البحث

التفاصيل

الحركات الإسلامية ودورها في العودة إلى التمكين (الدكتور علي الصلابي)

الرابط المختصر :

بدأت بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره مع الحركات الإسلامية منذ القرنين الماضيين، وتوارثت الأجيال الحاضرة تلك التجارب التي تركت لنا معالم فقه التمكين، ومن أهم هذه الحركات: 

أولاً: حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي، ولد سنة 1115هـ/ 1703م في بلدة العينية الواقعة شمال الرياض، بينها وبين الرياض مسيرة سبعين كيلو مترًا، أو ما يقارب ذلك من جهة الغرب.

ونشأ على حب العلم، فطلبه منذ صغره وظهر منه نبوغ وتميز، فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه الحنبلي والتفسير والحديث، وتتلمذ على كتب ابن تيمية في الفقه والعقائد والرأي، وأعجب بها أيما إعجاب، وتأثر بكتب ابن القيم، وابن عروة الحنبلي، وغيرهم من فحول هذا المنهل السلفي.
 
ورحل في طلب العلم إلى مكة، والمدينة، والبصرة، والأحساء، وتعرض لفتن عديدة عندما جاهر بآرائه في العراق، ثم رجع بعد ذلك إلى نجد.

أ- إعلان دعوته:

وعندما رجع إلى حريملاء ببلاد نجد بدأ بدعوته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاشتغال بالعلم والتعليم، والدعوة إلى عقيدة التوحيد الصافية، وحذر من الشرك ومخاطره وأنواعه, وتعرض لمحاولة اغتيال من بعض السفهاء في حريملاء، وانتقل بعد ذلك إلى بلدته العينية وتلقاه أميرها بالترحيب وشجعه على أمر الدعوة، فأقام الشرع ونفَّذ الحدود وهدم القباب، ولم يستمر في حريملاء طويلاً بسبب ضغط أمير الأحساء على أمير حريملاء لقتل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فخرج ماشيًا على الأقدام إلى الدرعية.

ب- تحالفه مع محمد بن سعود:

استطاع محمد بن عبد الوهاب أن يتحالف مع الأمير محمد بن سعود الذي قدَّم ماله ورجاله من أجل دعوة التوحيد، وكان هذا التحالف على أسس متينة, واستطاع الشيخ أن يواصل دعوته للناس بالتعليم والرسائل والوعظ, واستمر على هذا الحال يعلِّم الناس ويكتب الرسائل ويدبجها بالحجج والبراهين والأدلة على صحة دعواه، يدعو إلى إزالة المنكر وهدم قباب القبور، وسدّ ذرائع الشرك، وتحقيق العبودية لله وحده. 

وظلت الدعوة مسالمة متأنية، تطرق القلوب برفق وأناة، وتدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واستمر يعلِّم من يحضر دروسه ويوضح عقيدته، ويشرح مبادئ دعوته للقاصي والداني، ولكنه رأى أن اللين يقابل بالشدة، وأن الصدق يقابل بالكذب، والموعظة الحسنة يُردُّ عليها بالمؤامرات، فلم يكن بدٌّ من دخول مرحلة الجهاد وتغيير المنكر بالقوة.

 

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبًا *** فما حيلة المضطر إلا ركوبها

 

وبدأ الشيخ يعاونه الأمير محمد بن سعود بإعداد العُدَّة من الرجال والسلاح للخروج بجموع المجاهدين من الدرعية إلى خارج حدودها؛ لنشر الدعوة وتثبيت أركانها في الجزيرة وخارجها. وكان الشيخ يشرف بنفسه على إعداد الرجال، وتجهيز الجيوش وبعث السرايا, ويستمر مع ذلك على الدرس والتدريس، ومكاتبة الناس، واستقبال الضيوف، وتوديع الوفود؛ فقد جمع الله له العلم والجاه، والعزة والتمكين بعد جهاد طويل[5]. وقد كان له نظر سياسي ثاقب وخبرة واسعة في أمور الحرب والسياسة، ومما يذكر أنه كان يشرف بنفسه على إعداد المجاهدين وتحضير الكتائب وتسيير المقاتلين.

واستمرت الحروب بين أنصار الدعوة وأعدائها سنين عديدة، وكان النصر حليف أصحاب الدعوة في أغلب المواقف, وكانت القرى تسقط واحدة تلو الأخرى. وفي عام 1178هـ/ 1773م فتحت الرياض بقيادة الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، وفرَّ منها حاكمها السابق دهام بن دواس، وكان حاكمًا ظالمًا غشومًا، اعتدى على الدعاة مرارًا، ونقض العهود التي أبرمها مع القائمين على الدعوة.

وبعد فتح الرياض اتسعت رقعة الأرض التي تخضع للدعوة، ودخل كثير من الناس في الدعوة مختارين، فقد أزيلت العوائق التي كانت تصدهم عنها، وانفرجت الأمور بعد ضيق، وجاء اليسر بعد العسر، وكثرت الأموال، وهدأت الأحوال, وأمن الناس في ظل الدولة الإسلامية الفتية، التي حُرِم الناس من نعمة الأمن والاستقرار مدة غيابها.

لقد أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالسنن لتمكين دين الله تعالى، فنلاحظ في دعوته أخذه بشروط التمكين ودعوة الناس وتربيتهم عليها من الإيمان بالله، والعمل الصالح، وتحقيق العبودية ومحاربة الشرك، وتقوى الله تعالى، وأخذه بأسباب التمكين ويظهر حرصه على الأخذ بالأسباب في تحالفه مع الأمير محمد بن سعود الذي وظَّف جيشه وحكومته وماله وسلاحه, ورجاله لخدمة الدعوة، ومرت الدعوة بالمراحل الطبيعية من التعريف بها وإعداد من يحملها، ومغالبة أعدائها والتمكين لها، ومرَّ الشيخ بسنة الابتلاء، ومارس سنة التدرج، وشرع في الأخذ بسنة تغيير النفوس، واستخدام سُنَّة التدافع بين الحق والباطل، ولم يترك سنة الأخذ بالأسباب، وهذا كله يدخل تحت فقه التمكين الذي مارسه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.

ثانيًا: حركة الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي

هو أحمد بن عبد الأحد بن زين العابدين السرهندي، يتصل نسبه إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولد ليلة الجمعة 14 شوال 971هـ/ 1563م بمدينة سرهند ببلاد الهند، وسماه والده "شيخ أحمد". نشأ الإمام السرهندي في بيئة متضاربة فكريًّا، متعارضة عقديًَّا، مضطربة خلقيًّا، فقد ترعرع في عهد الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر، من أباطرة آل تيمور المغوليين الذي انحرف عن الإسلام، والذي سيطرت عليه فكرة حلول الألف الثاني من عمر الإسلام، وقد تأثر بدعوة بعض الفلاسفة المارقين عن الإسلام بقولهم: إن عمر الإسلام الطبيعي ألف عام، أما وقد انقطعت وبدأ الألف الثاني، فإن الدنيا في حاجة إلى عهد جديد تتابع فيه مسيرتها، كما أنها في حاجة ماسَّة إلى دين جديد يمارس الناس من خلاله حياتهم الدينية، وتشريع جديد ينظم شئونهم ويدبر معاشهم، ويستغنون به عن الدين الذي سلف ذهابه بذهاب ألف سنة من عمره.
 
واستحوذت فكرة الدين الجديد على نفس الملك أكبر، وشكَّل لجانًا لنشر الدين الجديد ونشرها في نواحي الهند، لقد كان ذلك الدين يحتوي على الشرك بكل أنواعه وأصنافه، فدخلت عبادة الشمس والكواكب بدلاً من التوحيد الخالص، وأبدلت عقيدة البعث والنشور بعقيدة التناسخ، وأحلَّ الدين الجديد الربا والقمار والخمر والخنزير، وأباح الزنا وصدر قانون بتنظيمه، وحرم ذبح البقر، وحرم الحجاب... إلخ.
 
وانتشرت النظريات الفلسفية التي كانت تؤمن بأن العقل وحده قادر على إدراك الحقائق الحاضرة منها والغائبة, حتى استغنوا بالعقل عن الرسل والرسالات وكل ما يتعلق بهما.

وفي خضم هذه الاضطرابات وتلك الفوضى، كان الإمام السرهندي قد قارب الثلاثين من عمره، وكان قد تسلح بالعلوم الدينية وأصول أهل السنة، وقد حباه الله عز وجل عقلاً راجحًا، وفكرًا ثاقبًا، وذوقًا مرهفًا، وقلبًا واعيًا، فاستعمل كل مواهبه لخدمة الإسلام والمسلمين، ووقف متحديًا كل هذه الأفكار الضالة، كاشفًا عورات هذه السخافات والبدع والخرافات، بل عمل حتى وصل إلى بلاط الملك أكبر في عهد ابنه، وتغيَّر الدين الباطل الذي كانت عليه الدولة إلى دين الإسلام الصحيح.
 
منهج الإمام السرهندي للوصول إلى مرحلة التمكين:

1- اهتم بتعليم وتربية مجموعات هائلة من أفراد الأمة وأعدهم إعدادًا تربويًّا عمليًّا دعويًّا رفيع المستوى، ثم أرسلهم إلى القرى والمدن لدعوة الناس.

2- اهتم بنقد فكر الفلاسفة المنحرف، والصوفية الباطلة من أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد, وبيَّن الطريق الصحيح لمعرفة الحق، والوصول اليقيني إلى معرفة الإله الواحد من خلال القرآن ومنهج أهل السنة والجماعة.
 
3- حارب كل أنواع الشرك، ومن أقواله في ذلك: "إن تعظيم مظاهر الشرك وأعياد الجاهلية من أعظم أنواع الشرك بالله عز وجل، وإن من يعتقد بصحة دينَيْن وصلاحيتهما في وقت واحد، فهو مشرك، وإن من يعمل بأحكام الإسلام وأعمال الكفر والشرك فهو مشرك، ولا يتم الإسلام إلا بالبراءة من الشرك ومحادته ومعاداته، وإن التوحيد هو الاشمئزاز والتبرم من كل شائبة من شوائب الشرك".
 
4- اهتم بالدعوة إلى التوحيد الخالص، وخلود رسالة محمد  ودعم وحدة المسلمين وإعادتهم إلى حظيرة الإسلام، وكان سببًا في حماية المسلمين في بلاد الهند من رِدَّة محققة.
 
5- قاوم المد الشيعي الذي اخترق البلاط الملكي في عهد نور الدين جهانكير بن الملك أكبر، ورفع راية أهل السنة جهارًا نهارًا، بل استطاع أن يصل إلى معسكر الملك وبلاطه بواسطة تلميذه بديع الدين السهارنبوري.
 
6- اهتم بالأمراء الذين ظهر منهم تديُّن، وفيهم شهامة وحب للخير، فهذا الأمير خان جهان وكان الملك جهانكير يحبه حبًّا جمًّا، ويعتمد عليه في كثير من شئون الدولة، كتب إليه السرهندي يحثه على نصرة دين الله فيقول له: "لو جمعتم بين ما تتبوءون من منصب كبير، وبين العمل على الشريعة الإسلامية، لأديتم أمانة الأنبياء -عليهم الصلوات والتسليمات- وأوضحتم الدين المتين وأضأتموه وعممتموه، ولو جهدنا -نحن الفقراء- أنفسنا أعوامًا طوالاً لما لحقنا بغبار أمثالكم من صقور الإسلام.

 

ألا نفوس أبيَّات لهم همم *** أما على الخير أنصار وأعوان

 

وكانت لرسائله أثر طيب في التأثير على القادة والأمراء، والتفافهم حول القرآن والسُّنَّة.
 
7- استطاع الإمام السرهندي بعد جهاد مرير، وبلاء عظيم أن يصل إلى الملك نفسه وأصبح من حاشيته، ولم يترك جلساء السوء ينفردون به بل عمل على دعوة قوَّاد الجيش وحاشية الملك إلى الإسلام الصحيح، وتأثروا بالإمام السرهندي؛ لما رأوا فيه من حسن الخلق وغزارة العلم، وإخلاص للدين، وزهد وورع متين، وحكمة في الدعوة إلى الله. ولقد تعاون أولئك القادة مع الإمام السرهندي من أجل التمكين لدين الله، وما هي إلا فترة وجيزة حتى أزيل دين الملك أكبر، الذي فرضه على الرعية، وأعيد للإسلام مكانته الرفيعة.
 
لقد تأثر الملك جهانكير بمبادئ الإمام السرهندي وأقواله، فاستبدل بالإلحاد الإيمان، وأحلَّ الإسلام محل الزندقة، وجاهر بذلك على رءوس الملأ من قومه.
 
لقد أظهر الملك شعائر الإسلام ورفع أحكامه، وأعز أهله وبكى كثيرًا على سابق تفريطه.
 
إن الإمام السرهندي مدرسة مهمَّة في فقه التمكين، وله منهجية رائعة في أساليب الدعوة، حققت نتائج عظيمة للمسلمين في الهند.
 
إن الاقتراب من رجال الدولة والملوك والأمراء من أجل دعوتهم إلى الإسلام وتمكين دينه، قام به العلماء والدعاة من أمثال الإمام السرهندي، وحققت نتائج طيبة في نصرة دين الله.

 

المصدر: كتاب (فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم) للدكتور علي الصلابي.


: الأوسمة



التالي
وهْم البابا (حاتم صالح)
السابق
ضوابط التغيير والإصلاح في الفقه الإسلامي -1- (الدكتور صلاح الدين سلطان)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع