البحث

التفاصيل

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان (سورة ق)

الرابط المختصر :

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:

(سورة ق)

الحلقة الرابعة

بقلم: د. سلمان بن فهد العودة


«سورة ﴿ق﴾»: هي أول «حزب المُفَصَّل» - فيما صحَّحه ابن كثير، وغيره- وقيل: أوله: «سورة الحُجُرات»، وقيل غير ذلك، كما تقدم في «سورة الحُجُرات».
تسمية السورة:
تسمَّى: «سورة ﴿ق﴾»، أو: «سورة ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾».
وبذلك سمَّاها الصحابة رضي الله عنهم، ولا يُعرف لها اسم غيره.
وذكر السيوطي في «الإتقان» أنها تسمَّى: «سورة الباسقات».
وهو حزب في القرآن الكريم كان الصحابة يقرؤونه في ليلة، وقد سُئل بعض الصحابة- كما في حديث أَوْس بن أَوْس، وهو أَوْس بن حُذيفة رضي الله عنه-: كيف كنتم تُحزِّبون القرآن؟ أي: تقسمونه وتقرؤونه، فقال: «نُحَزِّبُهُ: ثلاثَ سُوَرٍ، وخمسَ سُوَرٍ، وسبعَ سُوَرٍ، وتسعَ سُوَرٍ، وإحدى عشرةَ سورةً، وثلاثَ عشرةَ سورةً، وحزبَ المُفَصَّل من ﴿ق﴾ حتى يَخْتِمَ».
«ثلاث سُور» يعني: البقرة، وآل عمران، والنِّساء.
و«خمس سُور» يعني: المائدة، والأَنْعام، والأَعْراف، والأَنْفال، والتوبة.
و«سبع سُور» يعني: يُونس، وهُود، ويُوسف، والرَّعد، وإبراهيم، والحِجْر، والنَّحل.
و«تسع سُور» يعني: الإِسْراء، والكَهْف، ومريم، و﴿طه﴾، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنُّور، والفرقان.
و«إحدى عشرة سُورةً» يعني: الشُّعراء، والنَّمل، والقَصَص، والعَنْكبوت، والرُّوم، ولُقْمان، والسَّجْدة، والأَحْزاب، وسبأ، وفاطر، و﴿كَانَ﴾.
و«ثلاث عشرة سُورةً» يعني: الصَّافات، و﴿ق﴾، والزُّمُر، وغافر، وفُصِّلت، والشُّورى، والزُّخْرف، والدُّخَان، والجاثية، والأَحْقاف، ومحمد، والفتح، والحُجُرات.
و «المُفَصَّل» من «سورة ﴿ق﴾» إلى «سورة الناس»، على الخلاف السابق ذكره.
فهذا التحزيب الذي كان الصحابة رضي الله عنهميعتمدونه لمَن أراد أن يختم القرآن في سبعة أيام.
* عدد آياتها: خمس وأربعون باتفاق علماء العَدِّ.
* وهي مكيَّة بالإجماع، كما ذكره غير واحد.
ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آية: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾ [ق: 38] نزلت بالمدينة، وكانت ردًّا على ادِّعاء اليهود الذين قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح يوم السبت. تعالى الله عن ذلك.
والصحيح أن الآية، وإن كانت واردة في المعنى ذاته، إلا أنها مكيَّة، وحكايات اليهود وأخبارهم ليست مقصورة على المدينة؛ إذ كانوا يتردَّدون على مكة، ويختلطون بالعرب، ربما سمعوا منهم مثل هذه المقالات الفاسدة.
* ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾:
﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾: حرف واحد ينطق بالمَدِّ، وهو اسم للحرف العربي المعروف.
﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ يجوز أن تكون ﴿ق﴾ من القرآن، أو ﴿ق﴾ من قدير، أو ﴿ق﴾ اسم للسورة، أو ﴿ق﴾ اسم من أسماء الله، أو ﴿ق﴾ حرف من الحروف التي يتكون منها القرآن، على حسب الأقوال المختلفة.
ومن الخطأ ما ذكره بعضهم أن ﴿ق﴾ جبل محيط بالأرض، والأرض متصلة به. فهذا مما لم يرد في كتاب ولا سُنَّة، ولا ثبت بأثر صحيح، كما أنه غلط مجافٍ للواقع.
ومن الخطأ الكبير أن تُقَدَّم معلومات مغلوطة عن الكون أو الفلك أو الإنسان، وتساق مساق تفسير القرآن الكريم؛ لأن هذا من شأنه أن يفتح للأجيال أبوابًا من الشك، والعُزُوف عن كتب التراث ومرويَّاته، وذلك حين يأتي متخصِّص في الجغرافيا أو الرياضيات أو الفيزياء فَيُقَدِّم لهم معلومات علمية، وحقائق مجافية لما نُقِل لهم، وإنما ثار الناس على الكنيسة لمَّا اعتمدت أقوالًا منافية للعلم، وثبتت الحقائق العلمية بخلافها، أما القرآن فـ ﴿ لَّا يَأْتِيهِ لبطل مِنۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِۦ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍۢ﴾ [فصلت: 42]، فمن الخطأ أن تُساق مثل هذه الأقوال في كتب التفسير على أنها تفسير لكلام الله عز وجل.
﴿وَالْقُرْآنِ﴾: أقسم تعالى بالقرآن؛ لأنه كان موضع شكٍّ عند هؤلاء المكذِّبين.
وسماه: «القرآن» باعتباره مقروءًا، ويسمَّى: «الكتاب» باعتباره مكتوبًا، فالقراءة تسمعها الآذان، وتستعذب ألفاظه ومعانيه، والكتابة تراها العيون، ولكل منهما وقعه الخاص على النفس وتدبر القلب وحضوره.
و﴿الْمَجِيدِ﴾: صاحب المجد، فمجد القرآن: عظمته وكماله، وإحكامه، وكونه ناسخًا لما قبله من الكتب السماوية، وبقاؤه وتأثيره.
والقَسَم بالقرآن: إشادة بعظمته، وإشارة إلى مادته المكوَّنة من الحروف التي ينطقها العرب، وأن هذه السورة واحدة من سوره العظيمة المنطوية على الإعجاز.
والسورة تدور حول معنيين أساسيين: الألوهية والبعث.
* ﴿بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُمْ مُنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾:
﴿بَلْ﴾: تُستعمل للإضراب والانتقال إلى بيان كفرهم وشبهاتهم، وما جرى منهم من التكذيب، بعدما استهل بالماح سريع أشاد فيه بمجد «القرآن» وعظمته.
وقد عجب الله من عجبهم واستغرابهم أن يأتي نذير؛ لأنه لم يأتهم نذير قبله: ﴿أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [القصص: 46].
وعجبهم واستغرابهم أيضًا أن يكون النذير منهم؛ أن يكون بشرًا، وفي زعمهم يجب أن يكون مَلَكًا ينزل عليهم من السماء: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [الأنعام: 9].
وليس العَجَب من عجبهم فحسب، بل من تسرعهم في الكفر والتكذيب،
﴿ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾.
* ثم شرع في بيان استغرابهم للأمر الآخر؛ وهو «البَعْث» بعد الموت: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾:
وهم يعرفون الموت، كما تعرفه الدوابُّ والبهائم، وأنهم يصيرون ترابًا؛ لأنهم يشاهدونه عيانًا.
وأتى أُبَيُّ بن خَلَف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ، فقال: يا محمدُ، أنتَ تزعمُ أن يُبعثَ هذا بعد ما أَرِمَ. ثم فَتَّهُ بيده، ثم نفخه في الرِّيح نحوَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، أنا أقولُ ذلكَ، يبعثُهُ الله وإيَّاك بعد ما تكونان هكذا، ثم يُدخلُك اللهُ النارَ».
﴿ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾: مستبعد في عقولهم التي لم تتعوَّد على التفكر الصحيح، والنَّظَر في الكلام الجديد عليها، وهم يقولون: ﴿بَعِيدٌ﴾؛ لأنه غير مألوف في تفكيرهم السَّطحي التقليدي.
وعادة أكثر الناس التَّسَرع في رفض ما لا يعرفون، وإنكاره وتسفيهه، كما قال سبحانه: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا ﴾ [يونس: 39]، فبمجرد ما يسمع أحدُهم خبرًا غير مألوف يبادر بتكذيبه، والقرآن يلهمنا إزاء المعارف والمعلومات الجديدة التي نسمعها لأول وهلة أن لا نتسرع في رفضها؛ لأن عقولنا لا تستوعبها أو لم تتهيَّأ لها، وأن لا تتسرع في قبولها دون برهان أو حجة: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ [النمل: 64]؛ لأن المرء قد يُكَذِّبُ بالحقِّ لغرابته، وقد يُصَدِّقُ بالباطل لكثرة ما يسمعه، واعتياده عليه، حتى لا يسأل عن دليله.
واستبعادهم للبعث هو من الجهل؛ لأن الشرائع السماوية كلها جاءت بتقريره وتثبيته، وأنه ركن من أركان الإيمان، وهو يستقر في نظر الناس؛ لأنهم يرون ظالمًا ومظلومًا يموتون دون فصل بينهم، ويرون قصصًا في الحياة لم تكتمل ولها بقية تظهر في البعث الآخر، وهو معتقد شائع معروف في أمم الأرض كلها، ومستقر في ثقافتها وشعرها وأساطيرها، ولكن العرب الوثنيين لم يكونوا مؤمنين به غالبًا؛ لجهالتهم وبعدهم عن أنوار النبوة والوحي، وكان قائلهم يقول:
حياةٌ ثم موتٌ ثم نَشْرٌ *** حديثُ خُرافَةٍ يا أمَّ عَمْرٍو
والسِّياق يكشف تناقضهم؛ فهم يعرفون أنهم يعودون ترابًا، ثم يستبعدون الرَّجْعَة، وينسون أنهم كانوا قبلها ترابًا، ثم الله خلقهم وأنشأهم أول مرة، والرَّجْع أهون من الإنشاء؛ لأنه إعادة، وكله على الله هيِّن، ولكن في حكم العقل فإن الذي أسَّسَ وأنشأ يسهل عليه أن يعيد.

* ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾:
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ﴾: ها هنا العلم الإلهي الشامل المحيط، وهو سبحانه يعبِّر بضمير الجمع للتفخيم والتعظيم، وهو يحاصر جهلهم وغفلتهم، ويذكِّرهم بذاته العَلِيَّة، ويضعهم في مكانهم اللائق بهم، وهم جثث بالية هامدة مَطْمُوْرَة في التراب، والأرض تأكلها شيئًا فشيئًا، وهنا يفعِّل الخيال لدى هذه الرِّمَّة الهالكة يعيث فيها الدُّود، ويبليها التراب، ويعبث بجمال وجهها، ويدخل في عينيها وفخذيها، وفمها وأذنيها، وتجاويف جسدها!
إنها دعوة للتواضع والذُّلِّ لله الحيِّ الباقي، والتوقف عن التكذيب.
صاحِ، هذي قبورُنا تمـلأُ الرَّحْـ *** ـبَ فأينَ القبورُ مِن عهدِ عادِ
خَفِّفِ الوَطء ما أظنُّ أَدِيم الـ *** أرض إلا من هذه الأجساد
رُبَّ لَحْدٍ قد صـار لَحْدًا مرارًا *** ضاحكٍ من تزاحُمِ الأضدادِ
ودَفِـيـنٍ على بـقــايـا دَفِــيـنٍ *** في طـويـلِ الأزمـانِ والآبـادِ
﴿وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾: مكتوب عند الله، وفيه شيء من علمه عز وجل فيما يتعلَّق بالبشر والخلق.
و﴿حَفِيظٌ﴾ أي: محفوظ عند الله، فلا يصل إليه أحدٌ، وهو حافظ لكل شيء، لا يَنِدُّ عنه شيء مما هو مقدور ومكتوب، أو ما هو مفعول من قبل الناس.
* ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾:
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾: تسرَّعوا بالتكذيب، دون تأنٍّ ولا تبيُّن، وهو حقٌّ، فهم إذًا في ضلال وصُدُود؛ لأنهم ﴿كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾، وليس بغيره، وهم لو كَذَّبوا بأمر متردِّد أو مشكوك دون تبيُّن وبحث لكانوا مَلُوْمِين، فكيف وقد ﴿كَذَّبُوا بِالْحَقِّ﴾ المبين الجليِّ الذي جاء به الوحي عن الله على ألسنة رسله؟
﴿فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾: والمَرِيج: المضطرب المختلط، كما في قوله سبحانه: ﴿مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ [الرحمن: 19].
ولها هنا معنيان:
1- أنهم لا يستقرون على شيء؛ فمرة يقولون: ﴿سَاحِرٌ﴾ [ص: 4، الذاريات: 52]، ومرة يقولون: ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ [الحاقة: 42]، ومرة يقولون: ﴿كَذَّابٌ﴾ [القمر: 25]، ومرة يقولون: ﴿أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 5]. فلم يستقروا على شيء؛ لأنهم مُكَذِّبون، ولا استقرار إلا بالإيمان والتصديق.
2- أنهم انتقلوا من التَّعَجُّب إلى الاستبعاد ثم إلى التكذيب، والعاقل إذا استغرب الشيء ينتقل من الاستغراب إلى البحث، ومن البحث إلى المعرفة واليقين والعلم، وليس إلى الكفر والتكذيب، فهذا من مروج الأمر عندهم.
وفي الآية: دليل على أن مَن ترك الكتاب والسُّنَّة فإنه لا يستقر على حال، ولا يهتدي إلى الخير، وأمره مَرِيج مضَّطرب.
وفيها: أن المذموم هو التكذيب بالحق الذي جاء من الله سبحانه على ألسنة رسله عليهم السلام، أما آراء الناس واختياراتهم ففيها الصواب والخطأ، وليس ردها أو التردد فيها سببًا للأمر المريج.
* ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾:
استفهام إنكار أو تقرير؛ لما كذَّبوا بهذه السرعة بدون تبصر، نبَّههم تعالى أن بإمكانهم أن يرفعوا رؤوسهم إلى السماء، فالأمر لا يتطلَّب أكثر من ذلك.
والسَّماء هي: كل ما علا وارتفع، فكل ما هو فوقك فهو سماء، فلماذا لا يستدلون بالسَّماء التي خلقها الله تعالى فوقهم، والنجوم والشمس والأقمار التي يشاهدونها، فيستدلون بها على خالقها، ويرون كيف بناها؟
وهنا بدأ السياق يجرهم إلى الدَّليل العقلي على مسألة البعث، فذكر لهم أربعة أدلة:
أولًا: ﴿أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾، فهذا الدليل، وهو خلق السماء بما فيها من قوة وجمال.
وفي الآية تذكير بالعلو؛ لأن البناء دائمًا يكون مرتفعًا فوق الأرض، فكذلك «السَّمَاء» سماها الله تعالى: ﴿نفساً﴾ [البقرة: 22]؛ لأنها عالية مرتفعة، فهذا مفهوم مباشر قريب مشهود.
وذكر مع البناء «الزِّيْنَة»، فالسماء زُيِّنت بالنُّجُوم: ﴿فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ﴾ [الملك: 5]، والزِّيْنَة مقصد في خلقه تعالى؛ فمن حكمة الله أنه جعل النُّجُوم زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النحل: 16].
الزِّيْنَة في الأرض بجمال النبات، وتنوع الأرض من بحر ونهَر، وسهل وجبل، واستجلاء هذا الجَمَال، ومشاهدته، والإعجاب به تدبرًا وتفكرًا مما يقرِّب المسلم إلى ربَّه.
كذلك جمال خَلْق الإنسان فيه إبداع إلهي عظيم؛ في جمال الصورة، وجمال الرُّوح، وجمال المنطق، وجمال العقل والتفكير، وهو دعوة إلى استكمال «الزِّيْنَة»، واستكمال الجمال في كل شيءٍ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [لأعراف: 31]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ». بجمال اللِّباس، والرائحة، والشَّعَر، بجمال الفم ونظافته، وبجمال الأخلاق، وبجمال القول.
وهم حينما ينظرون إلى السماء، يرون قبة زرقاء، ليس فيها ثقوب ولا شقوق، فهذا من الآيات الإلهية الربانية: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾ [الغاشية: 17-18].
* ثانيًا: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾:
﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا ﴾، فهي قريبة منهم، وفي متناولهم، والمَدُّ هو: البَسْط، فهم يرون «الأرض» ممدودة مستوية حينما يمشون عليها، ﴿ لَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ﴾ [الملك:15]، وهم في الغالب لا يعرفون حقيقة الأرض، إن كانت كُرَوِيَّة أو غير كُرِويَّة، أو ثابتة أو تدور؛ لأنهم كانوا أُمِّيِّين، كما أن القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتابًا في الفَلَك، إنما هو كتاب هداية، يلفت الأنظار إلى ما يهدي إلى الله ببديع خلقه في السماء والأرض والخلق، فالمقصود: بيان بَسْط الأرض، ومثله قوله: ﴿ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [الغاشية:20].
فـ «السَّطْح» و «البَسْط» معناه: أن الناس يمشون على الأرض، ويبنون عليها، ويقع لهم الاستخدام الأَمْثل لها فيما يرون، وهذا لا ينافي أن تكون كُرَوِيَّة؛ لأن الكلام هنا عن الأرض التي يعيشون عليها في مدنهم وقراهم وأماكنهم، أما مجمل الكرة الأرضية فهو أمر آخر لم يتم الحديث عنه هنا، وربما يُؤخذ من قوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ [الزمر:5]، وكذلك قوله تعالى:
﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس:40]
﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ أي: وضعنا فيها، والرَّواسِي هي: الجبال، مأخوذة من الرُّسُوِّ؛ لأنها تثبِّت الأرض، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [النحل: 15]، فالجبال تمنع الأرض من الاضطراب والزلزلة، وتحفظ توازن الكرة الأرضية من أن يقع لها اضطراب أو زلزال أثناء دورانها، فهذا من مقاصد حكمة الجبال، والامتنان على الناس بوجودها.
ومن الخطأ أن تقحم هذه الآية الكريمة بأنها دليل على أن الأرض ثابتة لا تدور، فهذا من أعظم الجناية على الدِّين؛ أن نجعل الحقائق الدِّينية في مواجهة الحقائق العلمية؛ وبخاصة بعدما تتحول الأقوال العلمية إلى قطعيات لا يختلف الناس عليها، فهي ليست محل شكٍّ، وإنما هي مُسَلَّمات يعرفها الناس ويشاهدونها.
﴿وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾: ﴿مِن﴾ أي: كثيرًا من الأزواج البَهِيجة من النباتات، والوصف بـ «البَهِيج» دليل على الجمال الذي هو مقصد في خلق السماء والأرض، فينبغي الاحتفاء بهذا الجَمَال، واستجلاؤه، والتأثر به، وذكر الله تعالى عنده، وهو يصنع جزءًا من تربية الإنسان على الذَّوْق، ورؤية الجَمَال، والحفاوة به.
* ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾:
التَّبْصِرة تعني: تبصير الإنسان بحيث يكون عنده بصيرة في عقله؛ بالتأمل واليقظة والعِظَة.
ويحتمل أن تكون التَّبْصِرة تتعلق بالدلالة على التوحيد، والإيمان بوحدانية الله، وهم كانوا يجادلون في ذلك.
و «التَّبْصِرة» و «التَّذْكِير» يحصل لكل عبد من عباد الله تعالى منيب إليه.
و «الإِنَابَة»: الرجوع إلى الله عند الخطأ والغفلة، فالذي يعتبر من آيات الله في السماوات والأرض، وآيات الله في القرآن؛ هو المقرُّ بعبوديته، المنيب كلما أخطأ رجع إلى الله، وتاب وأناب.
* ثالثًا: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾:
لما ذكر السماء ثم الأرض، ذكر شيئًا مشتركًا بينهما؛ وهو: المطر: ﴿مَاء مُّبَارَكًا﴾.
ووصفه البركة؛ لأن الله تعالى جعل فيه مضاعفة النفع للزرع والضَّرْع والثمر، وعليه تقوم حياة كثير من الناس، ولذا قال: ﴿يُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ﴾ [الأنفال:11]، فكان المطر من جنود الله تعالى، حتى في الحرب.
﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾: الجَنَّات هي: الأشجار الكثيرة المُلْتفَّة، كالغابات.
﴿وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾: ما يُحصد من الزُّروع، مثل: الشَّعير، والأُرْز، والحِنطة، وغيرها مما يستخرج حبه للأكل.
وفي الآية إشارة إلى معنيين:
1- أن هذا الزرع والحِصيد لكم أيها البشر؛ لكن السَّاق الذي يتم التخلص منه يصبح أعلافًا للأنعام، كما قال تعالى: ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ﴾ [النازعات:33]، وفي ذلك ملمح جميل إلى أن متاع الدنيا بذاته يشترك فيه الإنسان مع الأنعام، فأنت تأكل الحَبَّ وتترك التِّبْن للبهائم، فينبغي أن يكون الإنسان متساميًا، ولا يقتصر من الحياة الدنيا على مجرد هذا المتاع.
2- سرعة زوال الدنيا، فعلى العاقل أَلَّا يغتر بها؛ ولذا وصف الله تعالى الأمم التي أهلكها بالحَصِيْد، كما في قوله: ﴿تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ [يونس:24].
* ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ﴾:
نصَّ على النَّخْل؛ لأنها معروفة بكثرة في بلاد العرب، ولها واحات مشهورة في الجزيرة العربية، والعراق، وفي غيرها من بلاد العالم، والنَّخْل صديق للبيئة العربية، وورد في وصفها أنها «الرَّاسِخاتُ في الوَحْل»، أي: في الطين، و «المُطْعِماتُ في المَحْلِ»، أي: في المجاعة. وفيها ألوان من المكونات الغذائية التي يحتاجها جسد الإنسان.
والبُسُوق: الارتفاع الشديد.
والنَّضِيْد: المَنْضُود: المتراكب المنتظم، والسياق هنا يثير الاهتمام بشكل الطَّلْع، وانتظامه العجيب، وفي موضع آخر وصفها بأن ﴿أَيْمَانُكُمْ﴾ [الشعراء: 148]، أي: سهل الهضم، ومنظِّم للهضم، وهو معنى معروف مُجَرَّب.
* ﴿رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾:
﴿رِزْقًا لِّلْعِبَادِ﴾ أي: أعطاه الله وأنزله ﴿رِزْقًا لِّلْعِبَادِ﴾، كما أنه تعالى أنزل الوحي ﴿تَبْصِرَةً﴾ للعباد، وأنزل المطر رزقًا لهم، فجمع الله لهم خير الدنيا والآخرة؛ لأولئك الذين آمنوا به.
رابعًا: ﴿وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا﴾ أي: بالمطر، وهذا هو الدليل الرابع العقلي على إثبات البعث بعد الموت، فشبَّه خروج الناس من قبورهم بحياة الأرض بالمطر، ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]، فالآية تقرِّب معنى البعث، وأنه ليس مستحيلًا، فالذي أحيا الأرض قادر على إحياء الناس.
وفيه معنى آخر لطيف، وهو أن القلوب الميتة يمكن أن تحيا، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾، ثم قال:
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [سورة الحديد:16- 17].
فلا ييأس الإنسان من روح الله أن يصلح قلبه.

وقوله: ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ يدل على أمرين:
1- إثبات البعث، فيكون هذا من باب القياس؛ قياس الأمر الخفي المستقبل الذي لم يحدث على الأمر الظاهر الواقع الحادث، فقاس أمر البعث الأخروي على الأمر المشاهد بحياة الأرض بعد موتها.
2- بيان صفة البعث يوم القيامة، وقد فصَّله النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أن الله تعالى ينزل من السماء ماءً، فينبت الناس منه، ثم ينفخ في الصور، فتطير الأرواح إلى أجسادها.
وفيه اعتماد الأدلة العقلية مع الأدلة النقلية في النفي والإثبات؛ حيث ذكر تعالى هاهنا الأدلة النقلية ثم أتبعها بذكر الأدلة العقلية التي تدعو غير المؤمن إلى التأمُّل، وتزيد المؤمن إيمانًا إلى إيمانه.
* وبعد أن ذكر الله تعالى منته في الكون، والسماء والأرض، والمطر والنبات، والجمال في السماء، والجمال في الأرض، والدعوة إلى التدبر، أعقب ذلك بجولة تاريخية على الأمم الغابرة: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ﴾:
ونوحٌ عليه السلام أول الرُّسل، وكان آدم عليه السلام نبيًّا معلَّمًا مكلَّمًا، أما نوح فكان نبيًّا رسولًا، وذكر الله تعالى قصته في سورة خاصَّة، وأطال بذكرها في «سورة الأعراف»، و«سورة هود»، و«سورة الشُّعَراء»، و«سورة الصَّافَّات»، وسواها.
﴿وَأَصْحَابُ الرَّسِّ﴾ ذُكروا في قوله: ﴿الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ﴾ [الفرقان: 38]، و ﴿لرَّسِّ﴾ هو: الحَفْر، ومنه: رَسَّ البئر، أي: حفره، قيل: هم القتلة الذين ذكرهم تعالى في «سورة البُروج». فأجمل ذكرهم هنا؛ وذلك أنهم ألقوا المؤمنين في الحفرة التي تشبه الشِّق أو البئر في الأرض، ورجَّحه الطَّبَري.
وقيل بأن ﴿الرَّسِّ﴾ قرية من اليمامة، يُقال لها: الفَلْج. وفي نَجْد مدينة اسمها: ﴿الرَّسِّ﴾ ربما يكون المقصود قريبًا منها.
والحاصل أنهم قومٌ بُعث إليهم رسولٌ فَكَذَّبوه، فذكر تعالى شأنهم.
﴿وَثَمُودُ﴾: قوم صالح عليه السلام، وكانوا في الحِجرْ شمال الجزيرة العربية، وقد فصَّل القرآن قصتهم، ودعا العرب إلى الاعتبار بها؛ خاصة وأنها كانت على طريقهم، وهم يمرون بها، وآثارهم باقية مشهودة.
* ﴿وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾:
﴿وَعَادٌ﴾ هم: قوم هود عليه السلام، وكانوا بالأَحْقاف جنوب الجزيرة في أقصى اليمن.
﴿وَفِرْعَوْنُ﴾: وخصَّ فرعون؛ لأنه أكثر مَن طغى وبغى، ونازع الله في ألوهيته.
﴿وَإِخْوَانُ لُوطٍ﴾: هم قوم لوط عليه السلام، وهو لم يكن منهم؛ فإن لوطًا عليه السلام كان عبرانيًّا، وهم كانوا كنعانيين، فلم يكن من قبيلتهم؛ ولكنه بُعث إليهم، فسموا: «إخوانه» من هذا الوجه.
* ﴿وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾:
﴿وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ﴾: الأَيْكَة هي: الشجرة الملتفَّة، وهم قوم شُعيب عليه السلام، وكانوا بمَدْيَن من أرض الشام.
﴿وَقَوْمُ تُبَّعٍ﴾: وهم: حِمْيَر من العرب، ومنازلهم في اليمن، وذكر قومه؛ لأنه كان مؤمنًا وهم كافرون، والله أعلم، وقد ورد في هذا آثار؛ أنه كان ينتظر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كسا الكعبة، ودعا قومه إلى الإيمان، واسمه: أَسْعد أبو كُرَيْب، والسياق هنا يشهد لها.
﴿كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾: ومَن كذَّب برسول واحد فقد كذَّب بجميع الرُّسل؛ لأن رسالتهم واحدة، وهي تحقيق توحيد الله تعالى، ونَبْذ الشِّرْك.
﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ أي: فحق وعيدي عليهم بالعذاب، وقد وقع عليهم عذاب الاستئصال في الحياة الدنيا، وهو تحذير لقريش أن يُعَذِّبَهم الله كما عَذَّبهم، وقد حدث هذا لهم بعد ذلك بأيدي المؤمنين في معركة بدر؛ فضلًا عن الجوع الذي أصابهم، كما ورد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما أبطأت عليه قريشٌ وتأخَّرت قال: «اللهمَّ أعنِّي عليهم بسَبْع كسَبْع يُوسفَ». أي: سبع سنين، فأصابتهم مجاعة، حتى كانوا يرون ما بين السماء والأرض كهيئة الدخان من الجوع، وحتى أكلوا أوراق الشجر والعظام من الجوع، وقالوا: ﴿رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: 12].
* ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾:
﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ﴾ أي: خلقناكم المرة الأولى بلا مشقة ولا لُغُوب، ولم يقع في الخلق اختلال أو عجز، وحين يسألهم ربُّهم هذا السؤال، ويسوق فيه ضمير العظمة: (ناء)؛ يكون ذلك تحدِّيًا، والتحدِّي ممن؟ إنه من الله الخالق العظيم، يخاطبهم ويحرِّك عقولهم، ويدعوهم للاعتبار.
﴿بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ واللَّبْس هو: التحير أو عدم وضوح الأمر، وذلك أنهم كَذَّبوا بالبعث، وكانوا يقولون: ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾، فهذا هو الـ «اللَّبْس» الذي عندهم، وهم قد غفلوا عن أن الذي خلق أول مرة قادرٌ على الخلق مرة أخرى، وليس البعث شيئًا مستحيلًا؛ بل هو ممكن الحدوث، والفطرة والعدل مما يقتضيه، والرسالات عبر التاريخ جاءت لتقرِّره وتؤكِّده، وتدعو الخلق إلى الإيمان به، والعمل له.
* ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ﴾: تفريع على المعنى السابق، فهو حديث عن الخلق الأول، والمقصود: جنس الإنسان؛ فإن الخلق، ومعرفة ما في نفس الإنسان، والقرب منه قرب علم وإحاطة؛ هو مما لا يختص بأحد دون أحد، فهو شامل للمؤمن والكافر، على أن السياق في مجادلة الكافرين والجاحدين، ويدخل في هذا خلق آدم دخولًا أوليًّا، وكذلك ذريته من الذكور والإناث.
﴿ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾: وهذا اكتفاء بالأدنى عن الأعلى؛ فإن علم الباري سبحانه بوسوسة النفس يلزم منه العلم بما هو أظهر من ذلك من الأقوال والأعمال التي تُكتب عليه، ويُسأل عنها، فالعلم يدل على الحساب والسؤال، والإخبار عن الوَسْوَسَة إخبار عما فوقها: ﴿ زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [الملك: 14]، فهو لطيف يعلم تفصيلات الأشياء، وما توسوس به النفس من الخواطر والهواجس، والأفكار والأسرار، وما دونها، فلا تخفى عليه خافية، وهذه العقيدة تمنح المؤمن إحساسًا عظيمًا بالحضور، والرقابة، والمعيَّة، وتصنع الفرق في شخصيته وحياته.
﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ والعرب كانوا يضربون المثل في القُرْب بنحو قول الشاعر:
فهُنَّ ووادي الرَّسِّ كاليَدِ للفَمِ
وبِشِراكِ النَّعْل، كقول أبي بكر رضي الله عنه:
كلُّ امرئٍ مُصبَّحٌ في أهله *** والموتُ أَدْنَى من شِراكِ نَعْلِهِ
وفي الحديث: «الجنةُ أقربُ إلى أحدكم من شِراك نَعْله، والنارُ مثلُ ذلك».
فهذا النَّمَط من المقارنة من أسبقيات القرآن، ومعانيه اللطيفة.
والحَبْل مفرد: حِبَال؛ وهي: العروق، وتسميتها: «حِبَالًا» واضح المناسبة من حيث الشَّبَه.
والوَرِيد: شريان من الشرايين، وفي الجسم وريدان: يمين، وشمال؛ وهو عرق متصل بالقلب ويمتد على طول الجسم ليمده بالدم، كما في قوله تعالى:
﴿ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ ﴾ [الحاقة:43- 46]، ويسمى: نِياطُ القَلْب، وضربُ المثل بـ﴿ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ تأكيد للاطلاع على الأسرار وحركات القلب كلها، حتى تلك التي تخفى على صاحبها أو تَحْدُث في حال شرود أو سهو أو منام: ﴿ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ ﴾ [سبأ: 3].
وقرب الله سبحانه هو بعلمه المحيط، وسلطانه الشامل، الذي لا يَنِدُّ عنه شيء، وتدبيره اللَّطيف الذي لا يقع شيء إلا بإذنه.
ولعل من مقصود الآية: قرب الملائكة الموكَّلة به في حياته، المكلَّفة بقبض روحه، ولذلك قال: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾ أي: المَلَكان، ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾: فعن يمين الإنسان مَلَك الحسنات، وعن شماله مَلَك السيئات، ومَلَك الحسنات كأنه أمين أو متقدَّم على مَلَك السيئات.
والقَعِيْد هو: القاعد، كالصَّديق الذي لا يفارقك، ومنه تسمى الزوجة: قَعِيْدَة، كما قال الحُطَيئة:
أُطَوِّفُ ما أُطَوِّفُ ثم آوي *** إلى بيتٍ قَعِيدتُهُ لَكَاعِ
ومن طبع الإنسان أن يتحفَّظ من جلسائه، ولو كانوا من خاصَّته، الذين يتبسَّط معهم بالحديث، إلا أن ثمة أمورًا لا يفعلها ولا يقولها بحضرتهم، فالنَّصُّ يلقي في حِسِّ السامع أن ثمة قعيدين لا يفارقانه في يقظة ولا منام، وهما أجدر بالتحفظ والحياء.
* ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾:
لم يذكر هنا إلا «القول»، ولم يذكر «الفعل»، ولذلك أسرار:
منها: أن «القول» أساس «الفعل»، والغالب أن المرء يتحدَّث عما يريد أن يفعل، ويكون حديثه ترسيخًا لإرادة «الفعل»، وتحفيزًا للغير على المضي في «الفعل».
ومنها: أن سياق السورة حديث عن أقوال المشركين والمكذِّبين، ولذا يتكرَّر فيها لفظ: ﴿قَالَ﴾ بدءًا من قوله: ﴿فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾.
ومنها: أن المَلَك إذا كان يكتب «الأقوال»، فكتابة «الأفعال» من باب أولى.
ومنها: أن السياق يتدرَّج ويترقَّى من التحذير من «وسوسة النفس» التي يكون بمقدور المكلَّف تجنبها، إلى «الأقوال» التي يلفظها، إلى «الأفعال» التي تقع مرة ثم تتحوَّل إلى طبع وعادة، كما في قوله: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ﴾.
والرَّقِيب هو: الحاضر، والعَتِيد هو: المتهيَّئ المستعد للكتابة والتدوين والإحصاء.
وأكثر المفسرين على أن ﴿رَقِيبٌ﴾ بمعنى: مراقب و﴿عَتِيدٌ﴾ بمعنى: حاضر.
وقيل: إنه يكتب كل شيء، ثم يمحو ما لا قيمة له من الأقوال العادية التي لا يتعلق بها ثواب ولا عقاب، ولا حلال ولا حرام.
* ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾:
السَّكْرة هي: ذهاب العقل، ومنه: السُّكْر والسكران، فالموت سَكْرة تجعل الإنسان في غيبوبة بغياب عقله عما حوله، وقد أدركتُ الناس وهم يسمون الموت بـ«الحق»، ويقولون: فلان جاءه الحق، أي: مات.
ومن معاني الحقِّ: أن سَكْرة الموت تكشف للإنسان ما كان يجحد، فإذا احتُضر أدرك الحقائق التي كان يجادل فيها، وكثير من الناس إذا مرض ذهب عناده، وبدأ قلبه يميل إلى الإيمان، فكيف إذا احتُضر؟ والله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِرْ، أي: ما لم تبلغ الرُّوح الحُلقوم، وحال فرعون وتشبثه بالإيمان وهو يغرق تشير إلى هذه الإفاقة التي فات أوانها.
﴿ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ أي: تهرب، كما قال سبحانه: ﴿قَوْلاً مَّعْرُوفًا ۝ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾ [الجمعة:8]، والطبع البشري ميَّال إلى كراهية الموت، حتى المؤمنين، وأشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم لما قال: «مَن أحبَّ لقاءَ الله، أحبَّ اللهُ لقاءَهُ، ومَن كَرِهَ لقاءَ اللهَ، كَرِهَ اللهُ لقاءَهُ». فقالت عائشة رضي الله عنها: يا نَبِيَّ الله، أكراهيةُ الموت، فكُلُّنا نكرهُ الموتَ؟ فقال: «ليس كذلك؛ ولكنَّ المؤمنَ إذا بُشِّرَ برحمة الله ورضوانه وجنته أحبَّ لقاءَ الله، فأحبَّ اللهُ لقاءَهُ، وإن الكافرَ إذا بُشِّرَ بعذاب الله وسخطه كَرِهَ لقاءَ الله، وكَرِهَ اللهُ لقاءَهُ».
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في مرض الموت: «إن للموت سَكَرات». ويمسح العرق عن جبينه، ويضع خَمِيصة على وجهه يتغطَّى بها، فإذا اغتمَّ بها كشفها، حتى رأت فاطمةُ رضي الله عنها ما يعانيه، فقالت: واكرب أباه! فقال لها: «ليس على أبيك كَرْبٌ بعد اليوم».
والمؤمن يتلقَّى البشارة عند موته؛ ألا يخاف، ولا يحزن، ويُبَشَّر بالجنة ولقاء الأَحِبَّة.
ولا يصح حديث في ذكر الآلام المبرحة التي يحكيها الوُعَّاظ عند الموت، ولكن في القرآن ما يدل على أنها للكافر الجاحد، كما في قوله سبحانه:
﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [محمد:27]، وقال:
﴿ فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا ۝ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ﴾ [الأنفال:50]، وقال: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ﴾ [الأنعام:93]، أي: بالضرب للكافرين والفاجرين.
وقد يعاني المؤمن من آلام المرض الذي يسبق الموت، ولا يبعد أن يكون لنزع الروح بعض الألم، وقد كتب الإمام ابن حزم رسالة سماها: «ألم الموت وإبطاله»، وكتب ابن مِسْكَوَيْه نحوها، فليتأمَّل ما ذكروه، ويقارن بما دلَّت عليه النصوص الصحيحة.
* ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾:
انتقل السياق من الدنيا إلى الآخرة، وذكر تفصيلات البعث، وما يحدث فيه بدءًا من حياة البرزخ في القبر، ثم البعث؛ ليؤكِّد جِدِّية الأمر، ووجوب الاستعداد له، والإيمان به.
والصُّور هو: القَرْن الذي ينفخ فيه إسرافيلُ، وهي النفخة الثانية، كما قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [الزمر:68]، وحقيقته وماهيته غيبٌ لا يعلمه إلا الله، والإنسان بطبعه يتخيَّل الأشياء بحسب ما يعرف مما يشبهها في عالمه الدنيوي، ولا شك أن ثَمَّ شبهًا اقتضى أن تسمى بتلك الأسماء المعروفة لدى البشر، لكن ثَمَّ فرقٌ عظيم لا يحيط به الإنسان بين ما يعلم ويرى وبين حقائق الآخرة وأخبارها.
﴿ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾: وهو يوم الوعد، فالقيامة فيها الوعد والوَعِيد، وإنما قَدَّم ﴿ﮄ﴾؛ لأن السياق في المشركين المكذِّبين، فكان من المناسب أن يقدِّم
﴿ﮄ﴾ الزاجر لهم.
* ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾:
كل الناس يبعثون، و ﴿كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾؛ ﴿سَائِقٌ﴾ يقودها، ﴿وَشَهِيدٌ﴾ عليها، وهذا يشمل المؤمنين وغير المؤمنين، كما قال سبحانه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ [الزمر:71]، ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾ [الزمر:73].
ويمكن أن يكون المقصود: الكافر فقط؛ لما أسلفناه من أن السياق مخاطبة للكافرين، ولذلك قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا﴾، وهذا يصدق على الكافر، بخلاف المؤمن الممدوح، فإنه خُصَّ ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ﴾ [ص: 46].
وعبَّر بقوله: ﴿فِي غَفْلَةٍ﴾، فالغفلة وعاء محيط به، ومُطْبِق عليه.
﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ﴾: وكأن «الغفلة» كانت غطاء على عقله، ثم على جوارحه، فلا يرى الحقائق ولا يدركها.
﴿فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ أي: حادٌّ، فنظرك اليوم قادر على رؤية الأشياء واستحضارها وتصورها.
وقد عاب الله تعالى عليهم أنهم لم يكلِّفوا أنفسهم عناء النظر إلى السماء فوقهم، كيف بناها وزَيَّنَها، وما لها من فُروج، والنظر إلى الأرض كيف مدَّها، وألقى فيها رواسي، وأنبت فيها من كل زوج بَهِيج، فلم يكن بصرهم في الدنيا حَدِيدًا، بل كان كَلِيلًا مُعْرِضًا، أما اليوم فهو حَدِيد، حيث لا ينفعهم إلا الخوف والترقُّب والتوجُّس.
وقد يكون الحديد هو: الشاخص، كحالة تلقائية لسَكْرة الموت وخروج الروح، فإذا خرجت الرُّوح تبعها البصر


: الأوسمة



التالي
غوتيريش: الكراهية والتمييز ضد المسلمين وصلا "مستويات وبائية".. والقره داغي يعلق موقف شجاع نثمّنه ونقدره
السابق
ليبيا: بعد نيل الحكومة ثقة البرلمان.. الريسوني والقره داغي يهنئان رئيسا المجلس الرئاسي ورئيس الوزراء

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع