمينَ لا شَريكَ لَهُ وبذ'لكَ أُمِرْتُ وَأنَا أوَّل المُسْلِمينَ﴾ الأنعام: 164ـ165.

ولئن كان مفهوم التوحيد بهذه المواصفات السابقة فلأنه تحقيق كلي لمعنى (لا إله إلا الله). ومن أجل هذا المعنى أرسل الله تعالى خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم، ليصدع به علما وعملا. يقول تعالى: ﴿فُل إنَّما أنَا بَشَرٌ مثْلُكُمْ يوحَى إليَّ أنَّما إلهُكُمُ إلَهٌ واحِدْ فاسْتَقِيمُوا إليهِ واسْتَغْفِرُوهُ﴾ فصلت: 5.

ويقول عز وجل أيضا: ﴿قالَ إنَّما أدْعُو رَبِّي وَلا أشْرِكُ به أحَدًا﴾ الجن:20. وفي هذا التحقيق لمعنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله معادلة إيمانية ربانية لا يستقيم وجه فيها دون الآخر، إنها معادلة العلم والعمل. وقد جاء القرآن الكريم عبر الآيات البينات دالا على هذا الارتباط الوثيق بين هذين الطرفين الأساسيين في هذه المعادلة، «فالعلم والعمل يرشدان إلى أن التوحيد فهما وتفهيما وتذكيرا ـ أي فهما ذاتيا للشخص الذي يريد معرفة التوحيد، وتفهيما للذين لم يدخلوا في دين الله ولم يعرفوه، وتذكيرا للذين زَهِدوا في الدّين فهجروه وتركوه».

في ضوء هذا المنظور فإن هذا الأساس التربوي والعقدي الذي هو التوحيد يدل دلالة قاطعة على فطرة الاعتقاد والإيمان بالله تعالى، وهي فطرة أودعها الحق جل علاه في النفس البشرية وربّى الخلق عليها، يقول تعالى: ﴿فأقِمْ وجْهَكَ للدِّين حَنيفا فطْرت الله التي فَطَر الناس عليها لا تبْديل لخلق اللهِ ذ'لكَ الدينُ القَيِّمُ ولَكنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمونَ مُنيبينَ إلَيْه واتَّقُوهُ وأقِيمُوا الصلـ'ـوة ولا تَكُونوا مِنَ المُشْرِكينَ﴾ الروم: 29ـ30.

يقول ابن كثير في تفسير هاتين الآيتين : «فسدّد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده وأنه لا إله غيره ... وقوله تعالى: ﴿لا تبديل لخلق الله قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها ... وقال آخرون: ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك» . وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي : ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جَدْعَاء.

2.1. يترتب الأساس الثاني عن الأول، ومفاده أن توحيد الله تعالى يُربّي فينا الاعتقاد بوحدة الدين كله المتمثلة في الرسالة الخاتمة. ويستدعي ذلك أن نؤمن بأن الكتاب المنزل الذي هو القرآن واحد، والدين الذي هو الإسلام واحد، والرسول المبعوث لنشر دعوة الله تعالى لكافة الناس أجمعين واحد. إن هذه الوحدة الجامعة المانعة تعكس في العمق وحدة الطريق المستقيم الذي رسمه الله تعالى في كتابه العزيز، وهو طريق الهدى والحق والاستقامة، يقول تعالى: ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذ'لكم وصـ'ـيكم به لعلكم تتقون﴾ الأنعام: 154. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خطّ رسول الله خطا بيده، ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما»، وخط عن يمينه وشماله ثم قال «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله صححه الحاكم) . وعن النواس بن سمعان الأنصاري عن رسول الله قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يدعو : يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط الإسلام والسوران حدود الله، والأبواب المفتَحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم» . يتبين من خلال هذه النصوص الشرعية النقلية أن المسلم المؤمن يتربى على هذه القاعدة الإيمانية المتينة، قاعدة التزام صراط الله المستقيم المتضمنة للدعاء الذي يتكرر في الصلوات الخمس ﴿اهدنا الصراط المستقيم الفاتحة: 5. فالهداية إلى هذا الصراط دعاء من المسلم المؤمن أن يتفضل عليه الله تعالى بالتزامه والاستقامة عليه، حتى يلقاه وهو راض عنه. وتلك غاية كل عبادة ومقصد كل ذكر «فيكون طلب الهداية إلى الصراط المستقيم طلبا لكمال الهدى وتمام الاستقامة» . فالمسلم المؤمن يجب أن يتربى، دائما، على هذا النهج بالمداومة على الدعاء والاستمرار عليه، وجعله وردا يوميا يتطهر به ويتزكى، ويكون وسيلته في أن يوفقه الله تعالى للثبات على صراطه المستقيم الذي بيّنه في كتابه الكريم، ووضحت معالمه السنة المطهرة في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة. فالرسول هو قدوتنا في التزام هذا الصراط. وكذلك أنبياء الله المرسلين إلى أقوامهم، الذين سرد القرآن الكريم قصصهم، بالإضافة إلى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، الذين اتبعوا سنة النبي ، واقتدوا به في دعوته وتربيته، «فالله سبحانه وتعالى قد شرع ووضع، والرسول قد طبق والتزم، والصحابة من ورائه قد تابعوا واقتدوا» . إن الهداية إلى صراط الله المستقيم لا تكون إلا لمن التزم بأوامر الله تعالى ونواهيه، وطبق شرعه دون نفاق أو تدليس، وثبت على الطريق حتى يأتيه اليقين. يقول تعالى: ﴿ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من ديركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشدّ تثبيتا. وإذا ءلأتينـ'ـهم من لَدُنّا أجرا عظيما. ولهدينـ'ـهم صِراطًا مستقيما. ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبئين والصديقين والشّهداء والصّـ'ـلحين وحسن أولئك رفيقا﴾ النساء: 65ـ68.

       3.1. يتمثل الأساس الثالث في مبدأ التدرج في بناء شخصية المسلم المؤمن بناء متينا لا تتزعزع أركانه، ولا ينهدّ بنيانه في كل وقت وحين. والتدرج بهذا الفهم العميق تندرج تحته المبادئ الأساسية الثابتة وهي :

أ) مبدأ تيسير فهم روح الدين الإسلامي عقيدة وعبادة ومعاملات، وتمكين الفرد المسلم من استيعاب كتاب الله تعالى عقلا وحسًّا، وتشرُّب قيمه وفضائله وجدانا وقلبا، فيسهل عليه الانخراط في سلكه والإسهام في الدعوة إليه.

ب) مبدأ تطهير الأنفس المقبلة على كتاب الله العزيز من العقائد الباطلة التي أهلكت الأمم السابقة، وجعلت عاقبتها الخسران المبين والعياذ بالله، وعلى رأس هذه العقائد المنحرفة الشرك بالله ومعصيته، وجحود النعمة والإصرار على الكفر والضلال، والانقياد مع الشيطان الرجيم وجنوده من الإنس والجن في عوالم الإغواء والإضلال والإفساد، يقول تعالى : ﴿وقال لأتخذنَّ من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلّنّهم ولأمنّينّهم وءلآمُرَنّهم فَلْيُبَتِّكُن ءاذان الأنعـ'ـام وءلامُرَنّهم فليغيّرنّ خلق الله ومن يتخذ الشيطـ'ـن وليا من دون الله فقد خسِرَ خُسْرانا مبينا﴾ النساء : 117ـ118. والمراد بتغيير خلق الله «تغيير دين الله بالكفر والمعاصي وإحلال ما حرم الله وتحريم ما أحلّ» .

ج) مبدأ تطهير العباد المقبلين على دين الله تعالى وكتابه الكريم من العادات القبيحة التي علقت بالطباع وانتقشت في الوجدان، وتأصلت في العقول والنفوس مما صعّب من عملية التخلية والتصفية، فجاء القرآن الكريم وسنّ نهجا محكما يتدرّج بالعباد شيئا فشيئا، للخروج من طوق تلك العادات القبيحة والإقبال على دين الله تعالى، من خلال العادات الحميدة والفضائل الكريمة التي يستحسنها الشرع الحكيم، ويرغّب فيها ويفتح بها عهدا جديدا، وحياة طيبة سعيدة، في كلا الدارين. يقول تعالى: ﴿وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصلحـ'ـت ليستخلفنّكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليُمَكِّننّ لهم دينَهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بى شيئا  ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفـ'ـسقون﴾ النور : 53.

يقول ابن كثير في تفسيره «هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأن سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد. وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما، وقد فعله تبارك وتعالى، وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكاملها. وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه» . فبالقرآن الكريم أحيى الله تعالى أمة الإسلام، يوم كانت معززة مكرمة لا تخاف في الله لومة لائم. ونصر بها البلاد والعباد، وبلغت رسالتها، العالم أجمع، فطابت بها الأنفس واستقرت بها الأحوال، ولذّ بها العيش واشرأبّت بها الأعناق إلى جنّة الفردوس.

       4.1. الأساس الرابع يتمثل في مبدأ الوسطية والاعتدال. وهو أساس جوهري في التربية القرآنية المبنية على دعائم التوازن والاعتدال واللين والسماحة، يقول تعالى:﴿وكذلك جعلنـ'ـكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾البقرة :142. فالوسط كما جاء عند الإمام الطبري، يعني في كلام العرب الخيار، ويُفسّر بمعنى العدل «لأن الخيار من الناس عُدُولهم... وإنما وصفهم بأنّهم (وسط) لتوسّطهم في الدين، فلا هم أهلُ غُلوّ فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهّب... ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكفروا به.ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها» . إن مبدأ الوسطية والاعتدال منهج يتماشى وفطرة الإنسان، ويقي الأمة من الغلوّ والتطرف. وقد نَهَى الشرع الحكيم عن اتباع هذا الطريق المحفوف بالمخاطر المهلكة، (فعن الأحنف بن قيس عن عبد الله قال: قال رسول الله : «هلك المتنطّعون» قالها ثلاثا) . والمتنطعون هم الذين غالوا وجاوزوا الحدود في الأقوال والأفعال، فانحرفت بهم الأهواء والنزعات العقدية عن صراط الله المستقيم الذي يمثل المنهج الوسط في الإسلام، الذي يلزم اتباعه «ويعتبر من أهم أسباب الوفاق والتقارب بين العاملين للإسلام: تجنّب التنطّع في الدين. بالإضافة إلى أن التنطع في الدين والغلو فيه يؤدي إلى التشديد في الأمور الصغيرة والتضييق على كل من خالف فيها، مما لا يتناسب مع مبدأ السماحة واليسر الذي يعد ركنا أساسيا في التقارب بين مكونات الأمة الإسلامية والوفاق بينها أفرادا وجماعات . اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وصدورنا، وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

                                      يُتبـــــــع

 

 

([1]) منهاج المسلم، أبو بكر الجزائري، ص. 15.

([2])  عقيدة المؤمن، أبو بكر الجزائري، ص. 17.

([3])  معنى التوحيد ودليله وطريق العلم بأصوله، كابوري، مجلة الفرقان، العدد السابع، ص. 10.

([4])  تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 6/175.

([5])  صحيح البخاري، البخاري، الجزء الأول كتاب الجنائز، باب : إذا أسلم الصبي فمات، الحديث رقم (1358)، ص. 282. أنظر أيضا: صحيح مسلم، مسلم، الجزء الثامن، كتاب القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة، الحديث رقم (2658)، ص. 458.

([6])  تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 3/264.

([7])  تفسير القرآن العظيم، نفسه، ص. 265، أنظر أيضا : صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير) ، المجلد الأول، نصر الدين الألباني، ص. 721 ـ 722.

([8])  مجالس القرآن : فريد الأنصاري، ص. 143.

([9])  يسألونك في الدين والحياة، د. أحمد الشرباطي، 7/293.

([10])  تاريخ القرآن الكريم، د. محمد سالم محيسن، ص. 17 ـ 18.

([11])  صفوة التفاسير، 1/281.

([12])  تفسير القرآن العظيم، ابن كثير 5/423.

([13])  جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، 1/412.

([14])  صحيح مسلم: الإمام مسلم، ج.8، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، رقم الحديث:2680، ص.473                

([15])  الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، د. يوسف القرضاوي، ص. 97.

([16])  الصحوة الإسلامية، د. يوسف القرضاوي، ص. 99.





التالي
سُبل تفعيل مبدأ الشورى في الشعوب الإسلامية
السابق
الاتحاد يستنكر بشدة تفجيرات أفغانستان، ويصفها بالجرائم التخريبية الخطيرة، المحرمة في جميع الشرائع السماوية والقوانين الدولية، والمنافية لكل القيم والأخلاق الإنسانية والإسلامية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع