البحث

التفاصيل

صحَّةُ خلافةِ الصدِّيقِ وثبوتها في أحاديثِ النبوَّةِ

 

إنَّ الأحاديث النبويَّة التي جاء فيها التنبيه على خلافة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ كثيرةٌ شهيرةٌ، متواترةٌ ظاهرةُ الدَّلالة، إمّا على وجه التَّصريح، أو الإشارة، ولاشتهارها، وتواترها صارت معلومةً من الدِّين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدعة إنكارها، وقد جاءت في مختلف كتب الأحاديث لتدل دلالة واضحة على خلافة أبي بكر، ومن هذه النصوص التي وردت في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم:

  • عن جبير بن مطعمٍ، قال: أتت امرأة النبيَّ (ص) فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ قال (ص): « إن لم تجديني فائتين أبا بكرٍ ».

قال ابن حجر: وفي الحديث: أنَّ مواعيد النَّبيِّ (ص) كانت على من يتولى الخلافة بعده تجيزها، وفيه ردٌّ على الشِّيعة في زعمهم أنَّه نصٌّ على استخلاف عليٍّ، والعبّاس.

  • عن حذيفة قال: كنّا عند النبيِّ (ص) جلوساً فقال: « إنِّي لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللَّذَيْن من بعدي ـ وأشار إلى أبي بكرٍ وعمر ـ وتمسَّكوا بعهد عمّار، وما حدَّثكم ابن مسعود فصدِّقوه ».

فقوله (ص): «اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي» أي: بالخليفتين اللَّذَين يقومان من بعدي، وهما أبو بكرٍ، وعمر، وحثَّ على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما، وصدق سريرتهما. وفي الحديث إشارةٌ لأمر الخلافة.

  • عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله (ص) قال: « بينما أنا نائمٌ أريت أنِّي أنزع على حوضي أسقي الناس، فجاءني أبو بكر فأخذ الدَّلو من يدي ليروحني، فنزع الدَّلوين، وفي نزعه ضعفٌ، والله يغفر له، فجاء ابن الخطاب، فأخذ منه، فلم أر نزع رجلٍ قطُّ أقوى منه حتّى تولى الناس، والحوض ملآن يتفجَّر».

قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقوله: وفي نزعه ضعفٌ: قصر مدَّته، وعجلة موته، وشغله بالحرب لأهل الرِّدَّة عن الافتتاح، والتزيُّد الذي بلغه عمر في طول مدَّته.

  • قالت عائشة: قال لي رسول الله (ص) في مرضه: «ادعي لي أبا بكرٍ، وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنّى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله، والمؤمنون إلا أبا بكر ».

دلَّ هذا الحديث دلالةً واضحةً على فضل الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ حيث أخبر النبيُّ (ص) بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرَّفيق الأعلى، وأنَّ المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره ـ رضي الله عنه ـ وفي الحديث إشارةٌ: أنه سيحصل نزاعٌ، ووقع كلُّ ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ثم اجتمعوا على أبي بكرٍ رضي الله عنه.

  • عن عبيد الله بن عبد الله، قال: دخلت على عائشة، فقلت لها: ألا تحدِّثيني عن مرض رسول الله (ص)؟ قالت: بلى، ثقُل النبيُّ (ص) فقال: «أصلَّى الناس؟». قلنا: لا، وهم ينتظرونك يراسل الله! . قال: « ضعوا لي ماءً في المِخْضَب ». ففعلنا، فاغتسل، ثمَّ ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثمَّ أفاق، فقال: « أصلَّى الناسُ ؟». قلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله! فقال: «ضعوا لي ماءً في المِخْضَب». ففعلنا. فاغتسل، ثمَّ ذهب لينوء، فأغمي عليه، ثمَّ أفاق، فقال: «أصلَّى الناس؟». قلنا: لا، وهم ينتظرونك يراسل الله! قالت: والناس عكوفٌ في المسجد ينتظرون رسول الله (ص) لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله (ص) إلى أبي بكرٍ أن يُصلِّي بالناس، فأتاه الرسول، فقال: إنَّ رسول الله (ص) يأمرك أن تصلِّي بالناس، فقال أبو بكرٍ، وكان رجلاً رقيقاً: يا عمر! صلِّ بالناس. قال: فقال عمر: أنت أحقُّ بذلك، قالت: فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام. ثمَّ إنَّ رسول الله (ص) وجد من نفسه خفَّةً، فخرج بين رجلين أحدهما العبّاس لصلاة الظُّهر، وأبو بكرٍ يصلِّي بالناس، فلمّا راه أبو بكرٍ؛ ذهب ليتأخَّر، فأومأ إليه النبيُّ (ص) ألا يتأخَّر، وقال لهما: «أجلساني إلى جنبه». فأجلساه إلى جنب أبي بكرٍ، وكان أبو بكر يصلِّي وهو قائمٌ بصلاة النبيِّ (ص) والناسُ يصلُّون بصلاة أبي بكرٍ، والنبيُّ (ص) قاعدٌ. قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة من مرض رسول الله (ص)، فقال: هاتِ، فعرضت حديثها عليه، فما أنكر منه شيئاً، غير أنَّه قال: أسمَّت لك الرَّجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا، قال: هو عليٌّ.

هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة، منها: فضيلة أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وترجيحه على جميع الصَّحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وتفضيله، وتنبيه على أنَّه أحقُّ بخلافة رسول الله (ص) من غيره، ومنها: أنَّ الإمام إذا عرض له عذرٌ عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم، وأنَّه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها: فضيلة عمر بعد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لأنَّ أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ لم يعدل إلى غيره.

  • قال عبد الله بن مسعودٍ ـ رضي الله عنه ـ: لما قبض رسول الله (ص) قالت الأنصار: منّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، قال: فأتاهم عمرُ ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون: أنَّ رسول الله (ص) قد أمر أبا بكرٍ أن يؤمَّ الناس، فأيُّكم تطيب نفسه أن يتقدَّم أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ؟! فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدَّم أبا بكرٍ.

  • روى ابن سعدٍ بإسناده إلى الحسن، قال: قال عليٌّ: لمّا قبض النبيُّ (ص) نظرنا في أمرنا فوجدنا النبيَّ (ص) قد قدَّم أبا بكرٍ في الصَّلاة، فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله (ص) لديننا، فقدَّمنا أبا بكرٍ.

وقد علَّق أبو الحسن الأشعريُّ على تقديم رسول الله (ص) لأبي بكرٍ في الصلاة، فقال: وتقديمه له أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين الإسلام. قال: وتقديمه له دليلٌ على أنَّه أعلم الصَّحابة، وأجرؤهم لما ثبت في الخبر المتَّفق على صحَّته بين العلماء: أنَّ رسول الله (ص) قال: «يؤمُّ القوم أجرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً؛ فأعلمهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً؛ فأكبرهم سنّاً، فإن كانوا في السِّنِّ سواءً فأقدمهم إسلاماً».  

قال ابن كثير ـ وهذا من كلام الأشعري ـ رحمه الله ـ ممّا ينبغي أن يكتب بماء الذَّهب، ثمَّ قد اجتمعت هذه الصِّفات كُلُّها في الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ، وأرضاه.

  • آراء أهل السنة في إمامة أبي بكر:

هذا ولأهل السُّنَّة قولان في إمامة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ: من حيث الإشارة إليه بالنَّصِّ الخفيِّ، أو الجليِّ، فمنهم من قال: إنَّ إمامة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ثابتةٌ بالنَّصِّ الخفيِّ، والإشارة، وهذا القول ينسب إلى الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ وجماعةٍ من أهل الحديث، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمة الله عليه ـ، واستدلَّ أصحاب هذا القول بتقديم النبيِّ (ص) له في الصلاة، وبأمره (ص) بسد الأبواب إلا باب أبي بكرٍ . ومنهم من قال: إنَّ خلافة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ ثابتةٌ بالنصِّ الجليِّ، وهذا قول طائفةٍ من أهل الحديث، وبه قال أبو محمَّد بن حزم الظَّاهري، واستدلَّ هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: « إن لم تجديني فائتين أبا بكرٍ ». وبقوله لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: « ادعي لي أبا بكرٍ وأخاك حتّى أكتب كتاباً فإنِّي أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكرٍ ». وحديث رؤياه (ص) أنَّه على حوضٍ يسقي الناس، فجاء أبو بكرٍ، فنزع الدَّلو من يده ليروِّحه.

والذي أميل إليه، ويظهر لي من خلال البحث: أنَّ المصطفى (ص) لم يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم مِنْ بعده أبا بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وإنَّما دلَّهم عليها لإعلام الله سبحانه وتعالى له بأن المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية؛ التي ورد بها القران، والسُّنَّة، وفاق بها غيره من جميع الأمَّة المحمَّدية، رضي الله عنه، وأرضاه.

قال ابن تيميَّة رحمه الله: والتَّحقيق: أنَّ النبي (ص) دلَّ المسلمين على استخلاف أبي بكرٍ، وأرشدهم إليه بأمورٍ متعدِّدَةٍ من أقواله، وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار رضيٍّ بذلك، حامدٍ له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثمَّ علم: أنَّ المسلمين يجتمعون عليه، فترك الكتاب اكتفاءً بذلك.

فلو كان التَّعيين ممّا يشتبه على الأمَّة؛ لبيَّنه رسول الله (ص) بياناً قاطعاً للعذر، ولكن لما دلَّهم دلالاتٍ متعددةً على أنَّ أبا بكرٍ هو المتعيِّن، وفهموا ذلك حصل المقصود، ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضرٍ من المهاجرين، والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.

لقد دلَّت النُّصوص الصحيحة على صحَّة خلافة أبي بكرٍ الصِّدِّيق ، وثبوتها، ورضا الله ورسوله (ص) له بها، وانعقدت بمبايعة المسلمين له، واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله، فصارت ثابتةً بالنصِّ، والإجماع جميعاً، لكنَّ النصَّ دلَّ على رضا الله ورسوله بها، وأنَّها حقٌّ، وأنَّ الله أمر بها، وقدَّرها، وأنَّ المؤمنين يختارونها، وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها؛ لأنَّه حينئذٍ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأمّا إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهدٍ ودلَّت النُّصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك؛ كان ذلك دليلاً على أنَّ الصِّدِّيق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به: أنَّه أحقُّهم بالخلافة، فإنَّ ذلك لا يحتاج فيه إلى عهدٍ خاصٍّ.

مراجع البحث:

  1. علي محمّد محمّد الصلابي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، دمشق .سوريا،  ص. ص (115 : 119).

  2. البخاري أبي عبد الله محمد بن إِسماعيل ، صحيح البخاري ، دار الفكر، دمشق، الطَّبعة الأولى، 1411هـ 1991م، رقم (3659). رقم (687).

  3. ابن تيميَّة، منهاج السُّنة ، تحقيق محمَّد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة،  (1/134، 135).

  4. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، تحقيق الأستاذ محب الدين الخطيب، دار الريان، القاهرة، ط1، 1983م، (7/24).

  5. ابن حزم الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنِّحل، مكتبة الخانجي، مصر (4/107).

  6. ابن سعد، الطَّبقات الكبرى، دار صادر، بيروت،  (3/183).

  7. عبد الرحمن بن عبد الرَّحيم المبار كفوري، تحفة الأحوذي بشرح التِّرمذي، دار الاتِّحاد العربيِّ للطباعة، الطَّبعة الثَّانية 1385هـ 1965م، (10/147).

  8. أبي عبد الله محمَّد بن عبد الله النَّيسابوري، المستدرك على الصَّحيحين ، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان، الطَّبعة الأولى 1411هـ 1990م، (3/67).

  9. ابن كثير، البداية والنهاية، دار الريان، القاهرة، الطبعة الأولى، 1988م، (5/265).

  10. محمَّد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الصَّحيحة، منشورات المكتب الإِسلامي، بيروت،  (3/233ـ236).

  11. مسلم، صحيح مسلم، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إِحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطَّبعة الثانية 1972م،  (4/1856، 1857)، (4/1861، 1862)، (4/1857)، رقم (418)، (4/1856، 1857)،(4/1857) ،رقم (2387)،(4/1861، 1862).

  12. ناصر بن علي عائض حسن الشيخ، عقيدة أهل السنَّة والجماعة في الصَّحابة الكرام، مكتبة الرشد، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1413ه - 1993م، (2/539 – 542 – 547 - 548).

  13. النووي، صحيح مسلم ، المطبعة المصريَّة بالأزهر، الطَّبعة الأولى، 1347هـ 1929م، (4/137).


: الأوسمة



التالي
﴿ مَرَجَ البَحرَينِ يَلتقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ﴾ معجزة إلهية أذهلت الملحدين
السابق
الاتحاد ينعي المفكر الإسلامي محمد واضح رشيد الندوي مدير الشئون التعليمية بندوة العلماء

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع