البحث

التفاصيل

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار من دعائم دولة الإسلام

الرابط المختصر :

الحلقة الواحدة والستون (61)

المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار من دعائم دولة الإسلام

الشيخ الدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ

كان مِنْ أولى الدَّعائم الَّتي اعتمدها الرَّسول صلى الله عليه وسلم في برنامجه الإصلاحيِّ والتَّنظيميِّ للأمَّة، وللدَّولة، والحكم، الاستمرار في الدَّعوة إلى التَّوحيد، والمنهج القرآنيِّ، وبناء المسجد، وتقرير المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي خطوةٌ لا تقلُّ أهمِّيَّةً عن الخطوة الأولى في بناء المسجد؛ لكي يتلاحم المجتمع المسلم، ويتآلف، وتتَّضح معالم تكوينه الجديد.

كان مبدأ التَّـآخي العام بين المسلمين قائماً، منذ بداية الدَّعوة في عهدها المكِّيِّ، ونهى الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن كلِّ ما يؤدِّي إلى التَّباغض بين المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تَدَابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيَّامٍ» [البخاري (6065 و6076) ومسلم (2559)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلِمُهُ، ولا يُسْلِمُهُ، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلمٍ كربة، فرَّج الله - عزَّ وجلَّ - عنه كربةً من كُرُبات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً، ستره الله يوم القيامة» [البخاري (2442) ومسلم (2580)] .

وقد أكَّد القرآن الكريم الأُخوَّة العامَّة بين أبناء الأمَّة، في قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: 103]، وقولـه تعالـى: ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الآنفال: 63] .

أمَّا موضوع هذا البحث، فهو المؤاخاة الخاصَّـة؛ الَّتي شُـرِعت، وترتبت عليهـا حقوقٌ، وواجبـاتٌ أخصُّ من الحقوق، والواجبات العامَّـة بين المؤمنين كافَّةً.

وقد تحدَّث بعض العلماء عن وجود مؤاخاةٍ كانت في مكَّة بين المهاجرين، فقد أشار البلاذري إلى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين في مكَّة قبل الهجرة على الحقِّ، والمواساة، فآخى بين حمزة، وزيد بن حارثة، وبين أبي بكرٍ، وعمر، وبين عثمان بن عفَّان وعبد الرَّحمن بن عوف، وبين الزُّبير بن العوَّام، وعبد الله بن مسعودٍ، وبين عبيدة بن الحارث، وبلالٍ الحبشيِّ، وبين مصعب بن عميرٍ، وسعد ابن أبي وقَّاصٍ، وبين أبي عبيدة بن الجرَّاح، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وطلحة بن عبيد الله، وبينه وبين عليِّ بن أبي طالب وَيُعَدُّ البلاذريُّ (ت 276 هـ) أقدم مَنْ أشار إلى المؤاخاة المكِّيَّة، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البرِّ (ت 463هـ) دون أن يصرِّح بالنَّقل عنه، كما تابعهما ابن سيِّد النَّاس دون التَّصريح بالنَّقل عن أحدهما.

وقد أخرج الحاكم في المستدرك، من طريق جميع بن عمير، عن ابن عمر رضي الله عنهما: «آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكرٍ، وعمر، وبين طلحة، والزبير، وبين عبد الرحمن بن عوف، وعثمان»، وعن ابن عباسٍ: «آخى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الزُّبير، وابن مسعودٍ» [الحاكم (3/314)] وذهب كلٌّ مِنْ: ابن القيِّم، وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكَّة، فقال ابن القيِّم: «وقد قيل: إنَّه - أي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض، مؤاخاةً ثانيةً، واتَّخذ فيها عليّاً أخاً لنفسه، والثَّابت الأوَّل؛ فالمهاجرون كانوا مستغنين بأخوَّة الإسلام، وأخوَّة الـدَّار، وقرابـة النَّسب عن عقـدٍ مؤاخـاةٍ، بخلاف المهاجرين مع الأنصار»، أمَّا ابن كثيرٍ؛ فقد ذكر: أنَّ من العلماء من ينكر هذه المؤاخاة للعلَّـة نفسها، الَّتي ذكرها ابن القيِّم.

لم تُشِرْ كتب السِّيرة الأولى المختصَّة، إلى وقوع المؤاخاة بمكَّة، والبلاذريُّ ساق الخبر بلفظ «قالوا» دون إسنادٍ؛ ممَّا يضعِّف الرِّواية، كما أنَّ البلاذريَّ نفسه ضعَّفه النُّقاد، وعلى فرض صحَّة هذه المؤاخاة بمكَّة، فإنها تقتصر على المؤازرة، والنَّصيحة بين المتاخين؛ دون أن تترتب عليها حقوق التَّوارث.

أولاً: المؤاخاة في المدينة:

أسهم نظام المؤاخاة في ربط الأمَّة بعضها ببعض، فقد أقام الرَّسول صلى الله عليه وسلم هذه الصِّلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الَّذي تذوب فيه عصبيَّات الجاهليَّة، فلا حَميَّة إلا للإسلام، وتسقط به فوارق النَّسب، واللَّون، والوطن، فلا يتأخَّر أحدٌ، أو يتقدَّم، إلا بمروءته، وتقواه.

وقد جعل الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم هذه الأخوَّة عقداً نافذاً، لا لفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدِّماء، والأموال، لا تحية تثرثر بها الألسنة، ولا يقوم لها أثرٌ. وكانت عواطف الإيثار، والمواساة، والمؤانسة تمتزج في هذه الأُخوَّة، وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال. والسَّبب الَّذي أدَّى إلى تقوية هذه الأُخوَّة بين المهاجرين والأنصار هو أنَّ أهل هذا المجتمع، ممَّن التقوا على دين الله وحده، نشَّأهم دينهم الَّذي اعتنقوه، على أن يقولوا، ويفعلوا، وعلَّمهم الإيمانَ، والعملَ جميعاً، فهم أبعد ما يكونون عن الشِّعارات الَّتي لا تتجاوز أطراف الألسنة، وكانوا على النَّحو الَّذي حكاه الله عنهم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[النور: 51] .

وبذلك الَّذي درج عليه المسلمون كفل البقاء، والاستمرار لهذه الأخوَّة؛ الَّتي شدَّ الله بها أَزْرَ دينه، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، حتَّى آتت ثمارَها في كلِّ أطوار الدَّعوة، طوال حياته صلى الله عليه وسلم ، وامتدَّ أثرها، فجمع كلمة المهاجرين والأنصار عند استخلاف الصِّدِّيق رضي الله عنه دون أن تطوِّع لهم أنفسهم (أي: للأنصار) أن يحدثوا صدعاً في شمل الأمَّة، مستجيبين في ذلك لشهوات السُّلطة، وغريزة السَّيطرة، لذلك فإنَّ سياسة المؤاخاة بين المهاجرين، والأنصار نوع من السَّبق السِّياسيِّ: الَّذي اتَّبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تأصيل المودة، وتمكينها في مشاعر المهاجرين، والأنصار، الَّذين سهروا جميعاً على رعاية هذه المودَّة، وذلك الإخاء؛ بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده، ولاسيما الأنصار، الَّذين لا يجد الكُتَّاب، والباحثون مهما تساموا إلى ذروة البيان، خيراً من حديث الله عنهم.

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] . ونلحظ في الآية السَّابقة: أنَّ الله تعالى شهد لهم بخمس شهادات:

  1. تبوَّؤوا الدَّار، والإيمان من قبلهم.
  2. يحبُّون من هاجر إليهم.
  3. لا يجدون في صدورهم حاجةً ممَّا أُوتوا.
  4. ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
  5. ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون.

وفي الآية السَّابقة فوائدُ عظيمةٌ، وحكمٌ جليلةٌ؛ منها:

(أ) التَّعبير عن المدينة بلفظ «الدَّار» إشعارٌ بأنَّها دارٌ خاصَّةٌ لكلِّ متوطِّنٍ بها، متبوِّئ لها، فهي بالنِّسبة لأهلها كدارٍ خاصَّةٍ للفرد، يهنأ بالأمن، والاستقرار، وهو في داخلها، وفي هذا الإشعار نوعٌ من الأنس السَّريِّ في النَّفس، يزيدها رُوْحاً، وطُمأْنِينَةً، فالأنصار في دارهم، وإيمانهم متمكِّنون من الأمن، والاستقرار المادِّيِّ، تتنزَّل عليهم السَّكينة، فتحفُّهم بنورها، كأنَّها سياجٌ من الرَّحمة مضروبٌ عليهم، لا يلحقهم فزعٌ، ولا يدخل عليهم قلقُ.

(ب) أمَّا قولـه تعالى: فالضَّمير فيه ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، ومعناه: أنَّ الأنصار هم الذين تبوَّؤوا المدينة المنوَّرة داراً لهم، وتبوَّؤوا معها الإيمان من قبل هجرة المهاجرين إليهم؛ لأنَّ المهاجرين وإن تبوَّؤوا الإيمان قبل الأنصار؛ لأنَّهم سبقوهم إليـه، وتمكَّنـوا منـه أعظم تمكُّنٍ، وتمكَّن هو منهـم أبلغ تمكُّنٍ؛ لكنَّهم لم يتبوَّؤوا مع الإيمان داراً يتمكَّنون فيها من الاستقرار الحسِّيِّ المادِّيِّ، والأمن على أنفسهم، وإيمانهم من فزعات الأعداء، وسطواتهم، فكان للمهاجرين في تَبَوُّؤ الإيمان دون تَبَوؤ الدَّار، وكان للأنصار تَبَوُّؤُهما معاً في قرنٍ واحدٍ.

(ج) ومن لطائف القرآن الحكيم: أنَّه ساق مدْحَةَ المهاجرين قبل مِدْحَة الأنصار، مفتتحاً لها بقوله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8] .

فجعل فَقْد بعض ما كان مدحةً للأنصار من تَبَوُّؤ الدَّار، والإيمان مدحةً للمهاجرين؛ لأنَّهم فقدوه ابتغاء فضل الله ورضوانه، ونصرهم الله بنصر دينه، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم بنصر رسالته، ودعوته، ووصفهم بأنَّهم هم الصَّادقون، وأنَّ الناس تَبَعٌ لهم في ذلك، فقال يشرِّفهم بهذا الاختصاص: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ وقال لعامَّة المؤمنين: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]  فالقَبْلِيَّةُ - أي: قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ - بهذا المعنى مدحةٌ للأنصار؛ جاءت لتشعرهم بواجباتهم نحو إخوانهم الَّذين هاجروا إليهم، تاركين ديارهم، وأموالهم ابتغاء فضل الله، ورضوانه، والتَّفرُّغ لنصرة دينه، ونصرة رسوله، فالدَّار الَّتي فقدها المهاجرون بما فيها من أموالٍ، وفلذات أكبادٍ إنَّما فقدوها تقرُّباً بفقدها إلى الله، فأووا إلى الأنصار يتبوَّؤون معهم دارهم، دار الأمن، والاستقرار، مع سبق تَبوُّئهم الإيمان قبل الأنصار، فكمل لهم بهذه الهجرة تبوُّءُ الدَّار والإيمان، وانفردوا بسبق تَبَوُّئِهم الإيمان. فضيلةٌ لا يشاركهم فيها غيرهم من سائر المؤمنين، وفي طليعتهم الأنصار، الَّذين جعلوا من الإيواء والنُّصرة دعامتين للمؤاخاة القائمة على الحبِّ الصَّادق، فقيل في وصفهم: وهذا حبٌّ ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾، والله جعله فضيلةً لهم، ميَّزهم بها في مقابلة وصف المهاجرين بأنَّهم أُخرجوا من ديارهم، وأموالهم؛ ابتغاء مرضاة الله، وتعرُّضاً لفضله المنهمر عليهم غيثُه ديمة لا ينقطع، ولا يفتر، وهم يحملون بين جوانحهم قلوباً عامرةً بالحبِّ لإخوانهم الأنصار، الَّذين وُصفوا بالإخلاص الصَّفيِّ، الَّذي كان ثمرة الحبّ في الله، ولله، فقيل عنهم: أي: أنَّهم ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ تستشرف نفوسهم إلى فضلٍ ناله إخوانهم المهاجرون من سبقهم بالإيمان، وتضحيتهم بمفارقة ديارهم، وأموالهم، وانتهاضهم لنصرة دين الله، ورسالاته، ولا يتطلَّعون إلى شيءٍ منه تطلباً له، أو مشاركةً فيه.

(د) وفي قوله: : والحبُّ الَّذي يسجِّله ربُّ العزَّة ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ تبارك وتعالى - في محكم كتابه آيات بيِّنات تُتلى، ويُـتعبَّد بها في روعة إعجازها، وبراعة أسلوبها، وسموِّ منهجها في الهداية، لا يمكن أن يبقى معه في حنايا النَّفس المؤمنة آثار حزازةٍ تحسد المهاجرين على ما اتاهم الله من مكارم الإيمان، والتَّضحية في سبيله بالدِّيار، والأموال، بله متعةً مادِّيَّةً زائلةً تافهةً.

وصفات المدحة السَّلبيَّة لا تذكر في مقامها إلا إذا كانت ممكنة الوقوع، فيكون نفيُها عنصراً من عناصر المدح المقتضية إحلال ما يقابلها من صفاتٍ إيجابيَّةٍ في بناء المدحة المشرِّفة.

فإذا قيل في وصف الأنصار بعد وصفهم بحبِّهم المهاجرين: ﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾، معنى ذلك: أنَّ هؤلاء الأنصار سَمَوا في حبِّهم لإخوانهم المهاجرين إلى ذِروة الصَّفاء، والإخلاص، ووحدة الشُّعور، وامتلأت صدورهم بهذا الحبِّ القدسيِّ، فلم تعد تتَّسع لشيءٍ معه، إلا أن يكون ذلك الشَّيء أثراً من آثار الحبِّ، وليس ذلك إلا ذِروة الفضائل، وهو إيثارهم على أنفسهم بكلِّ مكرمة، ولو كانوا هم في أشدِّ الحاجة إليها.

(هـ) ومجيء قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ﴾ عقب قوله عزَّ شأنُه: ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ﴾ بيـانٌ لثمرة هذا الحب، وهي ثمرةٌ سما بها الأنصار إلى افاقٍ لم تصل إليها البشريَّة في تاريخها البعيد السَّحيق، ولا في تاريخها الدَّاني القريب، تلك هي ثمرة الإيثار على النَّفس، الَّتي أثمرها الحبُّ الإيمانيُّ.

(و) ثمَّ وُصِفُوا بالفلاح على جهة الاختصاص به في مقابلة اختصاص المهاجرين بالصِّدق في عزائمهم، والإخلاص في إيمانهم، فقيل فيهم بعد تقرير: أنَّهم بهذا الإيثار صفَتْ نفوسُهم من كُدورات التَّطلُّعات، والحزازات، وأخلصوا الحبَّ لإخوانهم المهاجرين، وطُهِّروا من رشح الشُّح، فتوقَّوه بفضيلة الكرم والسَّخاء المؤثر: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

كان هذا الحبُّ الأخويُّ بين المهاجرين والأنصار، هو الأساس الَّذي قامت على دعائمه المؤاخاة الاجتماعيَّة؛ الَّتي عقدها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين أصحابه بعد مَقْدِمِه المدينة، فقد كانت هذه المؤاخاة، من أسبق الأعمال؛ الَّتي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّل ما استقرَّ في مقامه، وأخذ في بناء مسجده الأعظم.

والظاهر أنَّ ابتداءها كان في المسجد؛ وهو يُـبْنى، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مشغولٌ في بنائه مع أصحابه من المهاجرين، والأنصار، وكان ذلك المكان الطَّاهر، والعمل الشَّريف الخالص لوجه الله - تبارك وتعالى - أنسب الأمكنة لبدء المؤاخاة، لما فيهما من اقتضاء التَّرافق، والتَّعاون، والتَّعاضد، والتَّواسي، والتَّناصر، والتوادُد، وتقوية اصرة الأخوَّة الإيمانيَّة، فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العاملين معه في بناء المسجد أوَّلاً، ثمَّ آخى بين قومٍ آخرين في دار أنسٍ، وتكرَّر ذلك منه صلى الله عليه وسلم ، حتَّى استوعبت المؤاخاة عدد طلائع المهاجرين، والأنصار، وكانوا نحو المئة، نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار.

  • بعض أسماء المهاجرين والأنصار ممَّن تأخوا في الله:

أبو بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه، وخارجة بن زهيرٍ. وعمر بن الخطَّاب، وعتبان بن مالكٍ. وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وسعد بن معاذ. وعبد الرَّحمن بن عوفٍ، وسعد بن الرَّبيع. والزُّبير بن العوام، وسلامة بن سلامة بن وَقْشٍ. وطلحة ابن عُبيد الله، وكعب بن مالكٍ. وسعيد بن زيدٍ، وأُبيُّ بن كعبٍ. ومصعب بن عميرٍ، وأبو أيوبٍ خالد بن زيد. وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعبَّاد بن بشر بن وَقْش. وعمَّار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان. وأبو ذرٍّ الغفاريُّ، والمنذر بن عمرو. وحاطب بن أبي بلتعة، وعُوَيم بن ساعدة. وسلمان الفارسي، وأبو الدَّرداء. وبلال مؤذِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو رُوَيْحة عبد الله بن عبد الرَّحمن الخَثْعميُّ.

 


: الأوسمة



التالي
السياحة الإسلامية.. الواقع والمستقبل
السابق
الريسوني والقره داغي يناقشون ملفات الاتحاد وقضايا الأمة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع