البحث

التفاصيل

مواصفات التربية في القرآن الكريم:

الرابط المختصر :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبيّ الهُدى والرحمة المهداة، سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه واستنّ بسنته إلى يوم الدين.

سلسلة إضاءات إيمانية: الحلقة السادسة

د.عبد الكامل أوزال – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين     

        مواصفات التربية في القرآن الكريم:

إن القرآن الكريم هو كتاب عقيدة وهداية أنزله الله تعالى لإخراج الناس من ظلمات الكفر والجهل إلى أنوار الإيمان والعلم. يقول تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا﴾ الإسراء: 9. يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية «يمدح الله تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل، ويبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه، أن لهم أجرا كبيرا، أي يوم القيامة . يتبين من خلال هذه الآية الكريمة أن أول ما يميز التربية في القرآن الكريم هو خاصية المنهج الرباني الذي مصدره الله تعالى. فالتربية القرآنية بهذا المعنى هي تربية ربانية إلهية أساسها التوحيد ورضى الله عز وجل. فكما أن القرآن الكريم من خلال منهجه التربوي الرباني، صحح العقيدة ونقاها من لوثة الشرك «تعهد السلوك الإنساني بما يجعل التوحيد لبابه وغايته، ولن يكون السلوك صحيحا إذا كان الباطن سقيما".

ثاني خاصية تربوية في القرآن الكريم هي كون التربية القرآنية موجهة للإنسان باعتباره ذاتا عاقلة يربيها الحق عز وجل على تدبر آياته المسطورة (القرآن العظيم)، واستخراج الدروس والعبر منها، والتفكر في آيات الله المنظورة (الكون الفسيح) والبحث في أسرارها ومكنوناتها واستجلاء حقائقها وقوانينها وسننها، ليكون ذلك كله عونا للمؤمن على تصحيح العقيدة وتصفية منابع الإيمان وتثبيته في العقل والوجدان، ليبقى راسخا أبدا إلى أن يلقى الله تعالى وهو راض عنه. ولئن كانت التربية القرآنية تستهدف الإنسان فإنها جاءت موافقة لفطرته البشرية وجبلته الآدمية. فهي تربية تخاطب العقل والوجدان، والفكر والحواس، وتدعو الإنسان لاستعمال فكره وتفكيره في مخلوقات الله تعالى، لأن هذا هو المدخل والطريق الأول لمعرفة الحق سبحانه وتعالى «فكلما ازداد الإنسان علما بمخلوقات الله وأسرار خلقها ازداد إيمانا» . يقول تعالى : ﴿وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يومنون﴾ الأنعام : 100. يقول الإمام السعدي: «ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر أدرك المعنى المقصود، ولهذا قيّد تعالى الانتفاع بالآيات بالمؤمنين، فقال ﴿إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون﴾. فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من الإيمان، على العمل بمقتضياته ولوازمه التي منها التفكر في آيات الله واستنتاج المراد منها، وما تدل عليه عقلا وفطرة وشرعا» . ولئن حثّ القرآن الكريم على ضرورة التفكر في آلاء الله وفي الكون بأسره، فإن في ذلك إشارة وتوجيها وتربية للناس أجمعين لاستعمال الفكر والتأمل والتفكر، قصد استخلاص الدروس والعبر وإدراك عجائب الله في خلقه، فيكون ذلك إحياء للقلوب الميتة واستنهاضا للهمم وتحفيزا على العمل المثمر وتثبيتا للإيمان الصادق، ذلك أنه «كلما زادت قدرة الإنسان على الأسلوب العلمي في التفكير اكتشف من أسرار الكون ما لم يكن يعلم وعرف من خواص الأشياء ما كان يجهله» .

ثالث خاصية تتميز بها التربية القرآنية هي خاصية العالمية والكونية. فهي تربية صالحة لكل زمان ومكان ولجميع أصناف البشر قديما وحديثا وراهنا ومستقبلا، لأن مصدرها هو الله تبارك وتعالى الخبير بخلقه جميعا العالم بأحوالهم وأسرارهم وبواطنهم، وما يصلح لهم في دنياهم وأخراهم. ولن يكون ذلك متحققا على أرض الواقع إلا بالاتباع، اتباع المنهج التربوي الرباني الذي جاء به القرآن العظيم. يقول تعالى: ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون﴾ الأعراف:2. وقال أيضا جل وعلا: ﴿الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون﴾ الأعراف: 157. يقول الإمام القرطبي في تفسيره: «.. اتبعوا ملة الإسلام والقرآن وأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه. ودلت الآية على ترك اتباع الآراء مع وجود النص فيه». أما الإمام الطبري فيفسر قوله تعالى: ﴿فالذين آمنوا به وعزروه ونصروهـ الآية﴾ بقوله: «الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جل ثناؤه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم المنجحون المدركون ما طلبوا ورجوا بفعلهم ذلك» (7). فالاتباع كما هو وارد في الآيتين الكريمتين السالفتين أمر صادر من الله تعالى. والبشرية جمعاء تحتاج إلى الانقياد لهذا الأمر في الحال والمآل، وذلك بسن منهاج تربوي ينبني على أسس العقيدة الصحيحة المثبتة في الكتاب والسنة. إن للإتباع مقاما عظيما ومنزلة جليلة لا يبلغها إلا المؤمنون المتقون الذين وعوا أوامر الله ونواهيه بعقولهم وقلوبهم وجوارحهم. فأدركوا أن الاتباع شرط لقبول العبادات، ودليل على محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وصفة من صفات المؤمنين الصادقين. وهو أيضا سبب دخول الجنة والفوز بنعيمها .

الخاصية الرابعة هي خاصية الشمول، فالتربية القرآنية تربية شمولية تحيط بالإنسان من جميع جوانبه العقلية والنفسية والجسدية والروحية والوجدانية والحسية، وكل ما يتعلق بجوانب الشخصية الإنسانية. كما أن شمولية التربية في القرآن الكريم شمولية كونية تشمل العقيدة والشريعة ومعادلة الإيمان والعمل، ومنظومة العبادات والمعاملات بما في ذلك الجوانب السلوكية والأخلاقية. إن الله تعالى خلق هذا الكون الفسيح بأجرامه وكواكبه ومجراته، وبجنه وإنسه وكل العناصر الموجودة فيه على أساس «منهج موحد من السنن الربانية التي تقرب بعضها إلى بعض، فتجعل منها عالما أنيسا متكاملا، يسوده الانسجام والاستقرار والتوازن. » . إن شمولية مجال التربية في القرآن الكريم تشمل بهذا المعنى، القواعد الكلية والسنن الربانية التي لا تجري عليها عوامل الزمان والمكان. وهذا ما يتعلق بالمقاصد الكبرى والغايات السامية. أما ما يتعلق بالوسائل والطرق والآليات والأدوات التي يستعين بها الإنسان في تطبيق وتنزيل تلك القواعد، فقد جعلها الله تعالى مُيسّرة للأمة كي تجتهد في إبداعها واستنباطها من النصوص الشرعية إن وجدت، أو الاجتهاد فيها بالرأي والمشورة، وذلك حسب الحاجيات والمتطلبات التي يقتضيها العصر أو الفترة الزمنية المعيشة. يقول تعالى: ﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين﴾ النحل: 89. يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: «وقوله ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء قال ابن مسعود: قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء. وقال مجاهد: كل حلال وكل حرام، وقول ابن مسعود أعم وأشمل، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي، وكل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ومعاشهم ومعادهم» . إن خاصية الشمولية في التربية القرآنية تستوعب الفرد والمجتمع والدولة والأمة بأسرها في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والنفسية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والعقدية والتعبدية، وكل ما يتصل بشؤون الحياة في تفاصيلها الجزئية من تجارة وصناعة وبيع وشراء وهلم جرا. وهذا يعني أنها تربية تتأسس على مبدأ آخر وهو الثبات والاستقرار، وهذه خاصية أخرى تميز التربية القرآنية في الإسلام. وهذا دليل على أن سنن الله تعالى في خلقه بما في ذلك الإنسان لا يطرأ عليها تبديل أو تغيير، بل إنها تتصف بالثبات المطلق لأن الحق سبحانه وتعالى أخضع جميع مخلوقاته وموجوداته لها بالرغم من تنوعها وتعددها واختلاف أجناسها وتباين أصنافها. يقول تعالى: ﴿فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا﴾ فاطر: 43ـ44. إن سمة الشمول والثبات التي يتميز بهما مجال التربية في القرآن الكريم يدلان على سمة أخرى تميز التربية القرآنية إنها سمة التوازن. فالقرآن الكريم كتاب الله الحكيم يربي عباده أجمعين على أساس تتوازن فيه الحقوق والواجبات، وأمور الدنيا وأمور الآخرة. فلا نجد في هذه التربية الحكيمة إفراطا ولا تفريطا ولا غُلوّا ولا تشديدا، بل هي تربية تستجيب لمطالب الجسد كما تستجيب لمطالب الروح. وتتحقق فيها كذلك مطالب العقل ومطالب القلب والوجدان. نسأل الله تعالى أن يسددنا في القول والعمل وأن يلهمنا مراشد أمورنا في السر والعلن، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلّم على نبينا محمد المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

([1])  تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، الجزء الخامس، ص. 38.

([2])  المحاور الخمسة للقرآن الكريم، محمد الغزالي، ص. 46.

([3])  كتاب توحيد الخالق، عبد المجيد عزيز الزنداني، ص. 25.

([4])  تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، السعدي عبد الرحمن بن ناصر، الجزء السابع، ص. 267.

([5])  التربية والتعليم في القرآن الكريم، أحمد حسن الخميسي، ص. 109.

([6])  الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، الجزء التاسع، ص. 151.

(7)  جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير الطبري، الجزء الثالث، ص.509

 

 

([7] ) الاتباع: أنواعه وآثاره في بيان القرآن، لمحمد بن مصطفى السيد، الجزء الأول، ص. ص. 91 ـ 95.

 

([8])  أزمنتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، لأحمد محمد كنعان، ص. 53.

([9])  تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، الجزء الرابع، ص. 416.





التالي
د. محمد الصغير يكتب: تاريخ الهند مع الإسلام وسبب اضطهاد المسلمين
السابق
بلجيكا.. جمعيات إسلامية تلجأ إلى القضاء بعد حظر الذبح الحلال

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع