البحث

التفاصيل

الأستاذ عادل حسين

الرابط المختصر :

الأستاذ عادل حسين وأخيرًا ترجل فارس الكلمة (ت: 1421هـ = 2001م) {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]. لا عزاء لنا غير هذه الكلمة الربانية إزاء فواجع الدهر، التي تلاحقنا يوما بعد يوم، فنفقد عزيزا، ونودِّع حبيبا، وننشد بعده قول الشاعر: أفي كل يوم لي حبيب أودع؟ فلا أنا أقفوه ولا هو يرجع! لقد اتصل بي الإخوة في إسلام أون لاين بعد ظهر الخميس 15 مارس 2001م، وأبلغوني بالنبأ الفاجع الذي وصلهم في الحال: أن الكاتب المفكِّر المجاهد المعروف عادل حسين، قد ودع الحياة، ولقي ربه، بعد أن أصابه نزيف حاد، دخل علي أثره مستشفى مصطفي كامل بالإسكندرية، ولكن أجل الله إذا جاء لم ينفع دواء، ولم يُغنِ طبُّ الأطباء. إن الطبيب له علم يدلُّ به ما دام في أجل الإنسان تأخير حتي إذا ما انتهت أيام مهلته حار الطبيب وخانته العقاقير وهكذا قُدِّر للفارس المغوار أن يترجَّل، بعد أن عاش سنواته الأخيرة ممتطيا جواده، حاملا رمحه، شاهرا سيفه، متنكبا قوسه، مالئا جَعبته بما قدر عليه من النبال، يرمي بها عن يمين وشمال، في أكثر من عدو، وأكثر من جبهة معادية، وقف لها بالمرصاد: الجبهة الصهيونية وعملائها، والجبهة الصليبية وفروخها، والجبهة الإلحادية ودعاتها، والجبهة العلمانية ورعاتها، وجبهة اللصوصية وحماتها، وجبهة النفاق وحراسها. وقد فتح النار علي هؤلاء وأولئك، لم يخشَ في الله لومة لائم، ولم يخَف في الحقِّ نقمة ظالم. وقد اتَّخذ من جريدة (الشعب) منبره الذي يطلُّ منه علي القرَّاء، واتَّخذ من قلمه سلاحه الذي لم يفل ولم يغمد، وظلَّ يتابع معاركه المتواصلة في سبيل الله والمستضعفين، لا يكاد يخرج من معركة وينفض غباره منها، إلا رأيناه يدخل في معركة أخري، وكأنه يحمل سيف خالد بن الوليد، أو سيف صلاح الدين الأيوبي! ولم يفتَّ في عضده، أو يثنِ من عزمه، أن بعض خصومه الذين ينازلهم، كانوا من رجال السلطة الكبار، ممن يعلم أن ظهره مسنود، وأن أزره مشدود، وأن قلاعه محروسة، ولكنه لم يعبأ بالقلاع ولا بحراسها، ولا بالظهر وحماته، وخاض معركته متوكِّلا علي الله، يردِّد بقلبه ولسانه ما كان يردده الخليل إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل). ولقد نصره الله في مواطن كثيرة، لعل أشهرها معركته مع وزير الداخلية الأسبق زكي بدر، الذي استطاع أن يفاجئه ويفاجئ الجميع بنشر خطابه الخطير، الذي تطاول فيه بلسانه البذيء علي عدد من أعلام الوطن من كلِّ الفئات، وأحرج الدولة، حتي أنها لم تجد بدًّا من إعفائه من منصبه، وكان ذلك نصرا لجريدة (الشعب)، ورئيس تحريرها يومئذ عادل حسين. وكانت آخر معاركه الفاصلة: معركة الرواية الشهيرة (وليمة لأعشاب البحر)، التي هيَّجت الرأي العام المصري من الإسكندرية إلي أسوان، وثار لها طلاب الأزهر وطالباته، ووقف معهم شيخ الأزهر ومدير جامعته ومجمع بحوثه، فقد تجاوزت هذه الرواية الحدود في الطعن في المقدَّسات، وفي قدس الأقداس، الله جلَّ جلاله، والقرآن ومحمد عليه السلام، كما خرجت علي كلِّ مألوف في رعاية الآداب والأخلاق. وكانت وقفة جريدة (الشعب) ورئيس تحريرها مجدي حسين، وأشهر محرِّريها عادل حسين، الأمين العام لحزب العمل الاشتراكي وقفة تاريخية، وهي التي ألهبت الشعور المصري العام ضدَّ الرواية وكاتبها، ولا سيما أن الذي تولَّي نشرها هو (وزارة الثقافة المصرية)، التي يفترض فيها ألا تنشر علي الشعب المصري إلا ما يتَّفق مع عقيدته ومسلَّماته الدينية والوطنية. وقد اعتقل عادل حسين، وابن أخيه مجدي حسين، إثر هذه المعركة، وجُمِّد الحزب، وأغلقت الصحيفة، وحُكم علي عادل حسين بغرامة عشرين ألف جنيه، وهو رجل يعيش علي الكفاف. ورغم إنصاف القضاء المصري للحزب وللجريدة، لم تلتزم السلطة بتنفيذ حكم القضاء. والعجيب أن (وزارة الثقافة المصرية) في مرحلتها الراهنة، أمست تتبنَّي ما كانت تنكره علي عادل حسين وإخوانه من قبل، وهو ما يُحمد لها ويحسب في ميزانها. وأصبحت تُهاجَم من قبل الكتاب اليساريين والعلمانيين، الذين طالما كالوا لها المديح والإطراء من قبل! لقد كان عادل حسين من رجال الفكر والقلم، وقد نذر حياته وقلمه لنصرة الحقِّ، والدفاع عن الشعب، وعن الحرية، وإعلاء كلمة الإسلام، والوقوف في وجه القوي المعادية له، المتربصة به. ووفَّي بما وعد، لم ينكص، ولم يهن، ولم يستكن لما أصابه في سبيل الله. وهو من أسرة اشتهرت بالكفاح والجهاد ضدَّ الاستعمار والطغيان من قديم، فشقيقه هو الزعيم الوطني الشهير أحمد حسين مؤسس (مصر الفتاة) وصاحب المواقف المشهورة في عهد الملكية وعهد الثورة. والشيء من معدنه لا يستغرب، {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف:58]. لقد عرفتُ عادل حسين منذ بضعة عشر عاما، حين زارني لأول مرَّة في منزلي بمدينة نصر بالقاهرة، ومعه صديق عمره ورفيق دربه المستشار والمفكر المعروف الأستاذ طارق البشري، وقد صحبهما إليَّ ليعرفني بهما صديق ثلاثتنا الأستاذ عبدالحليم أبو شقة رحمه الله، الذي كان من أحرص الناس علي التعرُّف إلي كلِّ ذي عقل حرٍّ، وكلِّ ذي ضمير حيٍّ، وكلِّ مَن يلمح فيه أن لديه قدرة علي خدمة الفكر الإسلامي، والعمل الإسلامي، وتطويره إلي ما هو خير وأمثل. وعرفت من تاريخ عادل حسين أنه كان ماركسيا ملتزما، مناضلا جلدا عن مبادئها لسنين عدة، وقد دخل السجن وذاق مرارته مع زملاء له في عهد عبد الناصر من أجل الشيوعية، التي كان يراها مدافعة عن المستضعفين من العمال والفلاحين والطبقات المسحوقة في المجتمع، وأنها تقف ضد الاستعمار والإمبريالية المستكبرة في الأرض. فلما أنار الله بصيرته، وشرح صدره، ليقرأ الإسلام من جديد، فيما انتجته أقلام المجدِّدين الحقيقيين للإسلام: عرَف أن في الإسلام غنية عن الماركسية اليسارية، وعن الليبرالية اليمنية، وأن في تعاليمه القرآنية والنبوية علاجًا لكلِّ مشكلة، ودواء لكلِّ داء، وأن الدفاع الحقَّ عن المستضعفين لا يوجد إلا في الإسلام، الذي يأمر قرآنه بإعلان الجهاد من أجل إنقاذ المستضعفين، {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء75]. كما علم أن الاتحاد السوفيتي ليس إلا إمبريالية أخري، لعلها أسوأ من إمبريالية أمريكا ومَن دار في فلكها، وأن الاستعمار الشرقي الشيوعي أشدُّ خطرا من الاستعمار الغربي، إذا احتلَّ بلدا وسيطر عليها. وكانت عودة عادل حسين إلي فطرته، وإلي جذوره، مما غاظ الماركسيين وآلمهم إيلاما شديدا، لأنه أعرف بعيوبهم، وأقدر علي الردِّ عليهم بمنطقهم. لقد حدَّد عادل حسين هدفه، وعرف طريقه، واختار أمَّته التي ينتمي إليها، وهي المذكورة في قوله تعالي: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181]. وعاش بارًّا بهدفه، وفيًّا لمنهجه، ذائدا عن أمَّته، حتي اختاره الله تعالي إلي جواره، وأرجو أن يكون قد لقي ربَّه راضيًا مرضيًا. منذ التقيتُ مع عادل حسين انعقدت بيني وبينه آصرة متينة، وصلة وثيقة، وصداقة حميمة، لم تزدها الأيام إلا قوة وتوثُّقا، وكلما التقيتُ به في مصر أو خارج مصر، أطلعني علي آخر أحواله، من سرَّاء وضرَّاء، وكان كالعهد بأهل الإيمان: في السرَّاء شاكرا، وفي الضرَّاء صابرا، لا يجزع ولا يهلع، كما جاء في حديث ثوبان، الذي رواه مسلم في صحيحه: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيرا له" . وآخر مرة لقيتُه فيها كانت في بيروت، في شهر يناير 2001م، حين جمعنا (مؤتمر القدس) العالمي، الذي ضمَّ المئات من خيرة أبناء العرب والمسلمين، من أجل القدس والمسجد الأقصى. وحرص رحمه الله - برغم زحمة الأوقات - علي أن يلقاني، ويُفضي إليَّ بآخر ما عنده، وكان في غاية الحيوية والحماس والنشاط، وتواعدنا أن نلتقي في أقرب فرصة، فإن لم تتهيَّأ قريبا، ففي العطلة الصيفية إن شاء الله، ولم أكن أدري، ولا هو يدري: أن هذا هو آخر لقاء في هذه الدنيا، ولعل الله تعالي يجمعنا بفضله ورحمته في دار النعيم. لقد كان عادل حسين طرازًا نادرا من الرجال الواعين لرسالتهم وموقفهم، العارفين بأعداء دينهم ووطنهم، المرابطين علي الثغور، ولا يولون الأدبار، الذين جمعوا بين العقل الحرَّ، والقلب الحيَّ، والإرادة الصادقة، والخلق المستقيم، والصبر علي مرارة الكفاح في سبيل عقيدته، وكأنما كان شعاره قول شوقي رحمه الله: قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدة وجهاد رحم الله أخي وصديقي عادل حسين، وغفر له، وأسكنه الفردوس الأعلى، وتقبَّله في المتقين من عباده، وحشره مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا. وعوض الله الأمة عنه خيرا، وخلفه في أهله وذويه بخير ما يخلف عباده الصالحين. وإنا لله وإنا إليه راجعون.


: الأوسمة



التالي
الحلقة السابعة (9) : نزول الوحي على سيِّد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
السابق
الاتحاد ينعي العالم المربي الدكتور سعيد عبد الله سلمان

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع