البحث

التفاصيل

القره داغي في ندوة البركة السابعة والثلاثين للاقتصاد الإسلامي بجدة

الرابط المختصر :

يشارك أ. د. علي القره داغي - الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين - في ندوة "البركة السابعة والثلاثين للاقتصاد الإسلامي" والمنعقدة في مدينة جدة بالسعودية خلال يومي 8 ، 9 رمضان 1437هـ الموافقين 13 ، 14 يونيو 2016م .

كما تقدم الدكتور القره داغي بورقة بحثية في الجلسة الأولى من جلسات الندوة والتي جاءت تحت عنوان: تطبيق المفهوم العام للأحاديث النبوية الشريفة والأحكام الفقهية، وتحقيق المناط على المعاملات التجارية والمالية المعاصرة، حيث جاء بحث القره داغي تعقيباً على بحث (المفهوم العام للأحاديث والأحكام الفقهية وتحقيق المناط) للدكتور عبد الستار أبو غدة.


ورقة بحثية مقدمة إلى ندوة البركة السابعة والثلاثين للاقتصاد الإسلامي
جدة -  8-9  رمضان/1437هـ = 13-14 يونيو 2016
 
تعقيب على بحث (ضبط عمليات البيع والشراء للأفراد والمؤسسات)
في موضوع : تطبيق المفهوم العام للأحاديث النبوية الشريفة والأحكام الفقهية ، وتحقيق المناط على المعاملات المالية التجارية والمالية والمعاصرة 

بقلم
أ . د . علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ونائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث

 الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد

 فلا زالت ينابيع الخير في ندوات البركة تتدفق بالبركات ساعية لاستخراج الكنوز والرحمات من داخل النصوص الشرعية ، عللها ، وحكمها البالغات ، جاهدة ربط القضايا المعاصرة بالأصول الثابتات، وجامعة بين الأصالة والمعاصرة، وبين القديم الصالح والمستجدات، وباذلة كل جهدها لتطوير العقود والمنتجات ، فجزى الله تعالى كل من ساهم في إخراج هذه الندوة في كل عام تمويلاً وتخطيطاً وتنظيماً بهذه الصورة المشرقة ، والحلول الناجعات .
 هذه الندوة السابعة والثلاثون اتجهت نحو اتجاه طيب مبارك وهو ربط العقود والمنتجات المعاصرة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ومن حسن حظي أن أكلف بالتعليق على بحث قيّم لفضيلة الأستاذ الدكتور عبدالستار أبو غدة حول (ضبط عمليات البيع والشراء للأفراد والمؤسسات) من خلال الأحاديث النبوية العشرة الجامعة ، وقد ذكر فضيلته - جزاه الله كل خير - خمسة منها وعلق عليها تعليقات فقهية عميقة مرتبطة ببعض التطبيقات المعاصرة، ونحن بدورنا نحاول استكمال ما بقي من إضافة أو تعليقات، من خلال مطلبين:
المطلب الأول : إضافة ما يمكن إضافته إلى ما ذكره حول الحديث الأول من حيث التعريف بالمناط : تحقيقه ، وتخريجه ، وتنقيحه ، وكيفية تطبيقه على الحديث .
أما المطلب الثاني : فهو للتعقيب على الحديث الرابع ، وإنني أسير فيه ببيان ما يقتضينه التعقيب من المناقشة البناءة للوصول إلى ما تصبو إليه  الندوة من تقديم ما هو الأحسن بإذن الله تعالى .
والله تعالى أسأل أن يلهمني الصواب ، ويعصمني من الزلل والخلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبي ومولاي ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
              كتبه الفقير إلى ربه
علي محيى الدين القره داغي 



المطلب الأول : إضافة ما يمكن إضافته إلى ما ذكره حول الحديث الأول ، وهو ( لا تبع ما ليس عندك): 

 حيث ذكر فضيلة الدكتور أبو غدة لفظين من ألفاظ الحديث ، وخرّجه ولكن آثر عدم ذكر مصادره ، والحكم عليه ، ولذلك نذكر متن الحديث ، وسنده وطرقه والحكم عليه بإيجاز ، لأهمية هذا الحديث والأحكام المستنبطة منه .

متن الحديث، وسنده وطرقه
ورد النهي عن بيع ما ليس عند الإِنسان بعدة ألفاظ مختلفة وهي:
1 ــ اللفظ الأول عن حكيم بن حزام بلفظ: «لا تبع ما ليس عندك».
روى بهذا اللفظ عن حكيم بن حزام:
أبو داود في سننه: كتاب البيوع باب الرجل يبيع ما ليس عنده، الحديث رقم 3486 (عون المعبود 9/401)، ورقم الحديث في بعض الطبعات لسنن أبـي داود 3503.
ورواه الترمذي في سننه: كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عنده، الحديث 1250 (تحفة الأحوذي 4/430 ــ 433).
والنسائي في سننه: كتاب البيوع، باب ما ليس عند البائع، الحديث رقم 4612، طبعة دار البشائر الإِسلامية ــ بيروت.
وابن ماجه في سننه: كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، الحديث 2187 (2/737).
وأحمد في مسنده عن حكيم بعدة طرق (3/402).
والبيهقي بعدة طرق في السنن الكبرى (5/267، 317، 339).
والطبراني في المعجم الكبير بعدة طرق، والحديث رقم 3097، 3098، 3099، 2102، 3103، 3143.
وعبد الرزاق في مصنفه، الحديث 14212.
وابن جارود، الحديث 602.
والطيالسي 2257.
كما رواه ابن حزم عن طريق النسائي (5/594).
هؤلاء كلهم رووا الحديث باللفظ السابق دون اختلاف، وإنما وقع الاختلاف في سؤال الحكيم، حيث نجد بعض الاختلافات اللفظية أو الزيادة والنقص في نقل سؤاله وصيغته، ولكن أشهرها بلفظ:
قال حكيم بن حزام: يا رسول الله، يأتيني الرجل فيريد من البيع ليس عندي، فأبتاعه له من السوق؟ فقال: «لا تبع ما ليس عندك».
2- اللفظ الثاني عن حكيم بن حزام أيضًا بلفظ: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أبيع ما ليس عندي».
رواه بهذا اللفظ:
الترمذي في جامعه بسندين، الحديث 1251، 1253 (تحفة الأحوذي 4/430 ــ 434).
وأحمد في مسنده (3/402).
والطبراني بأكثر من سند، رقم الأحاديث 3100، 3101، 3104، 3105، 3132، 3137، 3138، 3139، 3140، 3141، 3144، 3145، 3146.
والبيهقي في السنن الكبرى (5/339).
والشافعي (ترتيب مسند الشافعي، ط دار الكتب العلمية ــ بيروت رقم الحديث 478).
3 ــ اللفظ الثالث ورد عن طريق عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو أن النبـي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل سلف وبيع... ولا بيع ما ليس عندك».
رواه بهذا اللفظ:
أبو داود في سننه، الحديث 3487 (عون المعبود 9/402 ــ 403).
والترمذي في جامعه، الحديث 1252 (تحفة الأحوذي 4/431).
والنسائي في سننه، الحديث 4612 (7/288)، وبسند آخر (7/289).
وابن ماجه في سننه، الحديث 2188 (2/737).
والحاكم في مستدركه، بسندين (2/17).
وابن حبان في صحيحه، (موارد الظمآن الحديث 1108 ص 271).
وأحمد في مسنده بعدة طرق (2/174، 179، 205).
والدارمي في سننه (2/168).
والبيهقي في السنن الكبرى بثلاثة أسانيد (5/343، 339، 267).
ورواه ابن خزيمة ــ كما قال الشيخ الألباني في الإِرواء ــ الحديث 1305.
وعبد الرزاق في مصنفه، (8/39).
وابن حزم من طريق أبـي داود، المحلى (9/595).
والدارقطني، الحديث 320.
وابن الجارود، الحديث 601.
والطبراني في الكبير والأوسط، (مجمع الزوائد 4/85).
وأبو حنيفة (مسند أبـي حنيفة، ط الاداب، بالقاهرة ص 124).
4 ــ اللفظ الرابع من رواية حكيم بن حزام نفسه، ولكنه خاص بالطعام، ونصه: قال حكيم بن حزام: قال لي رسول الله: ألم يأتني، أو لم يبلغني ــ أو كما شاء من ذلك ــ أنك تبيع الطعام؟ قال: بلى يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فلا تبع طعامًا حتى تشتريه وتستوفيه».
رواه:
الإِمام أحمد في مسنده (3/403).
والطبراني في المعجم الكبير، الحديث 3097.
والشافـعـي (ترتيب مسند الشافـعـي (2/143) الحديث 476، 477).
والدارقطني بأكثر من سند (2/9).
والبيهقي بأكثر من سند (5/312، 313).
وابن حبان في صحيحه (الإِحسان 7/228 ــ 229).
والنسائي في سننه الكبرى (نصب الراية، ط دار إحياء التراث العربـي 4/232).
ملحوظة:
توجد اختلافات في الألفاظ في روايات هذا الحديث، لكنها لا تؤثر في متن الحديث المقصود هنا.

ما قاله نقاد الحديث :
كنـت أود أن أقـوم بدراسة نقـدية لجميـع رواة الحـديث مـن جميـع الجوانب المطلوبة في علوم الحديث، لكني آثرت أن أقتصر على ما قاله نقاد الحديث في هذا الحديث بمتونه التي ذكرناها.
* فالمتن الأول:
ــ حكم على صحته البعض، وعلى حسنه الاخرون.
فقد قال الترمذي: «حديث حكيم بن حزام حسن، وقد روي من غير وجه. وروى أيوب السختياني وأبو بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام عن النبـي.
وروى هذا الحديث عوف وهشام بن حُسّان عن ابن سيرين عن حكيم بن حزام عن النبـي، وهذا حديث مرسل؛ إنما رواه ابن سيرين عن أيوب السختياني عن يوسف بن ماهك هكذا» .

والحديث بهذا المتن:
ــ قد حكم ابن حزم بصحته .
ــ وقال الإِمام النووي: «حديث حكيم صحيح رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم بأسانيد صحيحة» .
ــ وردَّ الحافظ ابن حجر على من جرح أحد رواته بجهالته بأنه جرح مردود، لأنه معروف روى عنه ثلاثة، واحتج به النسائي .
ــ وحكم بصحته أيضًا الشيخ الألباني .
ــ ومحققا زاد المعاد .

* أما المتن الثاني:
ــ فقد قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .
ــ وقال الألباني: «صحيح» .

* وأما المتن الثالث:
فقد روى الترمذي فيه: «وهذا الحديث حسن صحيح» .
وهو كما رأينا رواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: «هذا حديث على شرط جملة من أئمة المسلمين، صحيح» ووافقه الذهبـي، وقال: «صحيح، وكذا رواه طائفة» .
وقال ابن حزم: «هذا صحيح، وبه نأخذ، ولا نعلم لعمرو بن شعيب حديثًا مسندًا إلا هذا وحده، وآخر في الهبات» .
وقال الزيلعي: «قال المنذري: ويشبه أن يكون الترمذي إنما صححه لتصريحه فيه بذكر عبد الله بن عمرو، ويكون مذهبه في الامتناع من الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب إنما هو الشك في إسناده، لجواز أن يكون الضمير عائدًا على محمد بن عبد الله، فإذا صرح بذكر عبد الله بن عمرو انتفى ذلك» .
ووافق الحافظ عبد الحق: «الترمذي في حكمه على هذا الحديث بأنه حسن صحيح» .
ونقل الحافظ ابن حجر: تصحيح الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، وأنه أخرجه أيضًا في علوم الحديث من رواية أبـي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ آخر .
وقال الألباني: «صحيح» .

* وأما الحديث الرابع:
فقد قال فيه البيهقي: «هذا إسناد حسن متصل» .
وعلق عليه العلامة ابن التركمان قائلاً: «كيف يكون حسنًا، وابن عصمة متروك، كما قال صاحب المحلَّى، وفي الأحكام لعبد الحق: ضعيف. وأيضًا قد قدمنا في باب العين الغائبة أنه اختلف في سنده» .
وقال أبو حاتم: «هذا الخبر مشهور عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام ليس فيه ذكر عبد الله بن عصمة، وهذا خبر غريب» .
وقال العلامة الزيلعي: «وأخرجه الطبراني في «معجمه» عن عامر الأحول عن يوسف بن ماهك عن ابن عصمة به، وبسند النسائي رواه الدارقطني، ثم البيهقي في «سننهما» قال عبد الحق في «أحكامه»: ــ وقد رواه قاسم بن أصبغ في «كتابه»: عن همام ثنا يحيـى أن يعلى بن حكيم حدثه أن يوسف حدثه أن حكيم بن حزام حدثه فذكره، هكذا ذكره يعلى سماع يوسف بن ماهك من حكيم بن حزام. وهشام الدستوائي يرويه عن يحيـى، فيدخل بين يوسف وحكيمٍ عبدَ الله بن عصمة، وكذلك هو بينهما في غير حديثه، وعبد الله بن عصمة ضعيف جدًا، انتهى» .
وقال أيضًا: «قال ابن القطان في «كتابه»: هكذا رواه قاسم بن أصبغ، وأنا أخاف أن يكون سقط من الإِسناد ابن عصمة، ورواية الدارقطني تبين ذلك، قال: وذكر ابن حزم في «كتابه» رواية قاسم بن أصبغ، وقال: إن يعلى بن حكيم ثقة، وقد ذكر سماع يوسف من حكيم، فيصير سماع يوسف من ابن عصمة عن حكيم لغوًا، لأنه إذا سمعه من حكيم فلا يضره أن يسمعه من غير حكيم عن حكيم، انتهى» .
وقال: «وقال صاحب «التنقيح»: قال ابن حزم: عبد الله بن عصمة مجهول، وصحح الحديث من رواية يوسف نفسه عن حكيم، لأنه صرح في
رواية قاسم بن أصبغ بسماعه منه، والصحيح أن بين يوسف، وحكيم فيه عبد الله بن عصمة، وهو الجشمي حجازي، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال عبد الحق في «أحكامه» بعد ذكره هذا الحديث: عبد الله بن عصمة ضعيف جدًا، وتبعه على ذلك ابن القطان، وكلاهما مخطىء في ذلك، وقد اشتبه عليهما عبد الله بن عصمة هذا بالنصيبـي، أو غيره، ممن يسمى عبد الله بن عصمة، انتهى كلامه» .
وما قاله العلامة الزيلعي في تخطئة ابن قطان، وعبد الحق وافقه عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني حيث قال في ترجمة عبد الله بن عصمة الجشمي: «روى عن حكيم بن حزام، وعنه عطاء بن أبـي رباح ويوسف بن ماهك وصفوان بن موهب الكوفيون، ذكره ابن حبان في الثقات».
ثم نقل ما قاله ابن حزم، وتبعه عبد الحق وابن قطان وعلق عليه بقوله: «وقال شيخنا: لا أعلم أحدًا من أئمة الجرح والتعديل تكلم فيه، بل ذكره ابن حبان في الثقات» .

وإضافة إلى ذلك:
فإن الحديث سمعه يوسف بن ماهك من حكيم مباشرة كما ورد في بعض روايات الحديث .
ولذلك تظل هذه الرواية لا تقل عن درجة الحسن كما صرح بذلك البيهقي .
هذا ما يخص هذه الرواية، أما معناها فهو صحيح .
حيث رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر بلفظ «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه».
ورواه مسلم عن أبـي هريرة بلفظ «وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيع الطعام حتى يستوفى».
كما رواه مسلم وغيره عن جابر بلفظ: «إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه».
والخلاصة: أن حديث «لا تبع ما ليس عندك» حديث صحيح حكم بصحته كبار النقاد من علماء الجرح والتعديل.


أهمية الحديث :
 هذا الحديث يعدّ من أحاديث الأصول التي يبنى عليها الاقتصاد الإسلامي وفقه المعاملات وهو يمثل مبدءاً عاماً من مبادئه ، وقاعدة كلية من قواعده التي أثبتت صلاحية الشريعة الإسلامية ، وقدرتها لحماية اقتصاديات الأمة من الأزمات والهزات الكبرى، كما دلت على ذلك الأزمة المالية العالمية التي وقعت في عام 2008م ولا زالت آثارها باقية .

معنى الحديث :
 فقد ذكر فضيلة الدكتور أبو غدة المفهوم العام للحديث في صفحة رقم 5 من بحثه، وهو : منع بيع الإنسان ما ليس عنده .... ).
 ولكن يضاف إليه بأن الحديث وارد في بيع الأشياء المعينة، أما الموصوفة في الذمة (كما هو الحال في السلم والاستصناع) فلا يشترط فيهما وجودها عند البائع ، أو ملكيته لها عند البيع.

علة الحديث :
وقد توصل المحققون إلى أن العلة هي الغرر، وهذا ما قاله شراح الحديث ، حيث يقول الخطابـي في شرح هذا الحديث: «لا تبع ما ليس عندك»: «يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجاز السلم إلى الأجل، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر، وذلك مثل: أن يبيعه عبده الابق، أو جمله الشارد، ويدخل في ذلك كل شيء ليس بمضمون عليه مثل أن يشتري سلعة فيبيعها قبل أن يقبضها، ويدخل في ذلك بيع الرجل مال غيره موقوفًا على إجازة المالك، لأنه يبيع ما ليس عنده، ولا في ملكه، وهو غرر، لأنه لا يدري هل يجيزه صاحبه أم لا؟ والله أعلم» .
ويقول ابن القيم: «وأما قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تبع ما ليس عندك»: فمطابق لنهيه صلى الله عليه وسلّم عن بيع الغرر، لأنه إذا باع ما ليس عنده فليس هو على ثقة من حصوله، بل قد يحصل له وقد لا يحصل، فيكون غررًا كبيع الابق والشارد والطير في الهواء، وما تحمل ناقته، ونحوه...» .
 وبناء على ذلك فإن الأصل المدلول عليه هو : النهي عن بيع ما لا يملكه الإنسان ، وان العلة هي الغرر المؤثر وهو الغرر في الوجود ، أو الحصول ، أو المقدار ، أو الزمن  ، يقول ابن القيم : (فاتفق لفظ الحديثين - أي حديث حكيم، وحديث ابن عمرو - على نهيه صلى الله عليه وسلّم عن بيع ما ليس عنده، فهذا هو المحفوظ من لفظه صلى الله عليه وسلّم وهو يتضمن نوعًا من الغرر، فإنه إذا باعه شيئًا معينًا، وليس في ملكه، ثم مضى ليشتريه، أو يسلمه له، كان مترددًا بين الحصول وعدمه، فكان غررًا يشبه القمار، فنهى عنه) .
 وبناء على هذا بأن الأصل هو عدم جواز بيع المعين الذي يملكه البائع، ويقاس  عليه بيع مالا يقدر على تسليمه إلى المشتري، مثل بيع البعير الشارد، والطير في الهواء ، وبيع المبيع قبل القبض ، وذكر ابن القيم أن بيع مالا يقدر على تسليمه داخل في النص (أي قياساً) وان كان في الذمة  .



المراد بالعندية في الحديث :
 والتحقيق أن المراد بلفظ (عندك) في الحديث هو : التمكن والملك، فالعندية في ألفاظ الحديث هي : فالعندية هنا هي عندية الملك والتمكين، وليست عندية المشاهدة، ولذلك لو كان المال عنده حاضرًا لكنه كان أمانة عنده، أو مستأجرًا عنده أو معارًا لما جاز بيعه لآخر، ولما لزم بالاتفاق .
  وعلى عكس ذلك لو كان ماله غائبًا وليس عنده أثناء العقد جاز بالإِجماع إذا توفرت الأركان والشروط المطلوبة في البيع، يقول ابن القيم: «والعندية هنا ليست عندية الحس والمشاهدة، فإنه يجوز أن يبيعه ما ليس تحت يده ومشاهده، وإنما هي عندية الحكم والتمكين» ، ويقول ابن حزم: «فكل مـا يملكه المرء فهو عنده ولو أنه بالهند» .
وقد ذكر ابن القيم أن حديث حكيم وابن عمرو يتناول حالة شيء لا يُدرى حصوله من عدم حصوله، ويكون المشتري منه على خطر، ولا ثقة لبائعه بحصوله، وأن ذلك يعود إلى الغرر، وليس في كونه معدومًا، وذلك لأن البائع إذا باع ما ليس في ملكه، ولا قدرة على تسليمه ــ بل يذهب ليشتريه، ثم يسلمه إلى المشتري ــ كان ذلك شبيهًا بالقمار، والمخاطرة من غير حاجة إلى هذا العقد، ولا تتوقف مصلحتها عليه، فالحديث في الأعيان، وليس في الأشياء الموصوفة في الذمة ــ وفي الأمور الموصوفة في الذمة التي لا يقدر بائعها على تسليمها حسب العرف والعادة، وهو يتفق في الغاية والهدف مع الغرر .

فقه الحديث :
يدل هذا الحديث الشريف بألفاظه الثلاثة ورواياته على النهي عن بيع ما ليس لدى الإِنسان.
وإذا كانت دلالة الحديث على ذلك واضحة، بل هي قطعية، فإن دلالتها على الفساد أو البطلان محل خلاف، وكذلك الخلاف قائم في المراد ببيع ما ليس لدى الإِنسان، هل يشمل بيع المعدوم بعمومه، وبيع مال الغير، وبيع المال الغائب أو نحو ذلك.
ولذلك: نتحدث عن هذه الأمور بصورة منفصلة:
أولاً ــ حول دلالة النهي فيه:
ورد الحديث بألفاظه الأربعة ــ كما سبق ــ وهي:
( أ ) بلفظ: «لا تبع ما ليس عندك» أي: بصيغة النهي.
(ب) بلفظ: «نهاني أن أبيع ما ليس عندي» أي بلفظ النهي.
( ج )  بلفظ: «فلا تبع طعامًا حتى تشتريه وتستوفيه».
( د ) بلفظ: «لا يحل سلف وبيـع... ولا بيـع مـا ليس عنـدك»، أي بلفظ: «لا يحل».
فاللفظ الرابع واضح في دلالته على عدم حل ذلك، بينما الألفاظ الثلاثة الأولى في دلالتها على الحرمة محل خلاف، حيث اختلف العلماء في ذلك على أكثر من خمسة عشر رأيًا :
فمنهم من قال: إن النهي حقيقة في التحريم .
ومنهم من قال: إنه حقيقة في الكراهة .
ومنهم من قال: إنه للتهديد ...
لكن الراجح:
هو أن النهي حقيقة في التحريم، إلا إذا دل دليل على غير ذلك، ويتأكد دلالة النهي في حديثنا هذا على التحريم بسبب ورود اللفظ الثالث «ولا يحل».
وقد ثار خلاف آخر ــ له أهميته ــ هنا حول: مدى دلالة النهي على الفساد والبطلان أم لا؟ على تفصيل فيه.
فذهب الجمهور من المالكية والشافعية، والحنابلة والظاهرية والإِباضية:
إلى أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه سواء كان النهي لذات المنهي عنه كالنهي عن بيع الملاقيح، والنهي عن بيع الميتة، أو لوصف لازم كالنهي عن بيع درهم بدرهمين .
وأما النهي عن الشيء لوصف غير ملازم كالنهي عن البيع وقت أذان الجمعة فلا يوجب فساده إلا عند الحنابلة، والظاهرية، والإِباضية .
وذهب الحنفية:
إلى أن النهي ــ عند عدم وجود قرينة دالة على أن النهي لمعنى في ذات المنهي عنه، أو لغيره ــ لا يدل على أن المنهي عنه بذاته غير مشروع، بل ينسحب على معنى لغيره، فيكون الأصل مشروعًا، والفساد في الوصف فقط .
فالحنفية اتفقوا مع الجمهور:
في أن النهي لذات الشيء المنهي عنه يدل على بطلانه، واتفقوا معهم - ما عدا الحنابلة والظاهرية والإِباضية - في أن النهي عن شيء لوصف غير لازم لا يدل على الفساد أو البطلان، بينما اختلفوا معهم جميعًا: في أن النهي عن شيء، تدل القرائن على أن النهي عنه لوصف لازم له لا يدل على البطلان، بل على الفساد، حيث إنهم فرقوا
بينهما فجعلوا البطلان للشيء المنهي عنه لذاته، والفساد للشيء المنهي عنه لوصف لازم. ومن المعلوم أن الباطل لا يترتب عليه أي أثر، بينما الفاسد عندهم يترتب عليه بعد القبض جملة من الاثار العقدية .
ولا يسع هذا البحث لإِثراء هذا الموضوع، ولكن الذي يظهر رجحانه هو مذهب الجمهور .
فعلى ضوء ذلك يكون النهي في الحديث الذي معنا:
من باب النهي عن الشيء لوصف لازم إذا فسر الحديث بالغرر، فيكون المنهي عنه باطلاً وفاسدًا عند الجمهور، وفاسدًا عند الحنفية.
أما لو فسّر «ما ليس عندك» بالمعدوم الحقيقي عينًا وذمة فيكون النهي لذات الشيء وحينئذ يكون باطلاً بالإِتفاق.
أما لو فسّر بما هو غائب عن الإِنسان كالبعير الشارد وإن كان ملكه، فيكون النهي لوصف غير لازم، فلا يدل على البطلان عند الجمهور ــ كما سبق ــ .
فتحديد المعنى هو الذي يحدد مصير النهي: هل يقتضي فساد المنهي عنه أم لا، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وتظهر تطبيقاته من خلال الجوانب الفقهية التي نذكرها.
ثانيًا ــ الأحكام المستفادة من الحديث:
1 ــ بيع المعدوم.
2 ــ مدى دخول السلم في هذا الحديث.
3 ــ بيع الغرر.
4 ــ البيع قبل القبض.
5 ــ بيع مال الغير دون إذنه.
6 ــ بيع مال مملوك غير قادر على تسليمه.
1 ــ بيع المعدوم:
لا شك أن الحديث يفهم منه عدم جواز بيع المعدوم الذي ليس له وجود في الواقع، ولا في الذمة، كبيع الملاقيح ــ وهو ما في بطون الأمهات، والمضامين ــ وهو ما في أصلاب الفحول ــ .
قال الشيرازي: «ولا يجوز بيع المعدوم كالثمرة التي لم تخلق» .
وهذا محل اتفاق بين العلماء، قال الإِمام ابن المنذر: «وأجمعوا على فساد بيع حبل الحبلة، وما في بطن الناقة... وعلى فساد بيع المضامين والملاقيح...» .
فالمعدوم المطلق الذي ليس له وجود أثناء العقد، لا يجوز بيعه بالإِجماع، لكنه لو ارتبط بالعقد بمعدوم موصوف في الذمة - كالسلم - فإنه في الواقع ليس معدومًا في جميع الوجوه، وإنما هو موجود في الذمة بالوصف والتقدير ــ كما سيأتي ــ فلا يدخل فيه إذن عقد السلم، ولا عقد الاستصناع.

التحقيق:
والتحقيق هنا في أمرين:
الأمر الأول: في علاقة الحديث بالمعدوم:
حيث ربط بينهما بعض الفقهاء ــ كما سبق ــ حتى ذكروا في المعدوم حديثًا، وهو أن النبـي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع المعدوم
قال العلامة ابن القيم: «وهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث، ولا له أصل، والظاهر أنه مَروي، بالمعنى من هذا الحديث ــ أي حديث حكيم ــ وغلط من ظن أن معناهما واحد، لأن هذا المنهي عنه في حديث حكيم وابن عمرو رضي الله عنهم لا يلزم أن يكون معدومًا، وإن كان فهو معدوم خاص كبيع حبل الحبلة، وهو معدوم يتضمن غررًا وترددًا في حصوله» .
فهذا الحديث ــ في الواقع ــ سرد في جواب سائل يسأل عن حالة معينة، وهي أنه يبيع شيئًا قبل أن يتملكه، فيعقد العقد مع آخر على شيء معين، ثم يذهب إلى السوق فيشتريه وهذا هو عين الغرر، حيث قد يحصل عليه، وقد لا يحصل عليه، كما سبق.
الأمر الثاني: معنى المعدوم:
لو تتبعنا ما قاله الفقهاء في المعدوم، وما ذُكر له من أحكام نصل إلى أن المعدوم أربعة أنواع:
النوع الأول:
المعدوم الذي لا يمكن حصوله أبدًا فهذا لا يجوز بيعه أبدًا، ولا إجراء العقود عليه ما دام معدومًا مطلقًا لا يمكن الحصول عليه عقلاً أو عرفًا.
النوع الثاني:
معدومٌ وقتَ البيع، لكنه يمكن وجوده فيما بعد، مثل بيع حمل ما تحمل ناقته، أو بقرته، أو نحو ذلك، وهذا ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلّم بحبل الحبلة ، وهو نتاج النتاج على التفسير الراجح.
فهذا المعدوم لا يجوز وقوع العقد على ذاته المعينة، أما السَّلمُ فيه فيجوز لأنه واقع على الموصوف في الذمة المضمون، حيث يتعهد بأن يأتي بشيء موصوف بكذا وكذا وليس معينًا وإنما وجوده في الذمة، وما هو موجود في الذمة كما هو موجود حقيقة.
يقول ابن القيم: «وهذا الذي منع الشارع بيعه: هو الذي يكون المشتري منه على خطر، ولا ثقة لبائعه بحصوله، لا لكونه معدومًا، بل لكونه غررًا» .
النوع الثالث:
معدوم تابع للموجود مثل الثمار التي لم يبدُ صلاحها فلا خلاف في صحة العقد الوارد على الشجرة التي تتبعها الثمرة الموجودة والتي توجد، وذلك لأنها تبع للموجود، والقاعدة الفقهية تنص على أنه «يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وأنه يغتفر في الشيء ضمنًا ما لا يغتفر فيه قصدًا» .
وكذلك اتفق الفقهاء على جواز بيع الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها، قال ابن القيم: «فاتفق الناس على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاح واحدة منها، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومة وقت العقد، ولكن جاز بيعها تبعًا للموجود، وقد يكون المعدوم متصلاً بالموجود، وقد يكون
أعيانًا أُخر منفصلة عن الوجود لم تخلق بعد» .
ولكنهم اختلفوا في بيع ثمار القثاء والبطيخ إذا طابت بعضها:
ــ حيث ذهب مالك وأهل المدينة وأحمد في رواية: إلى جواز بيعها جملة، ومفردًا، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم .
ــ وذهب الاخرون: إلى عدم جواز ذلك إلا لُقْطَةً لقطةً، أو أن يقع العقد على أصلها معها .
وهذا الخلاف يعود إلى فهم هذا الحديث الذي معنا:
ــ حيث فهم منه الفريق الثاني: الدلالة على عدم جواز ذلك، لأنه بيع المعدوم، أو غرر.
ــ أما الفريق الثاني: فقد نظر إلى عدم دخوله فيه، لأن عدم البعض تبع لموجود ثابت، كما أنه لا غرر فيه. وهذا هو الراجح، قال ابن القيم: «لأن بدو الصلاح في المقاثي بمنزلة بدو الثمار، وأن تلاحق أجزائها كتلاحق أجزاء الثمار، وجعل ما يخلق منها تبعًا لما خلق في الصورتين واحد، فالتفريق بينهما تفريق بين متماثلين .
إضافة لما في القول الثاني من التعسير على الناس، بل يؤدي إلى النزاع والاختلاف الشديد؛ لأن المشتري قد يريد الصغار والكبار، والبائع
لا يعطيه إلا الكبار، فيحدث النزاع، بينما لو بيع المجموع في صفقة واحدة لما أدى إلى ذلك .
النوع الرابع:
المعدوم الموصوف في الذمة الذي سيتحقق، فهذا يجوز السلم فيه بالاتفاق على تفصيل بينهم .

والخـلاصـة:
أن الحديث لا يتناول المعدوم لأنه معدوم، بل إنما يشمله إذا كان فيه غرر.
يقول شيخ الإِسلام ابن تيمية: «لا نسلم صحة هذه المقدمة (أي عدم جواز بيع المعدوم) فليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، بل ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا لفظ عام، ولا معنى عام، وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، وليست العلة في المنع لا الوجود، ولا العدم، بل الذي ثبت في الصحيح عن النبـي صلى الله عليه وسلّم أنه نهى عن بيع الغرر، والغرر ما لا يقدر على تسليمه سواء كان موجودًا أو معدومًا كالعبد الابق، والبعير الشارد ونحو ذلك مما قد لا يقدر على تسليمه.. هو غرر لا يجوز بيعه وإن كان موجودًا، فإن موجب البيع تسليم المبيع، والبائع عاجز عنه، والمشتري إنما يشتريه مخاطرة ومقامرة... وهكذا المعدوم الذي هو غرر، نهي عن بيعه لكونه غررًا لا لكونه معدومًا، كما إذا ما يحمل هذا الحيوان، أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل وقد لا يحمل، وإذا حمل فالمحمول لا يعرف قدره ولا وصفه فهذا من القمار...»
ثم أثبت ابن تيمية أن الشرع قد صحح بيع المعدوم في بعض المواضع: «فإنه ثبت عنه من غير وجه أنه نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه، ونهى عن بيع الحب حتى يشتد، وهذا من أصح الحديث، وهو في  الصحيح عن غير واحد من الصحابة، فقد فرق بين ظهور الصلاح وعدم ظهوره، فأحل أحدهما وحرم الاخر، ومعلوم أنه قبل ظهور الصلاح لو اشتراه بشرط القطع... جاز بالاتفاق، وإنما نهي عنه إذا بيع على أنه باقٍ فيدل ذلك على أنه جَوَّزَهُ بعد ظهور الصلاح أن يبيعه على البقاء إلى كمال الصلاح... ويدخل في هذا ما هو معدوم لم يخلق...» .
2 ــ مدى دخول السَّلَم في هذا الحديث:
فهم جماعة من الفقهاء (منهم الحنفية): أن هذا الحديث يدل على عدم جواز بيع المعدوم، ومن ثمة قالوا: «إن مشروعية السَّلَم ــ وهو بيع المعدوم ــ جاءت استثناء، حيث سموه بالاستحسان بناءً على أن القاعدة العامة: هي عدم جواز بيع المعدوم استنادًا على الأحاديث الواردة فيه، ويقول المرغيناني: - والقياس يأباه -أي السلم ــ ولكنا تركناه بما روِّيناه، ووجه القياس أنه بيع المعدوم، إذ المبيع ــ هو المسلم فيه ــ » .
ولكن التحقيق يبين: ــ
أن هذا الحديث الشريف إنما هو في بيع ما لا يملكه الإِنسان، كما أنه في بيع شيء معين، أو بعبارة أخرى أن الحديث في بيان حكم بيع ما ليس
عنده ــ أي لا يملكه ــ وليس في بيان حكم السلم، فكل عقد ــ في نظري ــ له تكييفه الخاص به وأحكامه وآثاره الخاصة، فلا ينبغي أن نحمل أحكامًا خاصة بالبيع على السلم أو بالبيع.
وهذا هو السبب وراء ما وقع فيه الحنفية؛ حيث اعتبروا السلم أيضًا بيعًا، يقول ابن الهمام: «تقدم أن البيع ينقسم إلى بيع مطلق، ومقايضة، وصرف، وسلم» .
ثم بين وجه هذا التقسيم وسبب دخول الجميع في البيع قائلاً: «لأن البيع إما بيع عين بثمن وهو المطلق، أو قلبه وهو السلم، أو ثمن بثمن فالصرف، أو عين بعين فالمقايضة» ، ثم لما شعر بورود اعتراض عليه من حيث تخصيص اسم السَّلَم قال: «وخص باسم السَّلَم لتحقيق إيجاب التسليم شرعًا فيما صدق عليه، أعني تسليم رأس المال» .
 ولما جاء اعتراض آخر عليه مفاده: أن قوله هذا يدل على أن الأولى أن يسمى الصرف بالسلم لوجوب تسليم البدلين في المجلس، فرد عليه ابن همام ردًا غير مقنع .
وقصدي من هذا العرض بيان ضعف مسلك من يدخل السَّلَم في البيع، ثم يجعل جواز السَّلَم استثناء من هذا الحديث الذي نحن بصدده، مع أن التحقيق: هو أن السَّلَم ليس بيعًا بمعناه الاصطلاحي، ولا المعقود عليه فيه معدومًا، وإنما هو موصوف في الذمة، وما هو موجود في الذمة ليس معدومًا، كما أن هذا الحديث ليس فيه دلالة على منع بيع المعدوم ــ كما أوضحنا في معنى الحديث.
وقد أفاض العلامة ابن القيم في هذه المسألة فقال: «وأما السلم فمن ظن أنه على خلاف القياس توهم دخوله تحت قول النبـي صلى الله عليه وسلّم: «لا تبع ما ليس عندك» فإنه بيع معدوم، والقياس يمنع منه» .
ثم قال: «والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع مضمون في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبًا، وهو المعاوضة على المنافع في الإِجارة... وقياس السَّلَم على بيع العين المعدومة - التي لا يُدرى: أيقدر على تحصيلها أم لا؟ والبائع والمشتري منها على غرر - من أفسد القياس صورة ومعنى، وقد فطر الله العقلاء على الفرق بين بيع الإِنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له، وبين السَّلَم في مُغلِّ مضمون في نصِّه مقدور في العادة على تسليمه، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكَّى، والربا والبيع» ، وقد سبقه إلى ذلك شيخه ابن تيمية.
والخـلاصـة:
أن بيع ما ليس عندك لا يشمل السَّلَم المؤجل، أو الحال لسببين:
السبب الأول: أن الحديث وارد في البيع، وهو له مفهومه الخاص حيث يقـع عـلـى الأعيان فقط، ولذلك يسمى العقد الوارد على المنافع إجارة أو إعارة أو نحوهما، فالسَّلَم له مدلوله الخاص لا يدخل في البيع، لأنه عقد وارد على شيء موصوف في الذمة ــ كما سبق ــ فالسلم عقد خاص، وأنه أقرب إلى كونه دينًا من الديون، ولذلك أدخله ابن عباس في آية الدين .
السبب الثاني: أن السَّلَم ليس عقدًا واردًا على المعدوم، بل هو وارد على موجود موصوف في الذمة مضمون ثابت فيها مقدور على تسليمه عند مَحِلِّه، ولا غرر فيه، ولا خطر .
يقول ابن القيم:
«أظهر الأقوال: أن الحديث لم يرد به النهي عن السَّلَم المؤجل، ولا الحال مطلقًا» .
وإنما المراد بالحديث: النهي عن بيع السلع المعينة التي هي مال للغير، ويكون معناه: لا تبع ما ليس عندك من الأعيان، وكذلك يدخل فيه بيع ما في الذمة مما ليس هو مملوكًا له، ولا يقدر على تسليمه، فعلى ضوء ذلك: لا يدخل السَّلَم حالاًّ أو مؤجلاً في هذا الحديث ما دام التسليم مقدورًا عليه في وقت حسب العرف.
ثم إن جعل النهي عن «بيع المعدوم» هو الأصل، وجواز السلم استثناء منطق يثير كثيرًا من النقاش، والجدال حول المعيار الذي جعل ذلك أصلاً، وذاك استثناءً، بل المفروض العكس، وذلك لأن حديث النهي عن بيع المعدوم بهذا اللفظ غير ثابت قطعًا، ودلالة حديث حكيم عليه محل نقاش ــ كما رأينا ــ بينما حديث السَّلَم صحيح متفق عليه ودلالته على صحة السَّلَم قطعية.
فإذا كانت المعيارية للأصل هي وجود النص الشرعي فكان المفروض عكس ما يقولون، وإذا كان المراد أن ذلك الأصل باعتبار القاعدة العامة فكيف تثبت هذه العمومية مع أن أحد أفرادها قد ثبت له حكم آخر بحديث صحيح، مع أن التخصيص والاستثناء في النصوص الشرعية لا بد أن يكونا من الكتاب والسنة؟.
3 ــ بيع الغرر: أي كل ما لا يعلم عاقبته:
يقول العلامة الشيرازي: «والغرر ما انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته» .
فالغرر يدخل فيه المعدوم عينًا ووصفًا، وذلك لأن المعدوم «قد انطوى عنه أمره، وخفي عليه عاقبته»  وكذلك يدخل فيه المجهول جهالة فاحشة، وكل ما هو قائم على احتمال الوجود والعدم، أو احتمال الحصول عليه وعدمه، أو احتمال ربح كثير وعدمه.
ويقول العلامة ابن القيم:
«وأما بيع الغرر، فمن إضافة المصدر إلى مفعوله كبيع الملاقيح والمضامين. والغرر: هو المبيع نفسه، وهو فعل بمعنى مفعول، أي: مغرور به.
وهذا كبيع العبد الابق الذي لا يقدر على تسليمه، والفرس الشارد، والطير في الهواء.. ونحو ذلك مما لا يعلم حصوله أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يعرف حقيقته ومقداره، ومنه بيع حَبَل الحَبَلَة.
ومنه بيع الملامسة والمنابذة وقد جاء تفسيرهما في نفس الحديث، ففي صحيح مسلم عن أبـي هريرة رضي الله عنه: «نهى عن بيعتين: الملامسة والمنابذة، أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل، والمنابذة: أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الاخر ولم ينظر واحد منهما إلى ثوب صاحبه»، هذا لفظ مسلم.
وليس من بيع الغرر بيع المغيبات في الأرض كاللفت والجزر والفجل والقلقاس والبصل ونحوها، فإنها معلومة بالعادة يعرفها أهل الخبرة بها،
وظاهرها عنوان باطنها فهو كظاهر الصبرة مع باطنها، ولو قدر أن في ذلك غررًا فهو غرر يسير يغتفر في جنب المصلحة العامة التي لا بد للناس منها، فإن ذلك غرر لا يكون موجبًا للمنع» .
ومرجع ذلك يعود - بالإِضافة إلى حديث حكيم - إلى حديث صحيح آخر وهو ما رواه مسلم، وأصحاب السنن وغيرهم بسندهم عن أبـي هريرة رضي الله عنه قال: «إن النبـي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر»   .
قال النووي:
«النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، وتدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة كبيع الابق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير، واللبن في الضرع» .
وقال أيضًا:
«الأصل أن بيع الغرر باطل... والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز عنه، أما ما تدعو إليه الحاجة، ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار، وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر... وذكر أو أنثى، كامل الأعضاء، أو ناقصها... فهذا يصح بيعه بالإِجماع، ونقل العلماء الإِجماع أيضًا في أشياء غررها حقير...، وقد يختلف العلماء في بعض المسائل كبيع العين الغائبة، وبيع الحنطة في سنبلها، ويكون اختلافهم
مبنيًّا على هذه القاعدة، فبعضهم يرى الغرر يسيرًا لا يؤثر، وبعضهم يراه مؤثرًا» .
4 ــ البيع قبل القبض:
دل الحديث الرابع على النهي عن بيع الطعام قبل شرائه، واستيفائه بالكيل بأن يكيله البائع ــ كما سبق ــ .
وقد قال المحققون : إنَّ الاستيفاء أعم من القبض، وذلك لأنه قد يستوفيه بالكيل، بأن يكيله البائع ولا يقبضه للمشتري، بل يحبسه عنده لينقده الثمن، وهذا رأي بعض العلماء؛ حيث قصروا المنع من بيع الطعام قبل قبضه على طعام يستوفي بالكيل، أو الوزن، أما إذا لم يستوف، بأن يبيع جزافًا فيجوز بيعه قبل القبض . غير أن اشتراط القبض في الطعام مطلقًا قد جاء في أحاديث صحيحة .
وأيًّا ما كان فإن جماعة من الفقهاء: استدلوا بهذا الحديث على عدم جواز البيع قبل القبض، ففهموا منه ذلك، ولذلك جمع البخاري بين متن هذا الحديث، وهذا الحكم، فترجم: «باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك».
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافًا كبيرًا يمكن حصر
اتجاهاتهم في ثلاثة اتجاهات عامة تتمثل في الرفض مطلقًا، والإِجارة مطلقًا، والتوسط القائم على التفصيل:
الاتجاه الأول: يرى عدم جواز بيع المبيع قبل قبضه مطلقًا، سواء كان المعقود عليه طعامًا أم غيره، وسواء أكان مكيلاً أو موزونًا، وعقارًا أو منقولاً.
وهذا مذهب: الشافعي وأكثر أصحابه ، وأحمد في رواية ، ومحمد بن الحسن وزفر من الحنفية ، والظاهرية ، والزيدية ، ورواية الإِمامية ، والإِباضية في المشهور عنهم ، وروي ذلك عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيب في رواية عنه، وسفيان الثوري .
الاتجاه الثاني: يرى جواز بيع المبيع وكل تصرف فيه مطلقًا.
وهذا رأي: عطاء بن أبـي رباح، وعثمان البتي ، ورأي الإِمامية .
الاتجاه الثالث: يرى التوسط والتفصيل، وأصحاب هذا الاتجاه مختلفون فيما يجوز بيعه قبل القبض وفيما لا يجوز، فذهب أكثرهم إلى: عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه، وإلى جوازه في غيره. وهذا رأي: مالك في المشهور عنه ، وأحمد في رواية عنه ، واختيار أبـي ثور وابن المنذر ، والإِمامية في وجه لهم . (وفيه تفصيل في التوفية...).
وذهب فريق ثانٍ منهم إلى: عدم جواز بيع المكيل والموزون قبل قبضهما، وإلى جوازه فيما عداهما. وهذا مروي عن: عثمان بن عفان، وابن سيرين، وابن المسيب، والحسن، والحكم، وحماد بن أبـي سليمان، والأوزاعي، وربيعة، والنخعي .
وذهب فريق ثالث إلى: إلحاق ما يباع بالعدد بالكيل والموزون في عدم جواز بيعه قبل القبض. وهذا اتجاه: أحمد في رواية وجماعة من أصحابه ، وأبـي حنيفة، واختاره جماعة من أصحابه ما دام يراعي فيه العد .
وذهب فريق رابع إلى: إلحاق ما يباع بالذراع (المتر ونحوه) بالمكيل والموزون. وهذا اتجاه: أبـي حنيفة إذا أفرد لكل ذراع ثمن .
وذهب فريق خامس إلى: عدم جواز المبيع قبل قبضه إذا كان منقولاً، وجوازه إذا لم يكن منقولاً كالعقار. وهذا اتجاه جمهور الحنفية.
ومن الجدير بالتنبيه عليه: أن المنقول يشمل المكيل والموزون والمعدود والمزروع (على تفصيل فيه) .
وذهب فريق سادس إلى: التفرقة في الطعام بين ما يباع بالكيل أو الوزن على التوفية، وبين ما يباع منه جزافًا. فيمنع الأول قبل القبض، وأجاز الثاني.
حيث ذهب أكثر أصحاب مالك إلى جواز بيع الطعام قبل قبضه ما دام قد اشتراه جزافًا، فيكون له الحق بالبيع دون نقله عن موضعه، غير أنه قيده مالك بأن لا يكون في بيع العينة ، وإذا كان بالعينة فلا بد أن لا يكون بأكثر من ثمن المثل .
وبعض العلماء جعلوا هذا المعيار عامًا فقالوا: كل ما بيع بالكيل، أو الوزن، أو العد، أو الذراع، لا يجوز بيعه قبل قبضه، وكل ما بيع جزافًا يجوز سواء كان طعامًا أو غيره .
وبعد استعراض هـذه الآراء التي لا يسـع البحث ذكـرَ جميـع أدلتهم، ومناقشتها، نرى أن الراجح هو جواز التصرف بعد العقد وقبل القبض إلا في الطعام .
هذا فيما يخص المتن الرابع، ولكن المتون الثلاثة الأولى لحديثنا: لا تتناول موضوع البيع قبل القبض وبعد العقد، فمدلولها واضح في أن الرسول صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع شيء معين قبل أن يشتريه، حيث كان سؤال حكيم في هذا ــ كما سبق ــ .
إذن لا يشمل بيـع شيء اشتراه الشخص فعلاً لكنه لم يقبضه بل مفهومه المخالف يدل على صحة ذلك، وذلك لأن حكيم بن حزام قال: «يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي، أفأبيعه؟ وفي رواية: «يطلب مني المتاع وليس عندي أفأبيعه؟»، فالحديث في بيع شيء معين في السوق قبل شرائه، ومفـهـومه المخالف يدل على أنه لو اشترى فله الحق أن يبيع قبل القبض، والعندية هنا - كما سبق - عندية الحكم والتمكين، وهي متحققة بأصل العقد حيث هو ناقل للملكية بجعل الشارع، تنفيذًا لقوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} .
5 ــ بيع مال الغير دون إذنه:
سبق أن رأينا أن بعض الفقهاء: أدخلوا في معنى هذا الحديث بيع مال الغير دون إذنه، وهذا ما استدل به الشافعية على عدم صحة عقد الفضولي، على الجديد .
بينما ذهب الجمهور: إلى أن عقده موقوف على الإِجارة .
والتحقيق أن مورد الحديث مختلف عن عقد الفضولي، وذلك لأن الحديث وارد في جواب سائل تلاحظ فيه الظروف والملابسات التي أحاطت به، فهو في شخص يأتي إليه آخر طالبًا منه شيئًا، فيعقد البيع معه عليه مباشرة، ثم يذهب إلى السوق فيشتري فيسلمه، أما بيع الفضولي - مثلاً - فهو شخص يريد أن يقدم خدمة لصاحبه فيبيع له أو يشتري ظنًا منه أن له رغبة في ذلك، أو أن يوكله صاحبه بالشراء، فيشتري له، ثم يبيع له إفادة إليه، كما حدث بالنسبة للصحابـي الجليل حكيم بن حزام نفسه، وكذلك عروة البارقي، حيث أخذ كل واحد دينارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليشتري به أضحية - بالنسبة لحكيم -، وشاة - بالنسبة لعروة - فاشترى شاتين بدينار، ثم باع واحدة منهما، ثم أتى بشاة ودينار .
لذلك لا يدخل هذا الموضوع في حديثنا هذا، ولو دخل فهو مخصص بالأحاديث الثابتة في هذا المجال.
6 ــ بيع مال مملوك غير قادر على تسليمه:
أدخله البعض في هذا الحديث، ولذلك لم يجوزوا بيع البعير الشارد، والعبد الابق والمال المغصوب مطلقًا، ومنهم من أجازه إذا باعه لمن هو قادر على تسليمه، ومنهم من أجازه مطلقًا .
والذي نرى رجحانه: عدم دخول هذه المسائل في مفهوم حديثنا، فالحديث في بيع عين لا يملكه الإِنسان وفيه غرر من حصوله، فلا يتناول هذه المسائل السابقة لأنها إما أعيان موجودة أو موصوفة في الذمم.
وأن ما ذكر في المسألة الأخيرة أعيان موجودة مملوكة لأصحابها، وإذا كان هناك مانع من التسليم والتسلم فذلك أمر آخر لا يعود إلى مدلول حديثنا والله أعلم.

تحقيق مناط الحديث :
وقد ذكر فضيلة الدكتور أبو غدة تحقيق المناط، فذكر ابن المنذر معنين للحديث ( في صفحة رقم 5-6) وتحقيق المناط أمر مهم في فهم الحديث وعلته ، وفي تنزيل النص على الفروع، والمسائل الجزئيات من خلال تحقيق المناط .
 وقد ذكر الأصوليون أن الاجتهاد لن يكتمل بنيانه ولن تتحقق أهدافه ومقاصده بصورة صحيحة إلاّ من خلال : تخريج المناط ، وتنقيح المناط، وتحقيق المناط ، حتى سماه ابن تيمية بأنها : جماع الاجتهاد حيث قال : (وهذه الأنواع الثلاثة هي جماع الاجتهاد)  ، ولذلك نرى ضرورة أن نفصل فيه بعض التفصيل:
 

التعريف بالمناط : تحقيقه ، وتخريجه ، وتنقيحه :
المناط لغة : من ناط الشيء بغيره ، وعليه نَوْطاً : علّقه ، يقال : ناط الأمر بفلان ، ونيط عليه الشيء : عهد به إليه ، وأناط الشيء به ، وعليه ، أي علقه به ، أو عليه ، والمناط : موضع التعليق  .

 والمناط عند جمهور الأصوليين هو : العلة التي هي أحد أهم أركان القياس  ، وهم يبحثون عن ايصال حكم الأصل إلى الفرع عن طريق العلة ، أي السبب الجامع بينهما ، ولذاك يطلقون عليها ويقولون (مناط الحكم) أي علة الحكم ، وهذا الاطلاق عند ابن دقيق العبد من باب المجاز المرسل حيث يقول : (وتعبيرهم بالمناط عن العلة من باب المجاز اللغوي ، لأن الحكم لما علق بها كان كالشيء المحسوس الذي تعلق بغيره، فهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس).
وذكر جماعة من الأصوليين ان المناط يطلق على متعلق النص ، فيشمل تنزيل النص على مسائله وفروعه – كما سيأتي -
 والعلة إذا كانت منصوصاً عليها في الكتاب والسنة أو الاجماع فإن الأصولي قد قطع شوطاً كبيراً ، أما إذا لم يكن منصوصاً عليها في الكتاب والسنة أو الاجماع فإنه يبحث من خلال عدة طرق ، منها السبر والتقسيم للوصول إلى وصف ظاهر منضبط معرف للحكم وهو العلة .
 وبعد الوصول إلى العلة يبقى البحث عن مدى تحقيقها في الفرع أو عدمه ، وهذا يسمى : تحقيق المناط ، ثم إن عملية البحث عن العلة من خلال السبر والتقسيم ، أو غيرهما للوصول إلى العلة الجامعة تسمى : تنقيح المناط ، حيث يلغي المجتهد الأوصاف غير المؤثرة ، حتى يتعلق الحكم بما بقي منها ، مثل حرمة الخمر ، حيث إن للخمر مجموعة من الأوصاف ، منها أنها سائلة ، ومنها أن لونها كذا ، ومنها أن أصلها من العنب ، أو التمر أو غيرهما ، ومنها ... ، فيقوم المجتهد بغربلة الأوصاف كلها للوصول إلى أن العلة فيها هي الاسكار ، وكذلك الأمر لو ذكرت في النص مجموعة من الأوصاف ، مثل حديث الأعرابي الذي واقع زوجته في نهار رمضان ، حيث يبحث المجتهد عن جميع الأوصاف التي ذكرت في النص من كونه أعرابياً ، وأنه فقير ، وأنه جامع في نهار رمضان ، فيصل إلى أن العلة في وجوب الكفارة هي الجماع في نهار رمضان عمداً وهو صائم ، وهكذا  .

وأما تخريج المناط فهو : استخراج العلة من نص شرعي لم تذكر فيه العلة  .

وهذه الأمور الثلاثة هي المدار في الاجتهاد حيث يقول شيخ الاسلام ابن تيمية : (وهذه الأنواع الثلاثة (تحقيق المناط) و (تنقيح المناط) و (تخريج المناط) هي جماع الاجتهاد  .

كيفية تحقيق المناط :
 مما لا يخفى أن من نتائج عملية القياس هو الوصول إلى علة الحكم ثم تنزيلها على الفرع المراد بيان حكمه ، ولذلك فإن تحقيق المناط يعدّ من أهم أعمال العقل والصناعة الاجتهادية ، لأنه يؤدي إلى إثبات العلة - المنصوص عليها في الكتاب أو السنة ، أو الاجماع ، أو المستنبطة بالاجتهاد - في الفرع  .
معنيا تحقيق المناط :
ثم إن تحقيق المناط له معنيان، معنى خاص ، ومعنى عام : 

المعنى الأول : المعنى الخاص لتحقيق المناط الخاص  بالعلة ، وحينئذ يكون معناه : إثبات العلة في الفرع والتأكد من تنزيلها عليه  أو (النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها سواء كانت معروفة بنص ، أو إجماع، أو استنباط)   .
المعنى الثاني : المعنى العام ، وهو شمولية للعلة والنص ، وأي حكم كلي ، وهذا رأي جماعة من المحققين أمثال الغزالي ، وابن قدامة ، والطوفي، وابن تيمية ، والشاطبي ، حيث قسّم ابن قدامة تحقيق المناط إلى قسمين : ثم قال : (أما الأول فمعناه : أن تكون القاعدة الكلية متفقاً عليها، او منصوصاً عليها، ويجتهد في تحقيقها في الفرع، والثاني : ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده)  وسار الطوفي على ما هو قريب من هذا  وقال ابن تيمية : ( هو أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع ، أو بعض الأعيان)  .
وعرفه الشاطبي بأنه : ( أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي ، لكن يبقى النظر في تعيين محلّه)  .
 وقد ضرب الغزالي للمعنى العام لتحقيق المناط بالمثلية الظاهرة في قوله تعالى في جزاء صيد قتله المحرم عمداً (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)  حيث يجتهد في قتل الحمار الوحشي بوجوب ذبح بقرة ، وفي الغزال بشاة أو عنزة ، وهكذا ... فهذا النوع لا خلاف فيه في قبوله كما قال ابن تيمية ، ويقول الغزالي بعد ذكر المثال : ( فهذا أو أجناسه عدّه عادون من جملة قياس الشبه ، واستدلوا عليه بصحة التشبيهات بالصفات الخليقية ، وهو خيال باطل ... إذ قال الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ )  فأوجب المثل وحصره في النعم ، فكان طلب الوصف – الذي تقع به المماثلة واجباً بحكم النص ، فسلمت المقدمة الأولى – وهي الغامضة من قياس الشبه ، وإذا سلم ذلك فلا يمكن طلب المماثلة إلا بالخلقة ، ولا تعويل إلاّ على المماثلة في الصغر والكبر ، فإن الصيد والنعم لا يتماثلان في الألوان والصفات والعادات ، فصار النظر في تعيين الصفات التي إليها النظر في المماثلة – واقعاً من جملة النظر في المقدمة الثابتة ، وذلك ضرورة كل قابل للشرع وقائل به ، ومثاله إيجاب الشرع مهر المثل ، وتعرّفنا ذلك بالنظر إلى مثل الموطوءة من نساء العشيرة ، وإنما يعرف كون غيرها مثلاً لها بالجمال والورع ، والصلاح ، والنسب ، وجميع الصفات ... ، ويلتحق بهذه الجملة معرفة القيم ( المختلفات ) فإنها تعرف بالقياس إلى الأشباه والأمثال والنظائر ... ، فإذا كان هذا القياس أجلى من المؤثر فكيف يدرج في غمار الشبه الضعيف ؟)  .
 فتحقيق المناط هنا هو تنزيل النص على الواقعة ، وليس تنزيل العلة على الفرع ، وإن كان الغزالي وغيره سماه : القياس الجلي .
 وهذا التوجه العام الشامل هو الراجح في نظري ، لأن المناط لغة هو متعلق الشيء ومرجعه ، والمناط هو محل التعليق ، ومنه النياط وهو عرق غليظ متصل بالقلب من الوتين ، إذا قطع مات صاحبه ، ومنه ذات أنواط ، وهي اسم شجرة ، كان المشركون يعلقون بها سلاحهم ، وقد ورد اسم هذه الشجرة بهذا المعنى في الحديث الصحيح  .
 وفي الاصطلاح فإن جمهرة من علماء الأصول المحققين فرقوا بين المناط والعلة، وقالوا: إن المناط أعم من العلة ، وأنه يشمل متعلق الحكم المأخوذ من النص  أو الاجتهاد، وأن هذا التعميم للمناط اصطلاحاً يتفق مع تعاريفهم لتحقيق المناط التي ذكرتها قبل قليل .
 وبناء على ما سبق فإن التعريق الراجح لتحقيق المناط هو : إثبات حكم كلي في فروعه ومسائله وجزئياته سواء كان مأخوذاً من النص أو القياس أو نحوه من أنواع الاجتهاد.
 وبناء على ذلك فإن تحقيق المناط هو عمل المجتهد في إعمال الحكم الكلي وإثباته في الجزئيات إذا توافرت شروطه وانتفت موانعه ، وهذا يعني أن تحقيق المناط هو فقه تنزيل النص او العلة ، أو المصلحة المعتبرة على الواقعة المعينة او الوقائع، والنوازل والمستجدات، وهذا يقتضي النظر الدقيق ، والفهم العميق لفهم الواجب -أي الدليل- والواقع، والمتوقع من المآلات. .
 فهذه العملية الاجتهادية (تحقيق المناط أو فقه تنزيل الحكم) تشمل النصوص الشرعية أيضاً كما تشمل العلة ، والاجتهاد .
 وبما أن تحقيق المناط عملية اجتهادية فإنها تحتاج إلى أن يكون القائم به تتوافر فيه شروط الاجتهاد ، أو الاستنباط ، او الترجيح (حسب نوعية التنزيل) ثم ينظر في الشروط المطلوبة لتنفيذ الحكم ، ثم النظر في توافر تلك الشروط في الواقعة الداخلة في الدليل (النص أو العلة) وعدم وجود الموانع الشرعية للتطبيق مع ملاحظة فقه المآلات ، وسدّ الذرائع ونحوهما.
 فعلى سبيل المثال فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يطبق آية السرقة في عام المجاعة  بناء على تحقيق المناط وفقه التنزيل، وقد وافق جماعة منهم أحمد والأوزاعي على سقوط القطع في المجامعة، وقالوا : وهذا محض القياس ، ومقتضى قواعد الرحمة  .

تطبيق (تحقيق المناط ) على الحديث الشريف المذكور :
بناء على ما ذكرناه فإن تحقيق المناط للحديث المذكور ، يتم وفقاً لما يأتي :
(1) تحقيق المناط لنص الحديث ومنطوقه، فقد سبق أن منطوق الحديث المدلول  عليه بنص الحديث هو النهي عن بيع ما لا يملكه الإنسان ، وهنا يأتي النظر في التطبيقات المعاصرة للحديث التي تدخل في منطوق الحديث ، مثل شراء البضائع والسلع الدولية على الورق دون وجودها حقيقة عن طريق المضاربة في البورصة، ومثل بيع المستقبليات ، والخيارات في البورصات العالمية ، والبيع على المكشوف ، او البيع على الهامش .
(2) تحقيق المناط فيما يدخل في علة الحديث ، وهي الغرر مثل عقود التأمين التجاري ،ونحوها ، مما ذكره فضيلة الدكتور أبو غدة ، وهو الذي ذكره معظم الأصوليين بخصوص علة القياس .


المطلب الثاني : التعقيب على الحديث الرابع، وهو حديث ( النهي عن بيعتين في بيعة واحدة) :
  فقد تحدث فضيلة الدكتور أبو غدة حفظه الله ، بإيجاز عن بعض روايات الحديث ، وعن المفهوم العام ، وتحقيق مناط الحديث ، والأحكام الفقهية .
 وفي نظري أن لهذا الحديث الشريف أهمية كبرى ، حيث يمثل قاعدة أساسية من قواعد الاقتصاد الإسلامي وأساساً متيناً من أسس فقه المعاملات ، لذلك نستكمل ما بقي ، ونفصل ما أُوجز ، ونؤصل ما تُرك تتميماً للفائدة .

أولاً - ألفاظ الحديث ورواياته ، ودرجاتها من حيث القوة والضعف :
وردت أحاديث كثيرة في النهي عن اجتماع أكثر من شيء في عقد واحد، فنذكر هنا ألفاظها.

الحديث الأول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن صفقتين في صفقة واحدة».
1 ــ ورد بهذا اللفظ: في مسند أحمد (1/398) حيث رواه بسنده إلى عبد الله بن مسعود.
ورواه أيضًا بسنده موقوفًا على ابن مسعود (1/393) أنه قال: لا تصلح سفقتان في سفقة، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه».
2 ــ ورواه ابن حبان (حديث 1111، 1112) من طريق سفيان وشعبة.
3 ــ وروي موقوفًا على ابن مسعود أيضًا في المصنف للحافظ ابن همام الصنعاني، حديث رقم (14633) ولفظه: «لا تصلح الصفقتان في الصفقة، أن يقول: هو بالنسيئة بكذا وكذا وبالنقد بكذا وكذا».
وحديث رقم (14636) ولفظه عن ابن مسعود أنه قال: «الصفقتان في الصفقة ربا».
وحديث رقم (14637) ولفظه عن ابن مسعود أنه قال: «لا تحل الصفقتان في الصفقة».
4 ــ ورواه البيهقي في السنن الكبرى (1/343) بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «نهى عن بيع وسلف، وعن بيعتين في صفقة واحدة، وعن بيع ما ليس عندك»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «حرام شف ما لم يضمن».
5 ــ وأخرجه ابن أبـي شيبة موقوفًا على ابن مسعود بلفظ: «صفقتان في صفقة ربا» (المصنف 8/192/2)، وبلفظ: «الصفقة في الصفقتين ربا» (المصنف 6/199)، وبهذا اللفظ الأخير أخرجه أيضًا عبد الرزاق في مصنفه (8/138، 139) كما سبق.
6 ــ ورواه ابن نصر في السُّنَّة (ص 54).

الحديث الثاني: «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك».
1- رواه بهذا اللفظ: الحاكم في مسنده عن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن الرسول صلى الله عليه وسلّم.
وروى أيضًا عن طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله، إنِّي أسمع منك أشياء أخاف أن أنساها أفتأذن لي أن أكتبها؟ قال: «نعم»، قال: فكان فيما كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه لما بعث عتاب بن أسيد إلى أهل مكة قال: «أخبرهم أنه: لا يجوز بيعان في بيع، ولا بيع ما لا يملك، ولا سلف وبيع، ولا شرطان في بيع».
2 ــ ورواه بهذا اللفظ النسائي في سننه (7/295) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
ورواه أيضًا (7/295) بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن سلف وبيع، وشرطين في بيع، وربح ما لم يضمن».
ورواه أيضًا (7/300) عن نفس الراوي قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع واحد، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن».
ورواه أيضًا (7/288) عن نفس الراوي أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك».
3-ورواه أحمد في مسنده (2/179) بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده بنفس اللفظ.
ورواه بلفظ (عن نفس الراوي) قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن سلف وبيع، وعن بيعتين في بيعة، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم يضمن» (2/174، 175، 205).
4- ورواه الدارمي في سننه (2/168) بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع، وعن ربح ما لم يضمن».
5- رواه مالك في الموطأ (ص 407، 408) أنه بلغه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع وسلف». (لم يذكر مالك عن من سمعه).
6- ورواه نور الدِّين الهيثمي في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان (ص 271 ــ 272) بسنده عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه قال: يا رسول الله، إنَّا نسمع منك أحاديث أفتأذن لنا أن نكتبها؟ قال: «نعم». فكان أول ما كتب كتاب النبـي صلى الله عليه وسلّم إلى أهل مكة: «لا يجوز شرطان في بيع واحد، ولا بيع وسلف جميعًا، ولا بيع ما لم يضمن، ومن كان مكاتبًا على مائة درهم فقضاها إلاَّ عشرة دراهم فهو عبد، أو على مائة أوقية فقضاها إلاَّ أوقية فهو عبد».
7- ورواه البيهقي في السنن الكبرى بسنده عن عمرو بن العاص عن أبيه، عن جده:
( أ ) (5/267): بنفس اللفظ.
(ب) (5/343): أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع وسلف، وعن بيعتين في صفقة واحدة، وعن بيع ما ليس عندك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: حرام شف ما لم يضمن.
( ج) (5/340): وروى عن نفس الراوي بلفظ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم
أرسل عتاب بن أسيد إلى أهل مكة أن أبلغهم عنِّي أربع خصال: «أن لا يصلح شرطان في بيع، ولا بيع وسلف، ولا بيع ما لا يملك، ولا ربح ما لا يضمن».
8- رواه الترمذي بنفس اللفظ وعن نفس الراوي (4/431) حديث (1252).
9- رواه أبو داود بنفس اللفظ وعن نفس الراوي (9/402 ــ 403).
10- ورواه ابن خزيمة في الإِرواء عن نفس الراوي (5/147) حديث رقم (1305) بنفس اللفظ.
11- وعبد الرزاق في مصنفه (8/39) عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده بلفظ: قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع واحد، وعن بيع ما ليس عندك، وعن ربح ما لم تضمن».
12- والدارقطني: الحديث (320).
13- وابن الجارود: الحديث 601.
14- وأبو حنيفة (مسند حنيفة، ط الاداب القاهرة، ص 124).
15- وابن حزم عن طريق أبـي داود: المحلِّي (9/595).

الحديث الثالث: عن أبـي هريرة قـال: «نهى رسـول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيعتين في بيعة»، وكذلك روي عـن ابن عمر، وابن عمرو:
1- رواه بهذا اللفظ الترمذي في جامعه (4/427 ــ 429) وقال بعد أن ذكر الحديث: وفي الباب، عن عبد الله بن عمرو وابن عمر وابن مسعود.
2-رواه مالك في الموطأ (ص 414): أنه بلغه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيعتين في بيعة. (دون ذكر الراوي والسند).
3- رواه النسائي في سننه (7/295 ــ 296) بسنده بنفس اللفظ وعن نفس الراوي.
4- ورواه أحمد في مسنده (2/71) بسنده عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مطل الغني ظلم، وإذا أحلت على مليء فاتبعه، ولا بيعتين في واحدة».
ورواه بسنده (2/174، 205) عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيعتين في بيعة، وعن بيع وسلف، وعن ربح ما لم يضمن، وعن بيع ما ليس عندك».
5- رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/280) في حديث رقم 7917 بسنده عن أبـي أمامة «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن صلاتين، وعن صيامين، وعن نكاحين، وعن لبستين، وعن بيعتين».
6- ورواه أبو داود في سننه (9/332) في حديث رقم (3444) بسنده عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا».
7- رواه ابن حبان (الإِحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7/226)، بنفس اللفظ في حديث رقم (4953).
ورواه أيضًا في حديث رقم (4953) عن أبـي هريرة بلفظ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَن باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا».
8-رواه ابن حبان (موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان) بنفس اللفظ في حديث (1109)، ورواه أيضًا في حديث رقم (1110) عن أبـي هريرة بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا».
9- رواه البيهقي في السنن الكبرى (5/343) بنفس اللفظ.
ورواه أيضًا عن أبـي هريرة بلفظ: «أنَّ النبـي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيعتين في بيعة».
ورواه أيضًا عن أبـي هريرة بلفظ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا».
ورواه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع وسلف، وعن بيعتين في صفقة واحدة، وعن بيع ما ليس عندك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «حرام شف ما لم يضمن».
10- ورواه ابن أبـي شيبة في المصنف (7/192/2).
ورواه الحاكم في المستدرك (2/45).
ورواه ابن الجارود (ص 599 ــ 600).
وورد بلفظ: «لا يجوز بيعان في بيع»
حيث رواه الحاكم في المستدرك (2/17) بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك أشياء أخاف أن أنساها، أفتأذن لي أن أكتبها؟ قال: «نعم» قال: فكان فيما كتب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه لما بعث عتاب بن أسيد إلى أهل مكة قال: «أخبرهم: أنه لا يجوز بيعان في بيع، ولا بيع ما لا يملك، ولا سلف وبيع، ولا شرطان في بيع».
ولكنه لم يحكم عليه، بل سكت عنه، كما سكت عنه الحافظ الذهبي في تلخيصه على المستدرك (2/17).

الخلاصة:
أنَّ الحديث لم يرو فقط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وإنما روي أيضًا من حديث أبـي هريرة، وعبد الله بن عمر، فأما حديث أبـي هريرة فرواه محمد بن عمرو عن أبـي سلمة، عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيعتين في بيعة». أخرجه النسائي، والترمذي، وابن الجارود، وابن حبان، والبيهقي، وأحمد من طرق.
وفي لفظ آخر عنه: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما، أو الربا»، أخرجه ابن أبـي شيبة في المصنف، وعنه أبو داود، وابن حبان، والحاكم وعنه البيهقي ــ كما سبق ــ .
وأما حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فرواه يونس بن عبيد، عن نافع، عنه مرفوعًا بلفظ: «مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبعه، ولا تبع بيعتين في بيعة». أخرجه الترمذي، وابن الجارود، وأحمد، وابن ماجه، والبزار ــ كما سبق ــ إضافة إلى أنَّ حديث ابن عمر أخرجه ابن خزيمة، والبيهقي، وأحمد .

درجة هذه الأحاديث من حيث القوَّة والضعف
الحديث الأول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن صفقتين في صفقة واحدة».
* هذا الحديث بشكله المرفوع إلى النبـي صلى الله عليه وسلّم: قال فيه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد:
«رواه البزار وأحمد، ورواه الطبراني في الأوسط، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تحل صفقتان في صفقة»، ورواه في الكبير، ولفظه:
«الصفقة بالصفقتين ربا»، وهو موقوف، ورواه البزار كذلك وزاد: وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإسباغ الوضوء.
ورجال أحمد ثقات» .
وقد عقب الشيخ الألباني على هذا بأنَّ: «رواية أحمد المرفوعة، في سندها شريك بن عبد الله القاضي، وهو سيِّء الحفظ، فلا يحتج به، مع مخالفته لسفيان وشعبة في رفعه» ، وقد قال الحافظ ابن حجر فيه: «صدوق يخطىء، من الخامسة، مات في حدود الأربعين ومائة»، وذكر بأنَّ «البخاري ومسلمًا وأبا داود، والنسائي وابن ماجه، والترمذي في الشمائل قد أخرجوا أحاديثه» .

الخلاصة:
أنَّ المرفوع إلى النبـي صلى الله عليه وسلّم بهذا اللفظ معلول، أو بعبارة أخرى فيه ضعف، ولكن له شواهد من حديث أبـي هريرة، وابن عمر، وابن عمرو كما في الحديث الثالث.
* وأما الموقوف على ابن مسعود فصحيح، كما قال الألباني:
أخرجه عبد الرزَّاق في المصنف، وابن أبـي شيبة، وابن حبان، والطبراني وسنده صحيح، وفي سماع عبد الرحمن من أبيه خلاف، وقد أثبته جماعة، والمثبت مقدم على النافي.
ورواه أحمد وهو رواية لابن حبان بلفظ: «لا تصلح سفقتان في سفقة»، ولفظ ابن حبان: «لا يحل صفقتان في صفقة»، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه»، وسنده صحيح أيضًا.
وكذا رواه ابن نصر في السُّنَّة وزاد في رواية: «أن يقول الرجل: إنْ كان بنقد فبكذا وكذا، وإن كان إلى أجل فبكذا وكذا».
وهو رواية لأحمد، وجعله من قول سماك، الراوي عن عبد الرحمن بن عبد الله.
ثم إنَّ الحديث رواه ابن نصر وعبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن شريح، قال: فذكره من قوله مثل لفظ حديث الترجمة بالحرف الواحد.
قلت:
وسماك هو ابن حرب، وهو تابعي معروف، قال: «أدركت بثمانين صحابيًّا» ، وهو صدوق، غير أنَّ روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغيَّر بأخرة. مات سنة 23هـ. وروى له البخاري ومسلم وغيرهما .

درجة الحديث الثاني: «لا يحل بيع وسلف...»:
* قال الترمذي فيه: «وهذا الحديث حسن صحيح» .
* وقال الحاكم في المستدرك: «هذا حديث صحيح على شرط جملة من أئمة المسلمين صحيح، وهكذا رواه أبو داود ابن أبـي هند وعبد الملك ابن أبـي سليمان وغيرهم عن عمرو بن شعيب»، ووافقه الذهبـي .
* وقال المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، ويشبه أن يكون صحيحًا لتصريحه بذكر عبد الله بن عمرو ويكون مذهبه في الامتناع بحديث عمرو بن شعيب إنما هو الشك في إسناده لجواز أن يكون الضمير عائدًا على محمد بن عبد الله بن عمرو، فإذا صرّح بذكر عبد الله بن عمرو انتفى ذلك، والله عزَّ وجلّ أعلم .
* والحديث ــ كما رأينا ــ رواه ابن حبان في صحيحه ، وهذا يعني الحكم عليه بالصحة.
* والحديث ــ كما رأينا ــ رواه ابن خزيمة في صحيحه ، وهذا يعني الحكم عليه بالصحة.
* وقال ابن حزم : «هذا صحيح، وبه نأخذ، ولا نعلم لعمرو بن شعيب حديثًا مسندًا إلاَّ هذا وحده، وآخر في الهبات».
* وقال الزيلعي : «قال المنذري: ويشبه أن يكون الترمذي إنَّما صحَّحه لتصريحه فيه بذكر عبد الله بن عمرو».
* ووافق الحافظ عبد الحق : الترمذي في حكمه على هذا الحديث بأنه حسن صحيح.
* ونقل ابن تيمية، والحافظ ابن حجر تصحيح الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم، وأنه أخرجه أيضًا في علوم الحديث من رواية أبـي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ آخر .
* وقال الألباني في الإِرواء، الحديث (1306): «حسن»، وقال في صحيح الجامع الصغير، الحديث (7644): «صحيح».

والخلاصة:
أنَّ الحديث صحيح ينهض حجة في عدم جواز البيع والسلف في صفقة واحدة ــ كما سيأتي شرحه ــ .
درجة الحديث الثالث: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيعتين في بيعة»:
ذكرنا عند التخريج أنَّ هذا الحديث روي من حديث أبـي هريرة، وحـديث عبـد الله بـن عمر بـن الخطاب، وحـديث عبـد الله بـن عمـرو بـن العاص.

فأما حديث أبـي هريرة بلفظ: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيعتين في بيعة»:
قال الترمذي فيه: «حديث حسن صحيح» .
وبلفظ: «من باع...».
ــ فقال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبـي .
وكذلك صححه ابن حزم ، وعبد الحق في أحكامه ، والبغوي .
ــ ولكن الشيخ الألباني قال في صحيح الجامع الصغير: «صحيح»، الحديث (6943)، مع أنه قال في الإِرواء: «وإنما هو حسن فقط، لأنَّ محمد بن عمرو فيه كلام يسير في حفظه، وقد روى البخاري عنه مقرونًا، ومسلم متابعة» .
قال الحافظ ابن حجر في حق محمد بن عمرو اليافعي: «صدوق، له أوهام من التاسعة»، ثم أشار إلى أنه روى له مسلم والنسائي .
وقال الحافظ الذهبـي: «ذكره ابن حبان في ثقاته. وقال ابن أبـي حاتم: سألت أبـي، وأبا زُرعة عنه، فقال: هو شيخ لابن وهب، قلت: قد روى له مسلم، وما علمت أحدًا ضعَّفه» .

وأما حديث عبد الله بن عمر:
ــ فقال الحافظ الهيثمي: «ورجال أحمد رجال الصحيح» .
وعقب عليه الشيخ الألباني فقال: «لكنه منقطع، فقد قال البوصيري في «الزوائد»: (هذا الإِسناد رجاله ثقات غير أنه منقطع. وقال أحمد بن حنبل: لم يسمع يونس بن عبيد عن نافع شيئًا وإنما سمع من ابن نافع عن أبيه)، وقال ابن معين، وأبو حاتم: (لم يسمع من نافع شيئًا)، ثم قال الشيخ الألباني: (نافع أولاده ثلاثة: عمر، وعبد الله، وأبو عمر، كما في «التهذيب»، وعمر ثقة من رجال الشيخين، والثاني ضعيف، والثالث لم أعرفه، فإن كان الذي روى عنه الأول فالسند صحيح، وإلاَّ فلا) .

وأما حديث ابن عمرو:
ــ فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ــ كما سبق ــ مما يعني حكمه عليه بالصحة .
الخلاصة:
أنَّ الحديث صحيح، أو حسن، ينهض حجة على المطلوب.

ثانياً - معنـى الحديـث وتحقيق مناطه :
تضمن الحديث بمتونه الثلاثة عدة كلمات تحتاج إلى الشرح والتوضيح، منها:
أ- معنى النهي عن الصفقتين في صفقة واحدة:

الصفقة لغةً:
من الصفق، وهو الضرب الذي يُسمع له صوت، ومنه التصفيق، ويقال: صفق بيديه، وتصافقوا أي تبايعوا، وصفق يده بالبيعة والبيع، وعلى يده صفقًا: ضرب بيده على يده، وذلك عند وجوب البيع، والاسم منها: الصفق، والصّفقيِّ.
ويقال: ربحت صفقتك ــ أي بيعك وشراؤك ــ وصفقة رابحة، أو خاسرة، وهكذا .
والخلاصة : أنَّ المراد بالصفقة هي البيعة، يقول ابن منظور: «وإنما قيل للبيعة: الصفقة، لأنهم كانوا إذا تبايعوا تصافقوا بالأيدي» ، ثم شاعت في البيع والتجارة مطلقًا، وقد ورد في حديث أبـي هريرة: «ألهاهم الصفق بالأسواق» ، أي: ألهاهم التبايع.
والسفقة بالسين لغةً، هي: «الصفقة» طبقًا لقاعدة عامة تقضي بجواز قلب الصاد سينًا كما في {الصراط المستقيم} و {السراط المستقيم}، وفي: «صقبه» و «سقبه».
ومن هنا تبيَّن أنَّ المراد بالصفقتين في صفقة واحدة:
أي بيعتين في بيعة واحدة. فالصفقة، والسفقة، والبيعة، بمعنى واحد.
إذن بقي أن نفهم المراد من هذه الجملة: حيث ثار فيها خلاف وتفصيل، نذكر ذلك من خلال نصوص الفقهاء.
ولنبدأ بتفسير الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء:

تفسير الصحابة والتابعين للصفقتين في صفقة واحدة:
ما جاء عن الصحابـي الجليل ابن مسعود في تفسيره :
روى عبد الرزاق في مصنفه بسنده عن ابن مسعود قال: «لا تصلح الصفقتان في الصفقة: أن يقول: هو بالنسيئة بكذا وكذا، وبالنقد بكذا وكذا .
وروى عبد الرزاق في مصنفه بسنده عن ابن مسعود قال: «الصفقتان في الصفقة ربا».
قال سفيان: يقول: إن باعه بيعًا فقال: أبيعك هذا بعشرة دنانير، تعطني بها صرف دراهمك.

معنى الحديث عند سفيان الثوري :
روى عبد الرزاق في مصنفه الحديث وقال: قال الثوري: إذا قلت: أبيعك بالنقد إلى كذا، وبالنسيئة بكذا وكذا، فذهب به المشتري، فهو بالخيار في البيعين ما لم يكن وقع بيع على أحدهما، فإن وقع البيع هكذا فهذا مكروه، وهو بيعتان في بيعة، وهو مردود، وهو الذي ينهى عنه، فإن وجدت متاعك بعينه أخذته، وإن كان قد استهلك فلك أوكس الثمنين وأبعد الأجلين.
وروى عبد الرزاق: قال الثوري في رجل سلف رجلاً مئة دينار في شيء، فلما ذهب ليزن له الدنانير، قال: أعطني بها دراهم أو عرضًا، قال: هو مكروه، لأنه بيعتان في بيعة.

معناه عند مسروق :
روى عبد الرزاق في مصنفه عن مسروق في رجل قال: أبيعك هذا البز بكذا وكذا دينارًا، تعطني الدينار من عشرة دراهم، قال مسروق: قال عبد الله: لا تحل الصفقتان في الصفقة.

معناه عند سماك:
روى الإِمام أحمد بسنده عن سماك عن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: «نهى صلى الله عليه وسلّم عن صفقتين في صفقة».
قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا» .
وهذا التفسير رواه ابن نصر أيضًا في السُّنَّة (ص 54)، ورواه عنه عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح .

تفسير عبد الوهاب بن عطاء :
روى البيهقي بسنده عن عبد الوهاب بن عطاء، أنا محمد بن عمرو عن أبـي سلمة، عن أبـي هريرة: «أنَّ النبـي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيعتين في بيعة».
وفي رواية يحيـى قال عبد الوهَّاب: يعني يقول: هو لك بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين».

معناه عند أبـي سليمان :
قال الشيخ ــ رحمه الله ــ قرأت في كتاب أبـي سليمان في تفسير هذا الحديث يشبه أن يكون ذلك حكومة في شـيء بعينـه كـأنـه أسلـف دينـارًا فـي قفيـز بر إلى شهـر، فلمـا حـلَّ الأجل وطـالبه بالبـر قال لـه: بعني القفيـز الذي لـك بقفيـزين إلى شهـرين، فهـذا بيع ثان، قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما، وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل أن يتناقضا البيع الأول كانا مربين.

تفسير أبـي عبيد :
قال أبو عبيد: «ومعنى «صفقتان في صفقة»: أن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا نقدًا بكذا، ونسيئة بكذا، ويفترقان عليه.

تفسير ابن سيرين له :
روى عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن أيوب، عن ابن سيرين، أنه كان يكره أن يقول: أبيعك بعشرة دنانير نقدًا، أو بخمسة عشر إلى أجل، وما كره ذلك إلاَّ لأنه نهى عنه.

تفسير طاوس له:
روى عبد الرزاق بسند صحيح عن طاوس قال:
إذا قال: هو بكذا وكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا، فوقع البيع على هذا فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين .
ورواه أيضًا عبد الرزاق وابن أبـي شيبة  في مصنفه عن طريق ليث، عن طاوس مختصرًا، دون قوله: «فوقع البيع»، ولكنه مع زيادة: «فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه، فلا بأس به». غير أنَّ الشيخ الألباني قال: «فهذا لا يصح عن طاوس؛ لأنَّ ليثًا ــ وهو ابن أبـي سليم ــ كان اختلط» .

تفسير الأوزاعي له :
فقد ذكر الخطابـي في معالم السنن أنه قيل للأوزاعي: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين؟ فقال: هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين».

تفسير النسائي له :
حيث قال تحت باب بيعتين في بيعة: وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمئة درهم نقدًا، وبمائتي درهم نسيئة».

تفسير ابن حبان له :
قال في صحيحه: «ذكر الزَّجْرُ عن بيع الشيء بمئة دينار نسيئة، وبتسعين دينارًا نقدًا»، ذكر ذلك تحت حديث أبـي هريرة.

ب- معنى النهي عن بيعتين في بيعة، أو بيعتين في بيع:
فالبيع معروف، وهو: مقابلة المال بمال عن تراض، والتاء في «البيعة» للوحدة، والمقصود بذلك هو النهي عن صفقتين في صفقة واحدة، حيث المؤدَّى واحد، كما سبق.
وقد فسَّر العلماء هذا الحديث بنفس المعنى الذي فسَّروا به حديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة:
فالإِمام النسائي :
حينما ترجم: باب بيعتين في بيعة قال: «وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة درهم نقدًا وبمائتي درهم نسيئة».

وكذلك فعل الإِمام مالك
حيث ترجم: باب النهي عن بيعتين في بيعة، فذكر بلاغًا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيعتين في بيعة».

ثم جاء في الموطأ :
وحدثني عن مالك، أنه بلغه أنَّ رجلاً قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد، حتى ابتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمرو: فكرهه ونهى عنه.
وحدَّثني مالك، أنه بلغه أنَّ القاسم بن محمد سُئِل عن رجل اشترى سلعة بعشرة دنانير نقدًا، أو بخمسة عشر دينارًا إلى أجل، فكره ونهى عنه.
قال مالك في رجل ابتاع سلعة من رجل بعشرة دنانير نقدًا، أو بخمسة عشر دينارًا إلى أجل، قد وجبت للمشتري بأحد الثمنين: أنه لا ينبغي ذلك لأنه إن أخَّر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن نقد العشرة كان إنما اشترى بها الخمسة عشر التي إلى أجل.
قال مالك في رجل قال لرجل: أشتري منك هذه العجوة خمسة عشر صاعًا، أو الصَّيْحانيّ ــ نوع من التمر ــ عشرة أصوع، أو الحنطة المحمولة خمسة عشر صاعًا، أو الشامية عشرة أصوع بدينار قد وجبت لي إحداهما: إنَّ ذلك مكروه لا يحل، وذلك أنه قد أوجب له عشرة أصوع صيْحانيًّا، فهو يدعها ويأخذ خمسة عشر صاعًا من العجوة، أو تجب عليه خمسة عشر صاعًا من الحنطة المحمولة، فيدعها ويأخذ عشرة أصوع من الشامية، فهذا أيضًا مكروه لا يحل، وهو أيضًا يشبه ما نهى عنه من بيعتين في بيعة، وهو أيضًا مما نهى عنه أن يباع من صنف واحد من الطعام، اثنان بواحد .

تفسير بعض أهل العلم حسب تعبير الترمذي، حيث قال :
وقد فسَّر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعتين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كان العقد على واحد منهما.

وجاء في تحفة الأحوذي في ذلك :
قال في شرح السُّنَّة بعد ذكر هذا التفسير: «هو فاسد عند أكثر أهل العلم؛ لأنه لا يدري أيهما جعل الثمن».
وقال في النيل: «والعلَّة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين».
«فإذا فارقه...» بأن قال البائع: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة وبنسيئة بعشرين. فقال المشتري: اشتريته بنقد بعشرة ثم نقد عشرة دراهم. فقد صحَّ البيع.
وكذلك إذا قال المشتري: اشتريته بنسيئة بعشرين، وفارقه على واحد معين منهم.
وهذا التفسير قد رواه الإِمام أحمد في روايته عن سماك، ففي المنتقى عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: نهى صلى الله عليه وسلّم عن صفقتين في صفقة: قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا، وبنقد بكذا وكذا».

وقال الشوكاني في نيل الأوطار :
«من باع بيعتين في بيعة فسَّره سماك بما رواه المصنف، يعني صاحب المنتقى عن أحمد عنه، وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال: بأن يقول بعتك بألف نقدًا أو ألفين إلى سنة، فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا».
ونقل ابن الرفعة عن القاضي: أنَّ المسألة مفروضة على أنه قبل على الإِبهام، أما لو قال: قبلت بألف نقدًا أو بألفين بالنسيئة صحَّ ذلك.

قال الشافعي :
ومن معنى ما نهى النبـي صلى الله عليه وسلّم عن بيعتين في بيعة أن يقول: «أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، وهذا تفارُقٌ عن بيع بغير ثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه صفقته».

وجاء في تحفة الأحوذي في ذلك :
قال في المرقاة بعد ذكر هذا التفسير: هذا أيضًا فاسد لأنه بيع وشرط، ولأنه يؤدي إلى جهالة الثمن؛ لأنَّ الوفاء بيع الجارية لا يجب، وقد جعله من الثمن وليس له قيمة فهو شرط لا يلزم، وإذا لم يلزم ذلك بطل بعض الثمن فيصير ما بقي من المبيع في مقابلة الثاني مجهولاً.
وقال في النيل: «والعلَّة في تحريم هذه الصورة التعليق بالشرط المستقبل.
 واعلم أنه قد فسَّر البيعتان في بيعة بتفسير آخر، وهو أن يسلفه دينارًا في قفيز حنطة إلى شهر، فلما حلَّ الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك عليّ إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة؛ لأنَّ البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إلى أوكسهما وهو الأول. كذا في شرح السنن لابن رسلان، فقد فسَّر حديث أبـي هريرة المذكور بلفظ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيعتين في بيعة، بثلاثة تفاسير فاحفظها.
ثم اعلم أنَّ لحديث أبـي هريرة هنا رواية أخرى رواها أبو داود في سننه بلفظ: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا».
قال الشوكاني في شرح هذه الرواية ما لفظه: قوله فله أوكسهما أي أنقصهما.
وقال الخطابـي: لا أعلم أحدًا قال بظاهر الحديث وصحَّح البيع بأوكس الثمنين إلاَّ ما حكي عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد .

قال الشوكاني في شرح رواية: «... فله أوكسهما أو الربا»:
ولا يخفى أنَّ ما قاله هو ظاهر الحديث: لأنَّ الحكم له بالأوكس يستلزم صحَّة البيع به. ومعنى قوله أو الربا: يعني أن يكون قد دخل هو وصاحبه في الربا المحرم إذا لم يأخذ بالأوكس بل أخذ بالأكثر. قال: وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن رسلان.
وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه متمسك لمن قال: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه بالنَّساء. وقد ذهب إلى ذلك زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإِمام يحيـى.
وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور: إنه يجوز لعموم الأدلة القاضية بجوازه، وهو الظاهر؛ لأنَّ ذلك المتمسك هو الرواية الأولى من حديث أبـي هريرة، يعني التي رواها أبو داود، وقد ذكرنا لفظها آنفًا، وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك المشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره، وهو النهي عن بيعتين في بيعة ولا حجة على المطلوب.
ولو سلمنا أنَّ تلك الرواية التي تفرَّد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع ــ كما سلف عن ابن رسلان ــ قادحًا في الاستدلال بها على المتنازع فيه، على أنَّ غاية ما فيها الدلالة على المنع من البيع إذا وقع على الصورة، وهي أن يقول نقدًا بكذا ونسيئة بكذا، لا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط، وكان أكثر من سعر يومه مع أن المتمسِّكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة، ولا يدل الحديث على ذلك، فالدليل أخص من الدعوى.
قال: وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسمَّيناها شفاء العلل في حكم زيادة الثمن لمجرَّد الأجل وحققناها تحقيقًا لم نسبق إليه» .

والخلاصة:
ويتلخَّص ما ذكرناه أنَّ جمهور العلماء فسَّروا الصفقتين في صفقة واحدة، والبيعتين في بيعة واحدة بأنَّ المراد هو أن تتضمن الصفقة الواحدة سعرين (ثمنين) للمبيع، سعرًا زائدًا لبيعه أجلاً، وسعرًا أقل لبيعه عاجلاً، وقيد ذلك بأن يكون في صفقة واحدة، أما إذا وجدت المساومة على ذلك، ثم يتفقان على أحدهما فلا بأس، قال الترمذي: «وقد فسَّر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على واحد منهما» .

ج- معنى النهي عن شرطين في بيع:
يظهر مما قاله معظم رواة الحديث، والفقهاء أنَّ المراد به هو نفس معنى النهي عن بيعتين في بيعة واحدة، ولذلك ورد في ألفاظ الحديث: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيعتين في بيعة» من حديث عبد الله بن عمرو، أخرجه ابن خزيمة، والبيهقي، وأحمد. ورواه غيرهم بنفس السند بلفظ: «ولا شرطان في بيع».
يقول الشيخ الألباني: «ويظهر أنَّ اللفظين بمعنى واحد إذ رواه بعض الرواة عن عمرو بن شعيب بهذا، وبعضهم بهذا» .
ويؤيِّد ذلك أنَّ ابن قتيبة في «غريب الحديث» فسَّر «النهي عن الشرطين في بيع» بنفس معنى النهي عن بيعتين في بيعة فقال: «ومن البيوع المنهي عنها... شرطان في بيع، وهو أن يشتري الرجل السلعة إلى شهرين بدينارين، وإلى ثلاثة أشهر بثلاثة دنانير، وهو بمعنى: «بيعتين في بيعة» . قال الألباني: «وقد مضى قريبًا تفسيره بما ذكرناه عن سماك، وكذلك فسَّره
عبد الوهاب بن عطاء فقال: «يعني يقول: هو لك بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين» .
حيث تدل النصوص الكثيرة على أنَّ مجرَّد اجتماع شرطين جائزين في عقد واحد لا يضر بالعقد ــ كما سيأتي.

د- معنى النهي عن بيع وسلف:
قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: ما معنى: نهى عن سلف وبيع؟ قال: أن يكون يقرضه قرضًا ثم يبايعه بيعًا يزداد عليه، ويحتمل أن يكون يسلف عليه في شيء فيقول: إن لم يتهيَّأ عندك فهو بيع عليك .
وعلى ضوء التفسير الأول: يكون المراد بالحديث النهي عن التحايل على الربا، بحيث يصل المقرض إلى الزيادة من خلال بيع يضمه إلى القرض فيأخذ زيادة في القيمة في مقابل القرض، وكذلك فهو داخل في قرض جرّ منفعة واضحة.
وعلى التفسير الثاني: يكون العقد معلَّقًا بين البيع والقرض حيث يسلف إليه في شيء؛ يعني يقرضه دراهم، أو دنانير، وأخذ منه شيئًا، فيقول: إن لم يتهيَّأ عندك، ولم يتيسَّر لك رد الدراهم أو الدنانير فهو بيع عليك. يعني فذلك الشيء الذي أخذت منك يكون مبيعًا منك بعوض تلك الدراهم، أو الدنانير .
قال البغوي: «المراد بالسلف هنا القرض، قال أحمد: هو أن يقرضه قرضًا، ثم يبايعه عليه بيعًا يزداد عليه، وهو فاسد؛ لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن، وقد يكون السلف بمعنى السلم، وذلك مثل أن يقول: أبيعك عبدي هذا بألف على أن تسلفني مائة في كذا وكذا، أو يسلم إليه في شيء، ويقول: إن لم يتهيَّأ المسلَم فيه عندك فهو بيع لك» .
قال الشوكاني: «وفي كتب جماعة من أهل البيت ــ عليهم السلام ــ أنَّ السلف والبيع صورته: أن يريد الشخص أن يشتري السلعة بأكثر من ثمنها لأجل النَّساء، وعنده أنَّ ذلك لا يجوز، فيحتال، فيستقرض الثمن من البائع ليعجله إليه صلة. والأولى: تفسير الحديث بما تقتضيه الحقيقة الشرعية، أو اللغوية، أو العرفية، أو المجاز عند تعذُّر الحمل على الحقيقة، لا بما هو معروف في بعض المذاهب غير معروف في غيره» .

المعنى الراجح:
يظهر من هذه التفسيرات أنَّ التفسير الحريَّ بالقَبول والترجيح هو أنَّ الحديث يدل على النهي عن الجمع بين سلف وبيع سواء أكان على صورة شرط مثل أن يقول: أبيعك هذه الدار على أن تسلفني كذا، أو أسلفك كذا على أن تبيعني كذا، أم كان على غير شرط، كأن تتضمَّن الصفقة الواحدة عقد البيع، والقرض أو السلم، وأنَّ العلَّة في ذلك هو الوقوع في الربا، واستغلال عقد القرض أو السلم للوصول إلى زيادة لم تكن تتحقَّق لولاه، فالحديث ظاهر وواضح في دلالته على هذا المعنى، حيث استعمل لفظ الواو الدالَّة على مطلق الجمع، والله أعلم.

فقه هذه الأحاديث :
 نتطرَّق من خلال ذلك إلى المراد بالنهي الوارد في هذه الأحاديث أوَّلاً، ثمَّ إلى الأحكام المأخوذة منها ثانيًا، ثم ما لا يدخل فيه مما له شبهة تخييل بالدخول ثالثًا.
أولاً: ورد الحديث الأول بلفظ «نهى»، وكذلك في الحديث الثالث، في حين ورد الحديث الثاني بلفظ: «لا يحل»، كما أنَّ الحديث الثالث ورد في بعض رواياته وطرقه بلفظ: «لا يجوز». وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أنَّ النهي هنا للتحريم ما دام قد أكَّد ذلك بلفظ: «لا يحل»، أو: «لا يجوز»، فالنهي وإن كان فيه خلاف كبير في أنه هل هو حقيقة في التحريم، أو في الكراهة، أو في التهديد؟
لكنه هنا حقيقة في التحريم لوجود القرائن الدالَّة عليه .
ولكنه هنا يثور السؤال المعروف، وهو: هل هذا النهي يقتضي الفساد والبطلان أم لا؟
فذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية والإِباضية إلى أنَّ النهي يقتضي فساد المنهي عنه ما دام النهي لذات المنهي عنه كالنهي عن بيع الملاقيح والميتة، أو لوصف لازم كالنهي عن بيع درهم بدرهمين.
وأما النهي عن الشيء لوصف غير لازم، كالنهي عن البيع وقت آذان الجمعة فلا يوجب فساده إلاَّ عند الحنابلة والظاهرية والإِباضية.
وذهب الحنفية إلى أنَّ النهي عند عدم وجود قرينة دالَّة على أنَّ النهي لمعنى في ذات المنهي عنه أو لغيره لا يدل على أنَّ المنهي عنه غير مشروع،
بل ينسحب على معنى لغيره فيكون الأصل مشروعًا والفساد في الوصف فقط .
والبحث وإن كان لا يسع لإِثراء هذا الموضوع، لكن الذي يظهر رجحانه هو قول الجمهور.
فعلى ضوء ذلك، فالذي يظهر لنا أنَّ النهي في هذه الأحاديث ليس لذات المنهي عنه، وإنما لوصف لازم فيكون حكمه البطلان والفساد عند الجمهور، وعلى فساد الوصف عند الحنفية، ومن المعلوم أنَّ الحنفية فرَّقوا بين الفاسد والباطل ورتَّبوا على ذلك عدَّة آثار، منها أنَّ الباطل لا يترتَّب عليه أثر شرعي في حين أنَّ العقد الفاسد يترتَّب عليه بعض الأحكام عندما يتم القبض .


ثالثاً- الأحكام المستفادة:
الحكم الأول: تحريم، وبطلان ــ أو فساد ــ صفقتين في صفقة واحدة، وبيعتين في بيعة واحدة، وشرطين في بيع.
وقد برهنّا على أنَّ المراد بهذه الألفاظ الثلاثة شيء واحد، وأنها مترادفة من حيث المعنى والمؤدَّى والمقصود.
وقد ذكرنا عند تفسير هذه النصوص أنَّ المعنى الرَّاجح هو:
الذي ذكره الصحابـي الجليل ابن مسعود، وتفسيره بالتأكيد أولى من تفسير غيره، ولا سيَّما أنه قد روي عنه هذا الحديث مرفوعًا وموقوفًا، لأنَّ راوي الحديث أولى بفهمه من غيره، كما أنَّ تفسير سماك أيضًا يتَّفق معه، وسماك هو تابعي معروف أدرك ثمانين صحابيًّا، فتفسيره للحديث ينبغي أن يقدم عند التعارض، ولا سيما وهو أحد رواة هذا الحديث، «لأنَّ الراوي أدرى بمرويه من غيره؛ لأنَّ المفروض أنه تلقى الرواية من الذي رواها عنه مقرونًا بالفهم لمعناها، فكيف وقد وافقه على ذلك جمع من علماء السلف وفقهائهم» منهم الثوري، ومسروق، وأبو سليمان، وابن سيرين، وطاوس، والأوزاعي، والإِمام النسائي، وابن حبان، وابن الأثير، وأبو عبيد، وغيرهم، وهذا التفسير هو أنَّ المراد بالصفقتين أن يبيع الإِنْسان شيئًا فيقول: بعته لك بنقد كذا، وبنسيئة كذا» .
ويقول الخطابـي: «ثم جرى على سنتهم أئمة الحديث واللغة»، ثم ذكر عددًا منهم: «الإِمام النَّسائي، وابن حبان، وابن الأثير» .
وهذا هو نفسه المراد من البيعتين أو البيعين في بيعة، أو بيع، وكذلك المراد بالشرطين في عقد واحد، كما فسَّره الأوزاعي حيث قيل له: فإن ذهب بالسلعة على ذينك الشرطين؟ فقال: هي بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين» ، وكذلك فسَّره النَّسائي وغيره.
فالمقصود: «أنَّ ألفاظ الصفقتين في صفقة واحدة والبيعتين في بيعة واحدة، أو البيعين في بيع واحد، والشرطين في بيع مترادفة بمعنى واحد وإن كانت التعبيرات مختلفة، وهي أن يتضمَّن العقد الواحد ثمنين لمبيع واحد
ثمن خاص به عند التأجيل، وثمن آخر له عند التعجيل، وهذا هو رأي الجمهور: الذي يظهر رجحانه بوضوح، ولكنه لا مانع من شموله للصورة التي ذكرها الإِمام الشافعي وغيره، وهي: أن يقول: هذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أي إذا وجب لك عندي وجب لي عندك» .
فعلى ضوء ذلك: فالمحرم المنصوص عليه هو تلك الصورة السابقة، وهل يقاس عليها أشباهها؟
لا شكَّ أنَّ الأصل في المعاملات هو أنها معقولة المعاني، ولذلك إذا عرفنا السبب والعلة وراء هذا النهي فإنَّ القياس فيها وارد مستساغ.

العلَّة في تحريم وبطلان صفقتين في صفقة واحدة:
قال الشوكاني: «والعلَّة في تحريم بيعتين في بيعة: عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين، والتعليق بالشرط المستقبل في صورة بيع هذا على أن يبيع منه ذاك» .
والتحقيق: أنَّ العلَّة (السبب) مرتبطة بمعنى الحديث، فإذا فسَّرنا الحديث بالمعنى الراجح المشهور الذي سار عليه معظم الرواة والعلماء وهو أن يتضمَّن العقد الواحد بيع شيء بثمنين بأن يقول: بعتك بألفين نسيئة، وبألف نقدًا فأيهما شئت أخذت به، فعلى ضوء هذا التفسير الراجح تكون العلة هي ما ذكره الشوكاني وغيره من عدم استقرار الثمن، ولزوم الربا.
وأما على المعنى الثاني: وهو أن يقول: «بعتك داري على أن تبيعني فرسك...»، فتكون العلَّة هي التعليق بشرط مستقبل يحتمل وقوعه وعدم وقوعه فلم يستقرّ الملك.
فعلى ضوء ذلك: فكل بيع، أو عقد يكون فيه الثمن على احتمال وخطر التحقيق وعدمه لا يجوز.
فيلحق به كل عقد يتردد بين شيئين كثمنين، أو سلعتين في البيع، أو أجرتين، أو فساد مستأجرين، أو نحو ذلك.
ويمكننا القول: بأنَّ العلَّة في ذلك تتلخَّص في الغرر والجهالة.

الحكم الثاني: حرمة بطلان ــ أو فساد ــ اجتماع سلف وبيع في عقد واحد :
وإذا كان المراد به هو نفس المعنى الذي فسر به اجتماع صفقتين في صفقة واحدة فإنَّ الأمر واضح، أما إذا كان المراد به أن يجتمع في العقد الواحد القرض مع البيع فإنَّ العلَّة في ذلك هو الخوف من الربا، حيث يحابـي في ثمن المبيع لأجل القرض، وحينئذ يتأكَّد هذا المعنى بالقاعدة الفقهية القائمة على الأثر، وهي «أنَّ كل قرض جرَّ منفعة مشروطة فهو ربا» .
ما يلحق به : يلحق بهذا كل عقد يجمع بين قرض، ومعاوضة، كإجارة ونحوها. وكذلك يلحق بالقرض كل تبرع مع معاوضة.
وقد ذكر شيخ الإِسلام ابن تيمية : أنَّ بعض العلماء احتالوا في الجمع بين الإِجارة والمحاباة في المساقاة، حيث قال: « إنَّ الكوفيين احتالوا على الجواز: تارة بأن يؤجر الأرض فقط، ويبيعه ثمر الشجر... ، وتارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة، ويساقيه على الشجر بالمحاباة مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك... فقد اضطروا في هذه المعاملة إلى أن تسمَّى الأجرة في مقابلة منفعة الأرض، ويتبرَّع له إما بإعراء الشجر، وإما بالمحاباة في مساقاتها».
يقول شيخ الإِسلام تعليقًا على هذه الحيلة مستندًا في إبطالها على حديث الباب فقال: «والمنع من هذه الحيل هو الصحيح قطعًا: لِمَا روى عبد الله بن عمر أنَّ النبـي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل سلف وبيع...».
فنهى صلى الله عليه وسلّم عن أن يجمع بين سلف وبيع، فإذا جمع بين سلف وإجارة فهو جمع بين سلف وبيع أو مثله. وكل تبرُّع يجمعه إلى البيع والإِجارة، مثل: الهبة، والعارية، والعرية، والمحاباة في المساقاة والمزارعة وغير ذلك: هي مثل القرض.

فجماع معنى الحديث:
أن لا يجمع بين معاوضة وتبرُّع؛ لأنَّ ذلك التبرُّع إنما كان لأجل المعاوضة، لا تبرُّعًا مطلقًا. فيصير جزءًا من العوض، فإذا اتفقا على أنه ليس بعوض جمعا بين أمرين متنافيين، فإن من أقرض رجلاً ألف درهم، وباعه سلعة تساوي خمسمائة بألف: لم يرض بالإِقراض إلاَّ الثمن الزائد للسلعة، والمشتري لم يرض ببذل ذلك الثمن الزائد إلاَّ لأجل الألف التي اقترضها. فلا هذا باع بيعًا بألف، ولا هذا أقرض قرضًا محضًا، بل الحقيقة أنه أعطاه السلعة بالألف والسلعة بألفين، فهي مسألة «مد عجوة»، فإذا كان المقصود أخذ ألف بأكثر من ألف: حرام بلا تردُّد، وإلاَّ خرج على الخلاف المعروف. وهكذا من اكترى الأرض التي تساوي مائة ألف وأغراه الشجر، أو رضي من ثمرها بجزء من ألف جزء، فمعلوم بالاضطرار: أنه إنما تبرَّع بالثمرة لأجل الألف التي أخذها، وإنَّ المستأجر إنَّما بذل الألف لأجل الثمرة، فالثمرة هي جل المقصود المعقود عليه أو بعضه فليست الحيلة إلاَّ ضربًا من اللعب والإِفساد، وإلاَّ فالمقصود المعقود عليه ظاهر.
والذين لا يحتالون، أو يحتالون وقد ظهر لهم فساد هذه الحيلة، هم بين أمرين: إما أن يفعلوا ذلك للحاجة، ويعتقدوا أنهم فاعلون للمحرم، كما رأينا عليه أكثر الناس. وإما أن يتركوا ذلك ويتركوا تناول الثمار الداخلة في هذه المعاملة فيدخل عليهم الضرر...» .

رابعاً- تفسير فقهاء المذاهب لهذه الأحاديث مع تطبيقاتها الفقهية في نظرهم :
أولى الفقهاء عناية كبيرة بهذه المسألة، حتى أفرط بعضهم في توسيع دائرتها فحكم ببطلان كل عقد يتضمَّن صفقتين، أو عقدين، حتى شرطين، ولم ينظروا إلى مدلول النص ومقاصده وما نزل فيه. في حين ذهب المحققون من العلماء إلى تنزيل هذه النصوص في منازلها دون إفراط ولا تفريط. ونحن نذكر معظم المسائل التي أدخلوها في هذه الأحاديث وهي في حقيقتها غير داخلة فيها.
لذلك سنذكر هنا تفسير فقهاء المذاهب، وبالأخص المذاهب الأربعة لهذه الأحاديث، ثم ما ذكروه من تطبيقات لها:

1- تفسيرهم لها وموقفهم منها:
(أ) الحنفية: ذكر العلاَّمة المرغيناني عدَّة مسائل، فقال: «ومن باع عبدًا على أن يعتقه المشتري، أو يدبره... فالبيع فاسد؛ لأنَّ هذا بيع وشرط، وقد نهى النبـي صلى الله عليه وسلّم عن بيع وشرط... وكذلك لو باع عبدًا على أن يستخدمه البائع شهرًا، أو دارًا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري درهمًا، أو على أن يهدي له هدية؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه ــ عليه الصلاة والسلام ــ نهى عن بيع وسلف، ولأنه لو كان في الخدمة والسكن يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلها يكون إعارة في بيع، وقد نهى النبـي ــ عليه الصلاة والسلام ــ عن صفقتين في صفقة» .
وقد شرح العلاَّمة ابن الهمام الحنفي هذين الحديثين، فقال: «ومعنى السلف في البيع: البيع شرط أن يقرضه دراهم، وهو فرد من البيع الذي شرط فيه منفعة لأحد المتعاقدين وغير ذلك» .
وقال معلقًا على كلام المرغيناني السابق: «فيتناول ــ أي حديث النهي عن صفقتين... ــ الاعتبارين المذكورين... وأما معناه، ففسَّره المصنِّف ــ أي المرغيناني ــ بما سمعت. وفسَّره أبو عبيد القاسم بن سلاَّم بأن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا نقدًا بكذا ونسيئة بكذا ويفترقان عليه». انتهى. ورواية ابن حبان للحديث موقوفًا: «والصفقة في الصفقتين ربا»، تؤيِّد تفسير المصنِّف مع أنه أقرب تبادرًا من تفسير أبـي عبيد، وأكثر فائدة، فإنَّ كون الثمن على تقدير النقد ألفًا، وعلى تقدير النسيئة ألفين ليس في معنى الربا، بخلاف اشتراط نحو السكن والخدمة» .
أي كل شرط يؤدِّي إلى اجتماع عقدين في عقد كبيع وبيع، أو إجارة، أو قرض، أو إعارة، أو اشتراط سكن الدار المبيعة، أو نحو ذلك.
وشرح العلاَّمة السغدي في فتاويه حديث النهي عن بيع وسلف فقال: «هو أن يقول الرجل: أبيعك هذا الشيء على أن تقرضني كذا، أو أقرضك كذا»، وقال في شرح: «بيعتين في بيع واحد، هو أن يقول: أبيعك هذه الجارية بكذا درهمًا على أن أبيعك هذا الغلام بكذا، أو على أن تبيعني عبدك بكذا»، وقال في شرح «شرطين في بيع»: «هو أن يقول: أبيعك هذا الشيء بعشرة دراهم إن نقدتني وبخمسة عشر إن أعطيتني في شهر» .
وفرَّق ابن الهمام بين لفظ: «صفقتين»، ولفظ: «بيعتين»، فقال: ويظهر من كلام بعض من يتكلَّم في الحديث ظن أنه معنى الأول، وليس كذلك، بل هذا ــ أي النهي عن بيعتين في بيعة ــ أخص منه، فإنه في خصوص من الصفقات، وهو البيع» .

(ب) المالكية: فسَّروا الصفقتين بالتفسير السابق الذي ذكرناه ورجحناه، وهو العقد الذي يكون مترددًا بين شيئين كثمنين، أو سلعتين في البيع، أو أجرتين، أو كدارين في الإِجازة، وذلك بشرط الإِلزام.
فالعلة على ضوء ما ذكره المالكية هي: الغرر والجهالة الناشئة من التردُّد، أما اجتماع العقود في عقد واحد دون وجود هذا التردُّد فجائز من حيث المبدأ، فقد جاء في المدونة: «قلت: أرأيت إن اشتريت عبدًا من رجل بعشرة دنانير على أن أبيعه عبدي بعشرة دنانير؟ قال: قال مالك: ذلك جائز.. ولأنَّ هذا مقاصة، وإلاَّ لا يصلح إذا اشترطا إعطاء الدنانير كل للآخر.
قلت: فلو بعته عبدي بعشرة دنانير على أن يبيعني عبده بعشرين دينارًا، قال: قال مالك: لا بأس بذلك، وإنما هو عبد بعبد، وزيادة عشرة دنانير» .
وقال ابن القاسم: «وكذلك لو قال: أبيعك ثوبـي هذا بعشرة دنانير على أن تعطيني حمارًا إلى أجل صفقة كذا وكذا فلا بأس به، إنما وقع الثوب بالحمار، والدنانير لغوًا فيما بينهما، كما قال أيضًا: إنَّ مالكًا يجيز اجتماع البيع والإِجارة في صفقة واحدة» .
وأجاز أشهب اجتماع البيع مع الشركة، والصرف، والجُعل، والنكاح، والمساقاة، والقراض، والإِجارة، والكراء .
أما بخصوص اجتماع البيع والسلف فقد قال ابن رشد: «واختلف أيضًا في البيع والسلف إذا وقع فقيل: يفسخ ما دام مشترط السلف متمسكًا بشرطه، فإن رضي بتركه على مذهب سحنون أو رده على مذهب ابن القاسم ــ يريد، والله أعلم ــ قبل أن يغيب عليه غيبة ينتفع فيهما به، صحَّ البيع ــ ولم يفسخ، فإن فاتت السلعة، قال ابن حبيب: ولم يقبض السلف، كان فيها الأقل من الثمن أو القيمة ــ إن كان المشتري هو مشترط السلف أو الأكثر من القيمة، أو الثمن إن كان البائع هو مشترط السلف كالحكم في بيوع الثنا سواء. هذا قول ابن القاسم في المدونة، وفي العشرة ليحيـى عن ابن القاسم: أنَّ فيها القيمة بالغة ما بلغت كانت أقل من الثمن أو أكثر، وهي ظاهر روايته عنه في السلم والاجال من العُتْبيَّة، وعلى هذا يفسخ البيع إن شاء المتبايعان أو أبيا إذا كانت السلعة قائمة» .

(ج) الشافعية: ذكر فقهاء الشافعية ضمن البيوع المنهي عنها: بيعتين في بيعة، فقال النووي: «وفيه تأويلان نص عليهما في المختصر:
أحدهما: أن يقول: بعتك هذا بألف على أن تبيعني دارك بكذا، أو تشتري مني داري بكذا.. وهو باطل.
والثاني: أن يقول: بعتكهُ بألف نقدًا، أو بألفين نسيئة فخذه بأيهما شئت، أو شئت أنا.. وهو باطل.
أما لو قال: بعتك بألف نقدًا، وألفين نسيئة. أو قال: بعتك نصفه بألف، ونصفه بألفين فيصح العقد»  وقال أيضًا: «ومنها: النهي عن بيع وسلف، وهو البيع بشرط القرض... فمن الشرط الفاسد إذا باعه بألف بشرط أن يبيعه داره، أو يشتري منه داره، وبشرط أن يقرضه عشرة، فالعقد الأول باطل، فإذا أتيا بالبيع الثاني نظر، إن كانا يعلمان بطلان الأول صح، وإلاَّ فلا، لأنهما يأتيان به على حكم الشرط الفاسد... والقياس صحته، وبه قطع الإِمام.
وكذلك الأمر في الجمع بين بيع وإجارة حيث فيه قولان، ولو قال: اشتريت هذا الزرع، واستأجرتك على حصاده بعشرة، فقال: بعت وأجرت، فطريقان: أحدهما على القولين في الجمع بين مختلفي الحكم، والثاني: تبطل الإِجارة، وفي البيع قولا تفريق الصفقة» .

(د) الحنابلة: حمل الحنابلة حديث النهي عن صفقتين، أو بيعتين في صفقة واحدة، أو بيعة واحدة على اجتماع عقدين في عقد واحد بعوضين مختلفين، وهذا هو ظاهر المذهب.
ولبيان ذلك نستعرض بإيجاز ما ذكره ابن قدامة حيث ذكر تفسيرين:
أحدهما: ما ذكرناه آنفًا بأن يشترط في العقد عقدًا آخر مثل أن يقول:
بعتك بكذا على أن تقرضني كذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن آخذ منك الدينار بصرف كذا، أو على أن أؤجرك، أو على أن تؤجرني، أو على أن تزوجني ابنتك، أو أزوجك، أو نحو ذلك.. فالعقد في هذا كله باطل على الأصح في المذهب.
وأما إذا جمع بين عقدين مختلفي القيمة بعوض واحد كالصرف وبيع ما يجوز التفرُّق فيه قبل القبض، والبيع والنكاح، أو الإِجارة نحو أن يقول: بعتك هذا الدينار وهذا الثوب بعشرين درهمًا، أو بعتك هذه الدار وأجَّرتك الأخرى بألف، أو باعه سيفًا محلَّى بالذهب بفضة، أو زوَّجتك ابنتي وبعتك عبدها بألف.. صحَّ العقد فيهما، لأنها عينان يجوز أخذ العوض عن كل واحدة منها منفردة فجاز أخذ العوض عنهما مجتمعين كالعبدين، وهذا أحد قولي الشافعي.
وقال أبو الخطاب: في ذلك وجه آخر إنه لا يصح، وهو القول الثاني للشافعي، لأنَّ حكمهما مختلف، فإنَّ المبيع يضمن بمجرَّد البيع، والإِجارة بخلافه، والأول أصح، وما ذكروه يبطل بما إذا باع شقصًا وسيفًا، فإنه يصح مع اختلاف حكمهما بوجوب الشفعة في أحدهما دون الاخر» .
والثاني: هو تفسير الجمهور، أي الجمع بين النقد والنسيئة لشيء واحد في عقد واحد، قال ابن قدامة: «وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر، وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقدًا، أو بخمسة عشر نسيئة، أو بعشرة مكسرة، أو تسعة صحاحًا، هكذا فسَّره مالك والثوري وإسحاق، وهو أيضًا باطل وهو قول الجمهور، لأنه لم يجزم له ببيع واحد، فأشبه ما لو قال بعتك هذا، أو هذا، ولأنَّ الثمن مجهول فلم يصح كالبيع
بالرقم المجهول، ولأنَّ أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح، كما لو قال: بعتك أحد عبيدي. وقد روي عن طاوس، والحكم، وحمَّاد، أنَّهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، فيذهب على أحدهما. وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعدما يجري في العقد، فكأنَّ المشتري قال: أنا آخذه بالنسيئة بكذا، فقال: خذه، أو قد رضيت، ونحو ذلك، فيكون عقدًا كافيًا... .
وقد روي عن أحمد فيمن قال: إنَّ خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدًا فلك نصف درهم: أنه يصح، فيحتمل أن يلحق به هذا البيع فيخرج وجهًا في الصحة، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إنَّ العقد ثمة يمكن أن يصح لكونه جعالة يحتمل فيهما الجهالة، بخلاف البيع، ولأنَّ العمل الذي يستحق به الأجرة لا يمكن وقوعه إلاَّ على إحدى الصفقتين فتتعيَّن الأجرة المسمَّاة عوضًا له فلا يقضي إلى التنازع، وههنا بخلافه» .
وذكر ابن قدامة تفسير الحديث، فقال: «ولو باعه بشرط أن يسلفه، أو يقرضه، أو شرط المشتري ذلك فهو محرم، والبيع باطل... ، لما روى عبد الله بن عمر أنَّ النبـي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع وسلف... ، وفي لفظ: «لا يحل بيع وسلف، لأنه اشترط عقدًا في عقد ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضًا عن القرض وربحًا له، وذلك ربا محرم ففسد؛ كما لو صرح به» .

2- التطبيقات التي ذكرها فقهاء المذاهب:
عند النظر في الكتب الفقهية نجد أنَّ الفقهاء نظروا إلى هذه المسألة من زاويتين:
الزاوية الأولى: اقتران الشروط بالعقود، حيث أدخل معظم الفقهاء مسألة الشروط في أحاديث النهي عن الصفقتين، والشرطين، والبيعين في بيع واحد سواء كان هذا الشرط يتضمَّن عقدًا، أو نحو ذلك.
الزاوية الثانية: أن يتضمَّن العقد الواحد عقدين مطلقًا سواء كان عن طريق التعليق والشرط أم لم يكن كذلك.
ومن خلال التوسُّع في هاتين الزاويتين يكون التضييق على العقود ، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنَّ التوسُّع في هذا الباب وجعل المعنى الواسع لهذه الأحاديث أصلاً أدَّى إلى أن يقول جماعة من الفقهاء: إنَّ الأصل في الشروط هو الحظر، في حين لو حقَّقوا في معنى الحديث ووصلوا إلى المعنى الراجح الذي ذكره رواة الحديث لما كان هذا التوسُّع في الحظر ولا التضييق في نطاق العقود، ولا الوصول إلى أنَّ الأصل في الشروط الحظر.
وتطبيقًا لهذا النهج خاض بعض الفقهاء في الحرفية والظاهرية أكثر فمنعوا وجود شرطين في عقد واحد مهما كانت طبيعة الشرط، ومنعوا وجود عقدين في صفقة واحدة، كما أنَّ بعضهم منعوا حتى وجود شرط في العقد إلاَّ ما دلَّ الدليل عليه، وبعضهم قالوا: إنَّ العقد يبطل بوجود شرطين فاسدين، ولكنه لا يبطل بوجود شرط فاسد، مع أنَّ الحديث ليس فيه أي دليل على تقييد الشرطين بكونهما فاسدين، وأيضًا فإذا كانت الشروط صحيحة فما الفرق بين شرط واحد، أو شرطين، وكذلك إذا كانت فاسدة فما الفرق بين الأمرين؟ .
ولا يسع البحث الخوض في مزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع.

البيع بالتقسيط ومدى علاقته بهذه الأحاديث:
ذهب الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: إلى أنَّ البيع بالتقسيط يدخل في مضمون هذه الأحاديث، فقال: «وهو ينطبق تمامًا على المعروف اليوم ببيع التقسيط»، ورأى أنه لا يجوز البيع بالتقسيط ما دام الثمن المؤجل أكثر من الثمن المعجل، لكنه لو وقع ودفع أقل السعرين جاز .
* وحجته في ذلك: أنَّ هذه الحالة تدخل في مدلول حديث النهي عن البيعتين في بيعة واحدة، وأنه حيلة إلى الربا.
للجواب عن ذلك نقول:
أولاً: إنَّ ما يجري اليوم هو ليس من باب صفقتين في صفقة واحدة، أو البيعتين في بيعة واحدة، لأنَّ المشتري أساسًا يقدم على الشراء بالتقسيط، فلا يذكر في العقد ثمن المبيع المعجَّل إذا كان مؤجَّلاً، لأنه لو كان عنده الثمن العاجل لما أقدم على ذلك أبدًا، ومن هنا فيكون الثمن واحدًا، والصفقة واحدة، وليست صفقتين، ثم إنَّ تفسير الرواة، ومنهم ابن مسعود، وسماك لا ينطبق على البيع بالتقسيط في وقتنا الحاضر، لأنَّ تفسيرهم يدل على أنَّ المنهي عنه وجود بيعتين في بيعة واحدة.
في حين أنَّ البيع بالتقسيط الان يبت فيه الثمن الواحد.
ثانيًا: ومن جانب آخر أنَّ الحديث فسَّر تفسيرًا آخر رجَّحه ابن تيمية وابن القيم بأنَّ الحديث في بيع العينة ــ كما سيأتي شرحه.
ثالثًا: وأما أنَّ هذه العملية يقصد بها الوصول إلى الربا عن طريق الحيلة فقد ردَّ على ذلك فضيلة الشيخ القرضاوي حيث قال: «إنَّ هذا الكلام ليس صحيحًا في تصوير الواقع فالمصرف يشتري حقيقة، ولكنه يشتري ليبيع غيره، كما يفعل أي تاجر، وليس من ضرورة الشراء الحلال أن يشتري المرء للانتفاع، أو القنية، أو الاستهلاك الشخصي، والعميل الذي طلب من المصرف الإِسلامي أن يشتري له السلعة يريد شراءها حقيقة، ولا صورة» .
رابعًا: ثمَّ إنَّ وجود شبه بالربا من حيث الصورة مع فرض التسليم به لا يدل على التحريم ما دامت الحقيقة مختلفة، وذلك لأنَّ الربا إنما يجري بين جنسين متماثلين كالنقد بالنقد بزيادة لأجل الأجل، أو الطعام بالطعام بزيادة، لأجل الأجل، أو نحو ذلك، في حين أنَّ البيع بالتقسيط لا ينطبق عليه هذا المعنى أبدًا، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التخييل، فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
خامسًا: ثمَّ إنَّ الأئمَّة الأربعة وجمهور الفقهاء والمحدِّثين أجازوا البيع المؤجل بأكثر من سعر النقد بشرط أن يبت العاقدان بأنه بيع مؤجل بأجل معلوم، وبثمن متفق عليه عند العقد .
وقد أجاب ابن تيمية عن سؤال قريب من موضوعنا بالجواز .
سادسًا: إنَّ تأجيل الدين مشروع من حيث المبدأ، يدل عليه قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
  وكذلك السُّنَّة النبوية المشرَّفة حيث روى البخاري ومسلم بسندهما أنَّ النبـي صلى الله عليه وسلّم اشترى طعامًا وأجَّل الثمن .
 كما أنَّ ذلك جرى به العرف من قديم الزمان، وإذا ثبت جواز تأجيل الثمن ثبت جواز تقسيطه .

الخلاصة مع الترجيح
والذي يظهر لنا رجحانه هو أنَّ المراد بالنهي عن صفقتين في صفقة واحدة، وعن البيعتين في بيع، أو بيع واحد، أو بيعة واحدة، وعن الشرطين في بيع، هو معنى واحد يتمثَّل في عقد واحد يتضمَّن أمرين بأن يقول: بعتك هذه البضاعة نقدًا بكذا، ونسيئة بكذا، أما إذا فصلت الصفقتان، بأن وقع العقد على النقد فقط، أو على النسيئة فقط صح العقد.
هذا هو المعنى الراجح الظاهر، ولكنه يوجد لهذه الأحاديث معنى صحيح آخر أشار إليه ابن تيمية، وأصَّله ابن القيم، وهو أنَّ هذه الأحاديث في بيع العينة، والتورُّق.
قال ابن تيمية: «فمتى كان مقصود المتعامل دراهم بدراهم إلى أجل ــ فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى ــ فسواء باع المعطي الأجل، أو باع الأجل المعطى، ثم استعاد السلعة.
وفي السنن عن النبـي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا»، وفيه أيضًا عن النبـي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، أرسل الله عليكم ذلاًّ لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم»، وهذ كله في بيع العينة، وهو بيعتان في بيعة.
وقال صلى الله عليه وسلّم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك»، قال الترمذي: حديث صحيح. فحرم النبـي صلى الله عليه وسلّم، أن يبيع الرجل شيئًا ويقرضه مع ذلك، فإنه يحابيه في البيع لأجل القرض، حتى ينفعه، فهو ربا.
وهذه الأحاديث وغيرها تبيِّن أنَّ ما تواطأ عليه الرجلان، بما يقصدان به دراهم بدراهم أكثر منهما إلى أجل فإنه ربا، سواء كان يبيع ثم يبتاع، أو يبيع ويقرض، وما أشبه ذلك» .
ويقول ابن القيم: هذا الحديث أصل من أصول المعاملات وهو نص في تحريم الحيل الربوية، وقد اشتمل على أربعة أحكام:
الحكم الأول: تحريم الشرطين في البيع، وقد أشكل على أكثر الفقهاء معناه من حيث إنَّ الشرطين إن كانا فاسدين فالواحد حرام، فأي فائدة لذكر الشرطين، وإن كانا صحيحين لم يحرما... وقال القاضي في المجرد: ظاهر كلام أحمد، أنه متى شرط في العقدين شرطين بطل سواء كانا صحيحين أو فاسدين.. أخذًا بظاهر الحديث.. وأما أصحاب الشافعي وأبـي حنيفة فلم يفرقوا بين الشرط والشرطين، وقالوا: يبطل البيع بالشرط الواحد.. وأما الشروط الصحيحة فلا تؤثِّر في العقد وإن كثرت» .
ثم قال ابن القيم: «وكل هذه الأقوال بعيدة عن مقصود الحديث غير مرادة منه.
فأما القول الأوَّل: وهو أن يشترط حمل الحطب وتكسيره، وخياطة الثوب وقصارته ونحو ذلك: فبعيد، فإنَّ اشتراط منفعة البائع في المبيع إن كان فاسدًا فسد الشرط والشرطان. وإن كان صحيحًا فأي فرق بين منفعة أو منفعتين أو منافع، لا سيَّما والمصححون لهذا الشرط قالوا: هو عقد قد جمع بيعًا وإجارة، وهما معلومان لم يتضمَّنا غررًا. فكانا صحيحين. وإن كان كذلك فما الموجب لفساد الإِجارة على منفعتين وصحتها على منفعة؟ وأي فرق بين أن يشترط على بائع الحطب حمله، أو حمله ونقله، أو حمله وتكسيره.

وأما التفسير الثاني: وهو الشرطان الفاسدان: فأضعف وأضعف، لأنَّ الشرط الواحد الفاسد منهيٌّ عنه. فلا فائدة في التقييد بشرطين في بيع، وهو يتضمَّن زيادة في اللفظ، وإيهامًا لجواز الواحد. وهذا ممتنع على الشارع مثله لأنه زيادة مخلَّة بالمعنى.

وأما التفسير الثالث: وهو أن يشترط أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، وأنَّ ذلك يتضمَّن شرطين: أن لا يبيعها لغيره وأن يبيعه إياها بالثمن فكذلك، وأيضًا فإنَّ كل واحد منهما إن كان فاسدًا فلا أثر للشرطين، وإن كان صحيحًا لم يفسد بانضمامه إلى صحيح مثله، كاشتراط الرهن والضمين واشتراط التأجيل والرهن ونحو ذلك.
وعن أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات:
إحداهن: صحة البيع والشرط.
والثانية: فسادهما.
والثالثة: صحة البيع وفساد الشرط.
وهو ــ رضي الله عنه ــ إنما اعتمد في الصحة على اتفاق عمر، وابن مسعود على ذلك، ولو كان هذا هو الشرطان في البيع لم يخالفه لقول أحد، على قاعدة مذهبه، فإنه إذا كان عنده في المسألة حديث صحيح لم يتركه لقول أحد، ويعجب ممن يخالفه من صحاب أو غيره.
وقوله في رواية المروزي: هو في معنى حديث النبـي صلى الله عليه وسلّم: «لا شرطان في بيع» ليس تفسيرًا منه صريحًا، بل تشبيه وقياس على معنى الحديث، ولو قدر أنه تفسير فليس بمطابق لمقصود الحديث، كما تقدَّم.
وأما تفسير القاضي في المجرد، فمن أبعد ما قيل في الحديث وأفسده، فإن شرط ما يقتضيه العقد، أو ما هو من مصلحته، كالرهن والتأجيل والضمين ونقد كذا: جائز، بلا خلاف، تعدَّدت الشروط أو اتَّحدت.
فإذا تبيَّن ضعف هذه الأقوال: فالأولى تفسير كلام النبـي صلى الله عليه وسلّم بعضه ببعض. فنفسِّر كلامه بكلامه. فنقول: نظير هذا نهيه صلى الله عليه وسلّم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة. فروى سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن صفقتين في صفقة».
وفي السنن عن أبـي هريرة عن النبـي صلى الله عليه وسلّم: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما، أو الربا».
وقد فسرت البيعتان في البيعة: بأن يقول: «أبيعك بعشرة نقدًا، أو بعشرين نسيئة»، هذا بعيد من معنى الحديث من وجهين:
أحدهما: أنه لا يدخل الربا في هذا العقد.
الثاني: أنَّ هذا ليس بصفقتين، إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين،
وقد ردَّده بين الأولين أو الربا. ومعلوم أنَّه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن ربا، فليس هذا بمعنى الحديث.
وفسِّر: بأن يقول: «خذ هذه السلعة بعشرة نقدًا وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها، وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالاجلة فهو لا يستحق إلاَّ رأس ماله؛ وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا. ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى، وهذا هو بعينه الشرطان في بيع فإنَّ الشرط يطلق على العقد نفسه؛ لأنهما تشارطا على الوفاء به فهو مشروط، والشرط يطلق على المشروط كثيرًا، كالضرب يطلق على المضروب، والخلق على المخلوق، والنسخ على المنسوخ، فالشرطان كالصفقتين سواء. فشرطان في بيع كصفقتين في صفقة.
وإذا أردت أن يتَّضح لك هذا المعنى فتأمَّل نهيه صلى الله عليه وسلّم في حديث ابن عمر عن بيعتين في بيعة، وعن سلف وبيع. رواه أحمد.
ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع وعن سلف في بيع، فجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع، ومع البيعتين في بيعة.
وسرّ ذلك: أنَّ كِلا الأمرين يؤول إلى الربا وهو ذريعة إليه.
أما البيعتان في بيعة: فظاهر، فإنه إذا باعه السلعة إلى شهر ثم اشتراها منه بما شرط له، كان قد باع بما شرطه له بعشرة نسيئة، ولهذا المعنى حرم الله ورسوله العينة.
وأما السلف والبيع: فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة: فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك.
فظهر سرّ قوله صلى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع»، وقول ابن عمر: «نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع»، واقتران إحدى الجملتين بالأخرى لما كانا سلما إلى الربا» .
وكذلك نرى أنَّ الراجح في معنى «النهي عن بيع وسلف»: هو أن يتضمَّن العقد بيعًا وقرضًا بأن يقول: أشتري منك هذه الدار بكذا على أن تقرضني كذا، أو أشتريها منك وتقرضني كذا. وهو تفسير يختلف عن الصفقتين في صفقة واحدة؛ لأنهما على مبيع واحد، بينما مسألة البيع والسلف تتضمَّن أمرين مختلفين هما: البيع الوارد على شيء، ومبلغ القرض.
ويلحق بالبيع كل المعاوضات المالية كالإِجارة والمضاربة ونحوهما.

هذا والله تعالى أعلم بالصواب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه الفقير إلى ربه
علي محيى الدين القره داغي
الدوحة 14 شعبان 1437ه = 21 مايو 2016م



: الأوسمة



السابق
مراجعات مع القرضاوي (5-6).. الهضيبي مرشدا للإخوان ثورة 23 يوليو والرحلة الشامية(فيديو)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع