البحث

التفاصيل

تأملات في منهج "التحفيز الإلهي"

الرابط المختصر :

خلق الله - عزّ وجلّ - العباد ودعاهم إلي عبادته ، وإلي كل ما يصلح حالهم ، ويرفع في الدارين - الدنيا والآخرة - شأنهم ، فحبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم ، وهيّأ نفوسهم لاستقبال أوامره - بنشاط وهمة - بشتي أنواع الترغيب ، وبأجمل أساليب التحفيز.

فتارة يخفّف من مشقة التكليف ، بمناداة المكلَّفين بأحب النعوت إلي قلوبهم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. ) ، وتارة يعلّق النفوس بما هو أفضل مما تتطلع إليه وتشتاق ، وتارة يستثيرها بأوصاف الجنة وما أعدّه لعباده الصالحين ممّا لاعين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر علي قلب بشر.. !

تأمل ؛ عندما زيّن الله لعباده حُبّ الشهوات - لعمارة الكون والحياة بضوابط الشرع - من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث - وذلك خير - ، علّق قلوبهم ، وشوّق نفوسهم إلي ماهو خير من ذلك كله ، فقال جل شأنه :

"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ* قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [آل عمران: 14-15].

ولما كان الله – عز وجل - يعلم أن النفوس لا تنتهي رغباتها ، ولا تقف عند حد شهواتها ، بيّن لعباده أن ذلك لا يمكن أن يكون في الدنيا ، وإنما يكون في الآخرة لمن صحّت في الله عقيدته ، واستقامت علي أمره طريقته.

"إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ " [فصلت: 30-32].

ولحب النفوس للتجارة الرابحة ، دعاها الله للجهاد بأحب الأوصاف إليها - وهو الإيمان - وبأسلوب التشويق الذي تحبه وترغبه .." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ* وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" [الصف: 10 – 13] .

والمتأمل في سائر الأدلة - ابتداء من العقيدة ومرورا بالعبادات ، وانتهاء بالمعاملات - يري أنها تحمل أجمل أنواع الترغيب ، وأحسن طرق التشويق ، وذلك بأسلوب أفضل التفضيل ..

أذكر علي سبيل المثال :

- في مجال العقيدة : ".. وخير ماقلته أنا والنبيون من قبلي لاإله إلا الله.. "[حسنه الألباني في صحيح الترمذي] .. وفي مجال العبادة : " ركعتا الفجر خير من الدنيا ومافيها " [رواه مسلم] ، هذا في ركعتي السنة ، فمابالك بركعتي الفرض ؟! .. وفي مجال المعاملات : " خير الناس أنفعهم للناس " [رواه الطبراني، وصححه الألباني].

وهكذا تري أسلوب التشويق والتحفيز في سائر الأدلة التي تصاحب الأومر والتكاليف الشرعية..

وحتي يتجدد للنفوس نشاطها ولا يتسرب الملل أوالفتور إليها ، فضلّ الله بعض الشهور علي بعض ، وبعض الأيام علي بعض ، وبعض الأوقات علي بعض ..

تأمل ( ليلة القدر ) ؛ جعلها الله خيرا من ألف شهر ، لينشط الإنسان فيها ما لا ينشط في غيرها ، حيث تُختزل فيها ثواب وبركة عمر ثلاثين ألف ليلة .. " لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ" [القدر: 3].

ولما كانت ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ، رأينا الرسول صلي الله عليه وسلم يجتهد فيها أكثر من اجتهاده في غيرها.. ففي الصحيحين من حديث عائشة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله " .

واتخذ النبي صلي الله عليه وسلم من أسلوب الترغيب والتحفيز منهجا لبناء الرجال ، وبعث الهمم .. !

ففي غزوة بدر ، وجد النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه وقد خرجوا معه للعير وليس للنفير ، وهم في قلة من العدد والعدة ، فإذا به صلي الله عليه وسلم يستثير هممهم ، ويهيّج مشاعرهم ، ويقوّي عزائمهم ، بحكمته الصائبة ، وأقواله الصادقة .. "والذي نفسي بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيُقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة " [موطأ مالك :230].

فماكان إلا أن نصر الله المؤمنين – وهم قلة – وفرق بهم بين الحق والباطل .." وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [آل عمران: 123].

وفي خيبر ، وقف النبي صلي الله عليه وسلم ، يستثير همم أصحابه ، ويحفّز النفوس لأسمي الغايات وأعزّ الأمنيات .."لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .. " [رواه البخاري].

فتشرئب أعناق الصحابة لذلك ، حتي يقول عمر : والله ما تمنيت الإمارة إلا في هذا الموقف! .. وأعطي النبي الراية لعلي رضي الله عنه ، ففتح الله علي يديه ، وتحقق النصر بفضل الله ثم بفضل اختيار القيادة ، وحسن توجيهها..!

فأجدر بنا - في ضوء ما تقدم من الأمثلة والأدلة - أن نتخلق بهذا المنهج الإلهي في الترغيب والتحفيز ، ومنهج النبي صلي الله عليه وسلم في بناء الرجال ، واستثمار الطاقات ، ونتخذ من أسلوب ( التحفيز ) منهجا في التربية والتعليم ، وفي أجهزة الـتاثير والتوجيه ، وفي إدارتنا للأمور في جميع مؤسساتنا..!

إننا لا نستطيع أن نفجّر الطاقات الكامنة ، ونستدرّ خير ما في النفوس إلا بهذا المنهج ( منهج التحفيز ) ..

إن العمل لا يؤتي أكله ، ولا يستوي علي عوده ، ولا يمكن أن نري إبداعا وإنتاجا إلا بهذا الأسلوب الذي يوقظ الهمم ، ويستثير القِمم ..!

إن الأمم التي أخذت بهذا المنهج ( منهج التحفيز ) في مناهجها وبرامجها، أبدعت وأنتجت ، فتقدمت وسبقت سبقا بعيدا ، وإن الأمم التي تجاهلت هذا المنهج وأخذت بمنهج وأد الطاقات ، وقتل المواهب ، توارت وتخلفت ، فلا تكاد تري لها أثرا ، ولا تكاد تسمع لها صوتا..!

فكم من مواهب قتلت ، وكم من همم توارت ، وكم من كنوز دفنت ، وكم من طاقات وئدت ، لأنها ابتُليت بِمَن يُحسنون الهدم ، ولا يعرفون البناء ..!!

وما أصدق ما قاله الدكتور أحمد زويل : الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء؛ هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل.!

إن كلمة من النبي صلي الله عليه وسلم عن خالد بن الوليد - " أين خالد؟!" ، ثم قوله : "ما مثل خالد من جهل الإسلام ، ولو كان جعل نكايته وجنده مع المسلمين علي المشركين ، لكان خيرا له ، ولقدمناه علي غيره " - جعلته رائدا في الحق وسيف الله المسلول ، بعد أن كان جنديا في الباطل وسيف المشركين ..!

وإن كلمة ( كرّ وأنت حر ) جعلت من عنترة العبد - الذي لا يحسن إلا الحلاب والصرّ – فارسا حرا مغوارا يصول ويجول حتي أجلى العدو عن قبيلته ، وأصبح حامي لواء بني عبس..!

ويبقي السؤال : لماذا تُستثار هممُ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فيُقبلون - بكثرة ملحوظة -علي ما يعتقدون أنها ( ليلة القدر) ، دون غيرها من الليالي ؟!

وتبقي الإجابة الثابتة الخالدة : إنه منهج الترغيب و( التحفيز الإلهي ) الذي جعلها خيرا من ألف شهر ..!!


: الأوسمة



السابق
ليلة القدر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع