البحث

التفاصيل

(.. ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة..)

الرابط المختصر :

(.. ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة..)

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي – عضو الاتحاد

     ذكرى غزوة بدر الكبرى ، ما أحوجنا إلى استخلاص العبر واستلهام الدروس منها لنهتدي إلى طريق قويم يخرجنا من حالة الضياع التي نعانيها وبالأخص في هذه الظروف الصعبة العصيبة التي تمر بها أمتنا وقضيتنا وفد تحالف فيها الأخ والصديق مع العدو اللّدود ، فلعلنا نعيد إلى قضيتنا زخمها ومكانتها المركزية في الأمة ، ولعلنا نصل بها إلى الحل العادل بتحقيق آمال الشعب الفلسطيني الصابر المرابط في دحر الاحتلال ونيل الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها مدينة القدس المباركة ، وما ذاك على الله ببعيد.

     وأما قصة بدر فقد تجهزت قريش لمهاجمة المسلمين بجيش قوامه تسعمائة وخمسين مقاتلاً ، خرجوا ومعهم مائتا فرس بقيادة عمرو بن هشام (أبو جهل) وولوا وجوههم شمالاً باتجاه المدينة المنورة ، وقيانهم يضربْن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين ، وفيهم من الأشراف عتبة وشيبة ابنا ربيعة وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر ، والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود ، وأمية بن خلف وسهيل ابن عمرو وغيرهم . ومضى الجيش في مسيره حتى نزل بأقصى ماء من وادي بدر ، وبدر هي بئرٌ مشهورةٌ تقع شمال مكة وجنوب غرب المدينة المنورة.

     كان هذا الخروج نتيجة إصرار عمرو بن هشام ، فأبو سفيان كان قد أرسل إليه رسولاً يخبره بأن يعودوا إلى مكة بعد نجاة قافلة قريش من بين أيدي المسلمين فلا حاجة الآن لخروج المقاتلين لحمايتها ، إلا أن أبا جهل قال بعنجهية اهل الباطل وهو مستبعد الهزيمة [ والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم ثلاثاً ننحر الجُزُرَ (أي الجمال) ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان (أي المغنيات) وتسمع بنا العرب وبسَيْرِنا وجَمْعِنا فلا يزالون يهابوننا أبداً ] وما كان يعلم انه لن يرجع إلى مكة أبداً ، وما كان يعلم أن القيان ستنوح على قتلى قريش ، بل لم يكن يدري انه ساق قريشاً إلى مصير سيء أسقط مهابتها عند العرب  ، ثم تتابع السقوط بعدها على مدى ست سنوات تامة حتى جاء الفتح في العشرين من رمضان من العام الثامن للهجرة. 

     أما المسلمون فكانوا قد خرجوا بعدد قليل من المدينة المنورة يظنون أنهم سائرون في إحدى السرايا والبعوث التي كان يرسلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الإذن للمسلمين بالجهاد ، لذا كان عددهم يزيد قليلاً عن الثلاثمائة رجل ، ولم يكن معهم غير سبعين بعيراً يتعاقبون عليها كل ثلاثة على بعير واحد ، وفيهم فارسين اثنين فقط : الزبير بن العوام والمقداد بن عمرو ، وانتهوا في مسيرهم إلى وادي بدر فعسكروا في أدنى ماء منه.

     وهكذا اقترب الفريقان ، ووجد المسلمون أنفسهم أمام امتحان شاق لم يستعدوا له ، وحرب مفاجئة غير متوقعة لم يخططوا لها ولم يتجهزوا ، وعدوٍّ يفوق ثلاثة أضعافهم عدداً وعدة ، فجاءت كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم مشجعة لهم على الثبات والإقدام [ سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم ] رواه البيهقي، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه {... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس ، يقول : هذا مصرع فلان غدًا إن شاء الله ... فو الذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه مسلم..

     ثم إن الحباب بن المنذر رضي الله عنه أشار على الرسول صلى الله عليه وسلم بتغيير مواقع المسلمين بأن يأتي أدنى ماء من المشركين ليعسكر فيه ويبني عليه حوضاً ويملأه بالماء ، ثم يغوِّر ما وراءه من الآبار والعيون ، ثم يقاتل العدو فيشرب المسلمون ولا يشرب المشركون ، فأمر صلى الله عليه وسلم بإنفاذ مشورته ،

     سيطر النعاس على المسلمين ليلة المعركة ، لكن ما لبث أن تساقط عليهم المطر الخفيف فأيقظهم ونشّطهم ، ورطَّب الجو حولهم وأنعش صدورهم ، ولبَّد الرمل تحت أقدامهم ، وهي نعمة من الله وفضل حسَّنت من ظروف المعركة وسهلت على المسلمين القتال ، قال تعالى: {إذ يُغشِّيكم النُّعاسَ أمنَةً منه، وَينزِّلُ عليكم من السماء ماء ليطهرَكُم به، ويُذهبَ عنكم رجزَ الشيطان وَليربطَ على قلوبكم، ويثبتَ به الأقدامَ } الأنفال 11.

     وكان صلى الله عليه وسلم يستغرق في الدعاء الخاشع والابتهال والتضرع إلى الله مستغيثاً به {اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فإنك لا تعبد بعدها في الأرض ... اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم نصرك، ، فما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه أخذ رداءه فَرَدَّاهُ (أي ألبسه الرداء) ثم التزمه من وراء ظهره ثم قال : يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ...} رواه مسلم.

     والْتقى الجمعان ، وكانت بداية القتال من قبل المشركين ، إذ هجم الأسود بن عبد الأسد على الحوض الذي بناه المسلمون يريد الشرب منه ، فتصدى له حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وظل يلاحقه حتى قتله . ثم برز من المشركين عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ، فخرج لهم عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب ، فقُتل المشركون الثلاثة ، وجرح عبيدة بن الحارث لكنه ما لبث أن استشهد متأثراً بجراحه ، فكان أول شهيد في هذه المعركة الفارقة الفاصلة.

     غضبت قريش لهذه البداية السيئة التي صادفتهم بسقوط أربعة قتلى من أشجع مقاتليهم فبدأوا بإطلاق كثيف للسهام على المسلمين ، فحمي القتال وتهاوت السيوف ، وصاح المسلمون بشعار المعركة [ أَحَدٌ أَحَد ] ، وهنا اتضحت معالم خطة المعركة : فقد جعل صلى الله عليه وسلم الشمس خلفه فكانت في مواجهة المشركين ، وأمر أصحابه بكسر هجمات المشركين وهم مرابطون في مواقعهم بالنبال ، ومنعهم من مهاجمة قريش حتى يأذن لهم حيث سيكون جيش المشركين قد أصابه الضعف والتعب والإعياء ، وعندها سيبدأ المسلمون بالهجوم.

     وهذا ما كان ، فلما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم وألحقوا بهم خسائر جسيمة . فوهنت صفوفهم وبالأخص لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في الميدان يقاتل أشد القتال بين أصحابه لا يبالون شيئاً ، فانكسرت قريش وأخذها الفزع وانهزمت وجيشها بهذه الكثرة الكثيرة والعدة الكبيرة ، لكنه تأييد الله سبحانه وتمكينه ، قال تعالى { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } الأنفال 12 ، وقد يبدو الموقف عظيماً ومبالغاً فيه ؛ لكن الله سبحانه لا يتعاظمه شيء أبداً ، قال تعالى { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } آل عمران 124- 125

     وحتى أبو جهل قتله فتيان حديثا السن وهما ابنا عفراء ، ثم تفرق المشركون بعده وتركوا سيقانهم للريح ، ولقي مثل هذا المصير الفاجع سبعون صنديداً من رؤوس الكفر وزعمائه بمكة  الذين كانوا يتبجحون بالعداء لدين الله ورسوله والمؤمنين ، وسقط في الأسر سبعون مثلهم ، وفرَّ بقية التسعمائة والخمسون يروون لمن خلفهم بلسان الحال أن الظلم مرتعه وخيم وأن الطغيان لا يدوم ، وأن الحق فقط هو المنتصر في النهاية مهما طالت عهود الجبروت وأنظمة الاستبداد.

     أما من استشهد من المسلمين فكان عددهم أربعة عشر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار استأثرت بهم رحمة الله فذهبوا إلى عليِّين.

     كانت غزوة بدر في السابع عشر من رمضان لسنتين من الهجرة ، وأقام الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر ثلاثة أيام ، ثم عاد إلى المدينة المنورة ، ورأى قبل دخولها أن يعجِّل البشرى إلى المسلمين المقيمين فيها لأنهم لا يدرون مما حدث شيئاً ، فأرسل عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة مبشّرَيْن يؤْذِنان الناس بالنصر العظيم.

     فتح المسلمون عيونهم على بشاشة هذا الفوز الباهر الذي رد عليهم الحياة والأمل والكرامة ، وخلصهم من الضعف والاستضعاف ممن حولهم ، قال تعالى { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } آل عمران 123 ، وأذن لهم ولدينهم بالنصر والانتصار والانتشار رغم أنف أعدائه ، فهذا الوعد الرباني الثابت الذي لا يخلفه الله أبداً ، قال سبحانه وتعالى { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } التوبة 32-33 . وبعد بدر قويت شوكة المسلمين وأصبحوا مرهوبين في المدينة المنورة وما جاورها،

فحري بنا أن نعود إلى القيم الإيمانية العظيمة التي تحلى بها أهل بدر فانتصروا على القوة العاتية رغم قلة العدد والإعداد ، رغم قلة العدة والعتاد وانعدام النصير ، فالقوي لا يبقى قوياً إلى الأبد ، لأن معيار القوة الحقيقية أن تستخدم في نصرة الحق ، وأن انهيارها يبدأ من تجنيدها في الظلم والطغيان ، حري بما أن نتسلح بهذه القيم التي تسلحوا بها فاستحقوا أن يقول فيهم صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه {وما يدريك؟ لعل اللَّه عز وجل اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} رواه البخاري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.

 


: الأوسمة



التالي
من شُعَب الإيمان (16/ 30) أن نحرص على أكل الحلال، ونتورع عن أكل الحرام!
السابق
الاتحاد و50 مؤسسة علمائية تدعو الأمة لدعم المقدسيين وتخصيص الجمعتين القادمتين للحشد في مواجهة الاحتلال (بيان)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع