البحث

التفاصيل

إشراقات قرآنية (سورة المزمل)

الرابط المختصر :

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:

(سورة المزمل)

الحلقة الواحدة والثمانون

د. سلمان بن فهد العودة

 "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً  "

أمره بالصبر، وما أكثر ما يتردد ذكر «الصبر» والأمر به في القرآن الكريم! وكثير من الناس قد لا يدركون فضل الصبر، ولو سُئل كل الناجحين عن سرِّ نجاحهم، لأجمعوا على الصبر؛ ولهذا ختم الله سبحانه صفات الناجين بقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: 3]، فالإيمان يحتاج إلى صبر، وعمل الصالحات يحتاج إلى صبر، والحق يحتاج إلى صبر، والصبر يحتاج إلى صبر.

أمره بالصبر على ما يقولون؛ لأنهم كانوا يقولون قولًا عظيمًا مؤلمًا، كقولهم: {سَاحِرٌ }.. {شَاعِرٌ }.. {كَاهِنٍ }.. {مَجْنُون }، وهو أطهر الناس وأصدقهم وأعقلهم وأكملهم، فكان أمرًا شاقًّا على النفس، وأحدنا يجد في حكاية ذلك عنهم ثقلًا وانزعاجًا، فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه منهم ويبلغه عنهم، بل هو يُواجه هذا العناء من بعض أقرب الناس إليه!

وظُلْمُ ذَوِي القُرَبى أَشَدُّ مَضاضَةً * على المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

وخص الصبر على القول؛ لأن أكثر ما كانوا يؤذونه به هو الإيذاء بالقول، ويظنون أن هذا سيضطره إلى الكَفِّ عن الدعوة، ولأن القول الرديء أشد وقعًا على النفس من كثير من الأفعال، وهذا مجرَّب معروف، والقول يقدر كل أحد أن يقول ويردِّده، بخلاف الفعل، فإنه لا يطيقه إلا أصحاب القوة والرئاسة فيهم.

وفي الآية سرٌّ بديع؛ حيث جمعت بين الصبر، والهجر.

فهي قد حوت أصول معاملة الناس؛ إما أن تخالطهم فتصبر عليهم، أو تهجرهم فتسلم منهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أُمِر أولًا أن يصبر على ما يقولون، أي: أن يخالطهم ويصبر على أذاهم، وهذه هي وصيته صلى الله عليه وسلم: «المؤمنُ الذي يخالطُ الناسَ، ويصبرُ على أذاهم، خيرٌ من الذي لا يخالطهم، ولا يصبرُ على أذاهم».

فإن من شأن الناس الأذية، إلا مَن رحم الله، وأنت واحد منهم، تُؤذِي الناس مثلما يؤذونك، وكما أنك تشتكي من زوجتك، فزوجتك تشتكي منك، وتشتكي من جارك، وجارك يشتكي منك، وزميلك في العمل تشتكي منه، ويشتكي منك، وأخوك لأمك وأبيك تشتكي منه، ويشتكي منك، فما من إنسان إلا وهو يُؤذِي ويُؤذَى، إلا مَن رحم الله، وقد يؤذِي بغير قصد، لكن بحكم القصور ونوازع النفس البشرية.

وزهَّدني في الناس معرفتي بهم * وطُولُ اختباري صاحبًا بعدَ صاحبِ

فلم تُرِني الأيامُ خِلًّا تسـرُّني * مباديه إلا ساءني في العواقبِ

ولا صِرتُ أدعوهُ لدفعِ ملمَّةٍ * من الدهر إلا كان إحدى النوائبِ

والأمر الثاني: أن تهجر الناس، وليس المقصود هنا: أن يتركهم كليّةً، كلا! لأنه صلى الله عليه وسلم مطالب بأن يغشاهم في مجالسهم، ويدعوهم إلى الله، فليس هجرًا مطلقًا بمعنى: أنه لا يكلمهم، وإنما هجر مقالاتهم ومجادلاتهم، فلا تدخل معهم في جدل عقيم.

وهذا يُشبه ما قاله الله تعالى لمريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } [مريم: 26].

وكما أمره الله بالصبر الجميل، أمره أيضًا بأن يكون هجره هجرًا جميلًا، والهجر الجميل: هو الذي لا يصحبه جفاء ولا إغلاظ ولا سبٌّ.

فبعض الناس يهجر أخاه المسلم لأمر من أمور الدنيا، حتى لو كان زميله أو شقيقه أو صديقه، فلا يكلِّمه ولا يستجيب لدعوته، وهذا محرَّم، فقد جاء في الحديث: «لا يحلُّ لمسلم أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاث».

وبعض الناس لا يكون هجره جميلًا؛ لأنه إذا ذكر عنده في مجلس سبَّه واغتابه، فإذا كان ورعًا ولا يريد أن يغتابه قال: اتركوه، الله يستر علينا وعليه. وهذه غيبة مبطنة؛ مثل قول بعضهم: لا نريد أن نغتاب. فهي من أشد الغيبة؛ لأنه يعني أن للغيبة فيه مجالًا واسعًا، ولكننا ورعون عافون كافّون! ولو أردنا أن نقول فهناك مجال للقول.

وقد وَجَدتَ مكانَ القَولِ ذا سَعَةٍ * فإن وَجَدتَ لِسانًا قائِلًا فَقُلِ

وهذا من أعظم التوجيهات الربانية للدعاة؛ لأن كثيرًا من المصلحين يدخلون في هذا المعترك، فيأخذ من جهدهم وأعمارهم، والعمر محدود، والطاقة محدودة، فالدخول في معارك كلامية أو إعلامية تحفز إليه دوافع التوضيح والرد، وفي حالات عديدة يكون مباحًا وربما مشروعًا، ولكن حظوظ النفس تفسده وتجعله ضررًا على الداعية حين يكون كلامه دفاعًا عن نفسه أكثر مما يكون بيانًا للحق أو نقضًا للباطل، ومَن جرَّب عرف!

ومن المهم أن نتذكر أن أمر الدعوة والتعليم والبناء والإصلاح هو أمر ابتدائي، نقوم به في بناء الحياة، وتعليم الناس ونشر الأخلاق والقيم، وتوجيه الضالين وهداية الحائرين وإجابة السائلين، دون أن نُلزم أنفسنا بأن نكون وقودًا لمعارك إعلامية أو كلامية يكثر فيها التعدِّي والسِّباب، وقد يكون ثمة مَن يحاول أن يُسلِّط هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء، فيتحول الناس إلى احتراب وتنازع، في حين أن الدعوة تتطلب الحلم والصبر الجميل والهجر الجميل أيضًا.

 * {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً }:

{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ } أي: لا تشتغل بهم، واتركهم لي، ولم يذكر مكذِّبًا واحدًا، كما في «سورة المدثر»: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا }، وإنما ذكر مجمل المكذِّبين، ولم يسمِّ في القرآن من هؤلاء الكافرين الذين كانوا أحياء إلا أبا لهب، أما بقيتهم فقد ذُكرت صفاتهم دون تعيين أشخاصهم؛ لعلهم أن يهتدوا ويصلحوا، وحفاظًا على أولادهم وأسرهم ألا يتأثروا أو يتضرروا بذكرهم.

{أُولِي النَّعْمَةِ } أي: أصحاب النَّعْمة، المرفَّهين، المنعَّمين، المستمتعين المترَفين.

وهذا فيه تعريض بهم، إذ لم يشكروا النعمة، ولا أَدَّوْا حقها، ولا شكرها، وإنما زادتهم كبرًا وعتوًّا وترفعًا أن يؤمنوا بدين أكثر أتباعه من الضعفاء والمساكين.

{وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } أي: وقتًا يسيرًا، والحياة الدنيا كلها قليل: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ } [النساء: 77]، ولم يُحدِّد هنا: هل هي الدنيا كلها، فيكون الإمهال إلى الموت، أو الإمهال إلى يوم توعَّدهم الله فيه بالنَّكال الشديد، فيكون ما أصابهم يوم بدر هو موعدهم الذي أنظرهم الله تعالى فيه في هذه السورة؟

 * ﴿إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا ۝ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا﴾:

هذا من توابع الإمهال؛ وهو وإن كان عذابًا موعودًا في الآخرة أو في البرزخ بعد موتهم وقبل بعثهم، إلا أنه من «الإمهال».

نعم أمهلهم، لأهوال كثيرة تنتظرهم:

منها: الأَنْكال، وهي جمع: نِكْل، وهي القيود التي تكون في الأرجل، وكأن هذا في مقابل أنهم كانوا يضربون في الأرض، تنعُّمًا وترفًا، فلهم يوم القيامة أنكال وقيود تُوضع في أرجلهم فلا يتحركون.

ولدينا: جحيم؛ وهي النار التي تُكْوَى بها أجسادهم؛ جزاء كفرهم وصدِّهم عن دين الله.

ولدينا: طعام ذو غُصَّة، يَغَصُّ به الحلق؛ كالشَّوك والغِسلين والزَّقُّوم، فيغصّون به فيَنْشَب في حلوقهم، بدلًا من الطعام اللذيذ الذي كانوا يتمتعون به في الدنيا.

ولدينا: عذاب أليم؛ إشارة إلى أن الألم ينتظرهم في مقابل اللَّذَّة، وهم قد منعتهم اللذات من الإيمان.

 * {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً }:

سينالون ذلك العذاب في اليوم الذي ترجف فيه الأرض والجبال، وقد كانوا يرون الأرض راسية بتلك الجبال لا تضطرب ولا تميد، فهي يوم القيامة ترجف وتميد، وترجف الجبال معها وقد كانت من قبل سببًا في ثبات الأرض ورسوِّها وحفظ توازنها.

{وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً } أي: تتحول بعد الرجفة إلى رمل مجتمع، وليس كالرَّمل الذي يعرفه الناس، وإنما هي رمال مهالة، والإهالة: النثر، ومنه إهالة التراب على الميت، فهو ذاهب في الهواء كالتراب الذي يُهال من أعلى.

وقد ورد في مواضع أخرى تشبيهُ الجبال بأنها تكون كالسَّراب، وكالعِهن، وهي أوصاف متقاربة لموصوف واحد، أو هي دلالة على تحول الجبال، فتكون أوصافًا مختلفة في أوقات مختلفة.

 * {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً }:

{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ } أي: يبيِّن لكم الحق، ويُبَلِّغكم رسالة الله، وينصح لكم، وهو شاهد عليكم يوم القيامة إن آمنتم أو كفرتم.

{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً }: وهذه أول مرة يذكر فيها {فِرْعَوْنَ } في القرآن من حيث ترتيب النزول؛ فهذه السورة من أوائل ما نزل.

وهنا ذكر تعالى اسم {فِرْعَوْنَ }، ولم يذكر اسم الرسول؛ لأن المقام مقام تهديد للكافرين، وخصوصًا كبارهم، وقد كان أبو جهل يُعرف بـ«فرعون هذه الأمة»، وكان المشركون في مكة يُشْبِهُونَ آلَ فرعون في كثير من مقالاتهم، فكان فرعون يعترض ويحتج على أن يُختار موسى بالرسالة، فيقول: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ [الزخرف: 52-53] ، وكذلك قالت قريش، كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم } [الزخرف: 31]، وكانوا يفتخرون بأموالهم وأنهم أولو نَعْمة، وكان ثمة الملأ الكبار والسادة الذين يتآمرون ويحاولون أن يصرفوا عقول الناس عن الإيمان، وأن ينشروا بينهم قالة السوء، ومن هنا كان مناسبًا ذكر فرعون ومصيره، مع الإشارة إلى الرسول موسى عليه السلام، مع أنه كثيرًا ما يُذكر في القرآن قصة موسى وفرعون؛ لوجود شبه كبير حتى في المصير، وإهلاك الله تعالى لأعدائه، وقيام الأمر والدعوة، ووجود أمة كبيرة تتبع موسى، وأثر دعوته العظيم، وهو من أولي العزم من الرسل.

 

 


: الأوسمة



التالي
الاتحاد يبارك ويهنئ المصالحة الفلسطينية ويدعو كافة الأطراف إلى الالتفاف حول القضية الفلسطينية والعمل الجاد المشترك

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع