البحث

التفاصيل

العودة للمرة الأولى متحدثاً عن الابتلاء والتكفير والعقوبة في مركز فتيحي الطبي بجدة!

الرابط المختصر :

الكاتب:  محمد وائل  

- كيف نفرق بين الابتلاء والبلاء؟ وابتلاء المؤمن والكافر؟

أورد  فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة الأمين العام المساعد لاتحاد العلماء المسلمين عبر عشرين نقطة كل ما يتعلق بمفهوم الابتلاءات في الحياة ـ حسبما نصت آيات القرآن الكريم وسير الأنبياء وتجارب البشر ـ، مشيراً إلى أنَّ سر النجاح يكمن في كيفية تعامل الإنسان مع الابتلاء تعاملاً إيجابياً.

وقال د. العودة ـ في محاضرة بمركز جدة الطبي الدولي مساء الأحد، حول مفهوم "ابتلاءات الحياة"ـ: إن القرآن الكريم تضمن في نصوص يصعب حصرها معنى أنّ الحياة  مبنية على الابتلاءات كما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}، لافتاً إلى أن الإنسان يتكلم عن الإكرام وعن الإهانة من خلال معايير مادية بحتة، إلا أن الله -سبحانه وتعالى- سماها كلها ابتلاء، فهناك ابتلاء بالإكرام (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ)، أو ابتلاء بالتضييق (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)، ثم يقول الله -سبحانه وتعالى-: (كَلَّا) ليس الأمر كذلك ومعاييركم هذه ليست صحيحة.

وأشار فضيلته، إلى أن من أسرار النجاح لكل حيّ على ظهر هذه البسيطة هو أن يتعامل مع هذا الابتلاء تعاملاً إيجابياً بمعنى أن يتعامل مع الممكن حوله وليس مع المستحيل،  لافتاً إلى أن كثيراً من الناس بدلاً من أن تمضي أعمارهم في فعل المستطاع فإنهم يقضوها في تمني المستحيل!.

تحملٌ للبلاء

وأوضح د. العودة إلى أنّ تقبلنا للحياة كما هي يمكن أن نعبر عنه بمستويين، الأول: الصبر؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: « مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ »، والثاني: الرضا، وهو درجة أعلى من الصبر؛ بحيث أن الإنسان يرضى حتى بالمصائب، لتتحول هذه المحن إلى منح.

وحذر فضيلته من أن يصبح التذمر إدماناً لدى البعض؛ وهو الأمر الذي يولّد بدوره حالة الإحباط والعجز والتوتر، الذي نشاهده في كثير من الشباب في مجتمعاتنا.

ألفاظ إيجابية

وبيّن د. العودة إلى أن قضية الألفاظ الإيجابية، تعبر عن جزء من النجاح في الحياة ومواجهة التحديات والله - سبحانه وتعالى- يقول في كتابه الكريم: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} لافتاً إلى أن الله ـ تعالى ـ لم يتكلم عن الأفعال، وإنما عن الأقوال، وذلك لأن الأفعال هي في أصلها أقوال، ومشيراً إلى أنه "ليس هناك فعل في الوجود إلا وكان يوماً ما فكرة تحولت إلى قول نستشير فيه أو نقدم دراسة جدوى ثم تحول بعد ذلك إلى مشروع أو برنامج".

ابتلاءٌ بالخير

وأوضح فضيلته، أن الابتلاء، يكون بالخير وبالشر لأن المقصود منه هو معرفة النتيجة بشكل مختصر، ولذلك فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} والله تعالى يعلم الغيب إلا أنه أراد أن يعلمه شهادة، وأيضاً أن يعلمه الناس

وأضاف، أن الابتلاء بالغنى والفقر، هما سواء، ولذلك كان عمر -رضي الله عنه- يقول: "الغنى والفقر مطيتان والله ما أبالي أيهما ركبت"، وهو ما ينطبق مثلاً على الصحة والمرض، أو الشهرة والخمول، أو الغنى والفقر.

وأضاف، أن الصحة والمرض هما مطيتان ولا يدري العبد أيهما أقرب إلى الله تعالى زلفى، مستشهدا بنبي الله أيوب -عليه الصلاة والسلام- الذي كان نموذجاً للإصابة بالمرض وقد مكث حوالي عشرين سنة وهو مريض مبتلى وقد وصفه الله تعالى بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.

محنة السياب

ولفت د. العودة إلى محنة شاعر العراق بدر شاكر السياب، الذي كان شيوعياً إلا أن المرض قاده إلى الله حينما أصيب بالسل الذي أتلفه، لافتاً إلى أنّ دواوينه وأشعاره وقصائده أيام الشباب والصحة والعافية فيها الكثيرُ من الاندفاع والفسوق إلا أن ديوانيه "التوبة" و"الندم"، فيهما لجوء ورجوع إلى الله حيث يقول:

لكَ الحَمدُ مهما استطالَ البلاء ..ومهما استبد الألم

لكَ الحمدُ إن الرزايا عطاء.. وإن المَصيبات بعض الكَرَم

ألم تُعطني أنت هذا الصباح..وأعطيتني أنت هذا السَّحر؟

فهل تشكر الأرض قطر المطر...وتجزع إن لم يجدها الغمام؟!

سنين طوال وهذي الجراح.. تمزّق جنبي مثل المدى

ولا يهدأ الداء عند الصباح

ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى...

ولكنّ أيوب إن صاح صاح

لك الحمد يا رامياً بالقدر..ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاء!

وأشار إلى أن تضرعه إلى الله لم يقده إليه عقله وإنما قاده إليه مرضه ومعاناته وابتلاؤه فهو ينادي ويخاطب ربه بلغة مؤثرة يقول في بعض الأشعار في ثنائه على الله سبحانه وبحمده يقول ضمن دعائه

ابتلاءٌ بالطاعات

ولفت فضيلته إلى أن هناك معنى آخر للابتلاء بالحسنات والسيئات وهو مفهوم الابتلاء بالمعاصي أو بالطاعات، بمعني الصبر، لأن الإنسان قد يطيع الله تعالى ولكن لا يصبر، والأهم من فعل الطاعة هو التعود على المحافظة عليها.

وحذر فضيلته، من الاغترار أو العجب ، لأنهما محبطان للعمل، وكون الإنسان يصاب بما أسمية -أحياناً- غرور التدين كأن يربي الفتى لحيته أو أن تلتزم الفتاة بحجاب شرعي، مما قد يولّد نوعاً من الغرور والشعور بالفوقية على أناس آخرين ، ولهذا  يقول الله تعالى: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) وربما رفع الله تعالى الإنسان بسريرة في قلبه أو بنيّة صالحة أو حتى بانكسار وشعوره بالضعف، وربما وضعه بالشعور بالتفوق أو الكبر.

صبرٌ عن المعصية

وبين أن من قضية الابتلاء؛ الصبر عن المعصية، خاصة وأن المعاصي قد تكون متاحة الآن ، بشكل أكثر من أي يوم مضى وذلك مع انتشار وتقدم وسائل الاتصال، من قنوات أو مواقع إلكترونية، تتيح عملية التواصل بشكل غير مسبوق، مشيراً هنا إلى أهمية التربية القوية وليست التربية الهشة التي نشأ الإنسان فيها على تمنى الشر الذي لا يستطيع الوصول إليه.

وأشار هنا إلى قضية التوبة لأن الله تعالى علم أنه ما من عبد إلا ويخطئ حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ »، وفي حديث لا بأس بإسناده حسَّنه بعض أهل العلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (ما من مؤمن إلا وله ذنب هو مقيم عليه أو يعتاده المرة بعد المرة، إن المؤمن خُلق مفتناً تواباً نسياً إذا ذُكر ذكر).

وقال د. العودة: إن قضية الخطأ هي جزء من تكوين الإنسان، وأصلاً أبونا آدم - عليه الصلاة والسلام- إنما خرج من الجنة بذنب، ونحن ورثنا الطبائع من آدم -عليه الصلاة والسلام- ولكن على الإنسان أن يدرك أن هذا لا يعني أبداً أن يستسلم الإنسان للخطأ

خوفٌ ورجاء

وأضاف أنه "على الإنسان أن يكون بين الخوف والرجاء، وألا ييأس حتى أقول: لو أن الإنسان أخطأ ألف مرة أو حتى عشرة آلاف مرة وبعد كل مرة يتوب عليه أن يعوّد نفسه أنه أيضاً يتوب، وربما يختم الله له بتوبة، وربما مع كثرة الاستغفار وكثرة التوبة يلطف الله تعالى به، وفي حديث صحيح النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَذْنَبَ عَبْدِى ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ.. وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ »".

أشد من الذنب

وأضاف أنه على العبد ألا ييأس من رحمة الله تعالى لأنه لا يوجد ذنب في الدنيا أعظم من اليأس من رحمة الله تعالى، فلا {إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.

ولفت فضيلته إلى أنّ المعصية يمكن للإنسان النظر إليها بإيجابية، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: « وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ »، وفي رواية: (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من الذنب العُجْب). مشيراً إلى أن الذنب -أحياناً- يقود الإنسان إلى انكسار وذل، بين يدي الله فينفتح له باب عبودية صادقة واستغفار ربما أفضى إلى توبة وما هو أعظم من التوبة من صدق اللجوء إلى الله -سبحانه وتعالى- والإيمان به والتوكل عليه.

ابتلاءٌ بالمسؤولية

وأوضح فضيلته أن هناك ابتلاءً بالمسؤولية، بمعنى مسؤولية التكاليف الشرعية لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وقال: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، يعني: التزم ونجح في الابتلاء والاختبار.

وأضاف، "إذاً فالتكاليف الشرعية ابتلاء؛ الصلاة ابتلاء وكون الإنسان وهو ساجد يقول سبحان ربي الأعلى والذي إلى جواره لا يسمعه ولا يراه هذا نوع من الابتلاء كما في كونه يغتسل من الجنابة أو يتوضأ للصلاة أويصوم.

ولفت إلى أنّ هناك نوعا آخر هو الابتلاء بالمسئولية الدنيوية كالإدارة، والوزارة، والحكم حتى الابتلاء بالمال ، ولذلك نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: « مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ »، وفي لفظ : "ما من والٍ يلي أمر اثنين فما فوقهما"، إذاً ليست القصة مقتصرة على حاكم -مثلاً- أو على وزير أو على أمير، وإنما تشمل كل من يلي ولاية حتى لو كانت محدودة.

ابتلاء بالحب

وبين فضيلته أن من أخطر أنواع البلاء هو الابتلاء بالحب، وقد قال الله تعالى في تنزيله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)، فالقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، وفي القرآن الكريم الله تعالى ذكر لنا نموذجاً من الابتلاء بالحب وهو قصة يوسف -عليه الصلاة والسلام- وامرأة العزيز وكيف أنها أحبته وتعلَّقت به وآل بها الأمر إلى أن تبوح بذلك، وتقول لجليساتها: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}.

وقال: إن هذا الابتلاء هو من الأشد لأنه في المنطقة الخطرة ولأن القلب محل نظر الرب سبحانه وأيضاً «أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» وإذا كان هناك طريق للوصل الحلال «لَمْ نَرَ لِلْمُتَحَابَّيْنِ مِثْلَ النِّكَاحِ» كما قال الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- وإذا لم يكن طريق فعليه أن يتدبر أمر الخلاص.

وأشار إلى أن من طبيعة الإنسان الرجل ميله للأنثى والعكس بالنسبة لها وقد يكون الارتباط نشأ من أنهما التقيا في مكان ما، غير أنّ هذا لا يعني أنه ليس في الوجود كله شخص آخر قد يُحدث نفس الدرجة من العاطفة.

فَقالوا شفاء الحبّ حبٌّ يُزيلهُ             مِن آخر أو نأيٌ طويلٌ على هجرِ

أَو اليأس حتّى تذهل النفسُ بَعدما    رَجت طَمعاً واليأس عونٌ على الصبرِ

الصبر على الأذى

وأضاف، أن من مسألة الابتلاء أيضا الابتلاء بالأذى مشيرا إلى أنه ليس من العلماء من لم يقع له سب حتى إنّ أبا بكر -رضي الله عنه- أفضل هذه الأمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- قد تعرض للسب، حتى وُجدت مجموعات وطوائف من المسلمين كان سبُّ الشيخين ـ أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما ـ جزءاً من ثقافتهم التي يتلقَّاها الصغار والكبار في أحيان كثيرة، لافتاً إلى أنه لا بد أيضا من النظرة الإيجابية لهذا السَّب فهو زيادة في الحسنات ووصول مرتبة لا تستحقها بعملك، "فانظر إلى السَّب بأنه يعطيك توازناً بدلاً من أن تكون لا تسمع إلا صوتاً واحداً يبالغ في المديح والثناء والإطراء".

ما وراء الابتلاء

وبين د. العودة أن وراء الابتلاء رفعة الدرجات في الدنيا لأنه ليس كل ابتلاء هو علامة سخط كما يظن البعض، وهناك حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-يجب أن لا يمر مرور الكرام، عندما سئل: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَىُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً قَالَ «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِى دِينِهِ صَلاَبَةٌ زِيدَ فِى بَلاَئِهِ..». وأصاف، "إذاً الابتلاء هو رفعة في الدرجات وهو تعبير -أحياناً- عن منزلة هذا الإنسان عند الله عز وجل".

وأشار إلى  أن ما وراء الابتلاء أيضاً التكفير عن السيئات، ولذلك قالت عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الصحيح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» إذاً هنا الابتلاء تكفير للسيئات، ورفعة للدرجات.

اختبار للمستقبل

وأضاف، أن المعنى الثالث للابتلاء هو الاختبار لمستقبل الإنسان بمعنى أنه ليس تعبيراً عن الماضي كالتكفير عن الذنوب مثلاً وإنما هو ابتلاء لمستقبل الإنسان كما قال (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، ومثلما قال الله عن بني إسرائيل: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ). وأضَاف أن من فوائد الابتلاء الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى- والتوبة إليه، و تكفير الذنوب والتدريب على الصبر، لأن الإنسان أحياناً يظن أنه لا يصبر فإذا ابتلي رزقه الله الصبر.

دفع البلاء

وأوضح فضيلته أن دفع البلاء يكون بالدعاء والانكسار إلى الله تعالى والخروج من عباءة الذات؛ لأنه لا شيء يحول بين الإنسان وبين الله مثل الكبرياء، ولذلك الله تعالى يقول «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِى وَالْعَظَمَةُ إِزَارِى فَمَنْ نَازَعَنِى وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِى النَّارِ»، ويقول: «لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ». وأضاف على الإنسان أن يتعلَّم من الابتلاء الانكسار لله -سبحانه وتعالى- والتواضع ومعرفة قدر النفس.

وأوضح أن من عوامل دفع البلاء أيضاً الصدقة والإحسان لأنه إذا أحسنت إلى الناس أحسن الله تعالى إليك، والجزاء من جنس العمل سواء كان الإحسان بالصدقة، مساعدة المحتاجين، الكلمة الطيبة صدقة، بر الوالدين صلة الأرحام، الإحسان للأيتام الفقراء المساكين.

ابتلاء أم عقوبة

وأوضح فضيلته أن الابتلاء ـ كما سبق ـ يكون بالخير والشر ويكون الابتلاء رفعة درجات ويكون كفارة للسيئات ويكون اختباراً، أما العقوبة فهي نوع خاص من الابتلاء وهو الابتلاء المبني على مؤاخذة الإنسان على ذنب فعله، على سبيل المثال: شاب ارتكب الحرام وحصل من جرّاء ذلك أن أصيب بمرض فقدان المناعة، فهذا يغلب على الظن أنه نوع من العقوبة، ولا مانع طبعاً مع العقوبة أن يكون كفارة.

وتساءل فضيلته، متى نحكم بأن هذا الابتلاء عقوبة؟ مشيراً إلى أن كثيراً من الناس يتسرعون أحياناً، ويظنون أن الله تعالى يترصَّد لنا! وهذا مفهوم خاطئ، لا يتناسب مع التصور الإسلامي العظيم عن حقيقة الإلوهية، بل ينبغي أن نستشعر بشكل أساسي رحمة الله وسعته وفضله الله، وأنه تعالى صبور حتى الذين قالوا: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) ، و(إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) الله يقول: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ). ولذلك على الإنسان أن لا يستعجل أبداً في قضية إنه والله هذه عقوبة؛ لأنك كون أن تتكلم عن فعل الله -سبحانه وتعالى- ويعني إذا كنا نعرف إنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول في الحديث: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ»، فمع ذلك لا ينبغي أن نتسرَّع بوصف الابتلاء على أنه علامة بغض من الله للعبد أو عقاب بل قد يكون علامة حب. وأضاف فضيلته، حتى ولو كان البلاء عقوبة عليك فلا تقلق لأن العقوبة لا تعني الغضب بل تعني الرحمة والتطهير.

وأوضح قضيلته أن النصوص الشرعية لفتت إلى أن المعرفة تكون بالنظر إلى المستقبل، فإذا كان من أثر وثمرة هذا البلاء أن الإنسان صبر وتاب وأناب ورضي، فهذا دليل على أن البلاء نعمة، وأما إذا جذع هذا الإنسان وتسخَّط وتذمر وتضجر، فهو دليل على أن البلاء مصيبة عنده. وأشار إلى أن هذا لا يتم من خلال تقليب صفحات الماضي واستدعاء الأرشيف، وإنما يتم من خلال النظر إلى المستقبل والثمرة والنتيجة التي ترتبت على ذلك.

بلاء وابتلاء

وأوضح فضيلته أن الفرق بين البلاء والابتلاء ـ كما يقول بعض العلماء ـ أن البلاء هذا للكافر والمنافق، وأما الابتلاء فهو للمؤمن ويستدلون بقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}, ولكن الذي يظهر لي أن البلاء والابتلاء متقاربة؛ لأني وجدت في القرآن الكريم قول الله -سبحانه وتعالى-: )لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فعبَّر بالبلاء هنا، وعبَّر بعد ذلك بحسن العمل {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}.

وقوله تعالى في بني إسرائيل:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إذاً فالمولى -سبحانه وتعالى- عبَّر بالبلاء (وَبَلَوْنَاهُمْ) مع إنه قال (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ).

وأضاف، "إذاً البلاء قد يطلق على ما يصيب المؤمن مثله في ذلك مثل الابتلاء، لكن في نظري أن هناك فرق لطيف أقرب إلى اللغوي، وهو أن البلاء يطلق على ذات المرض أو المصيبة -مثلاً- الحمى بلاء، الفشل الكلوي بلاء، الوباء الكبدي بلاء، وهكذا تستطيع أن تقول أن المصيبة هي بلاء، خسارة المال هي بلاء، لكن إذا تعلَّقت بالمؤمن وصولها إليك أو نزولها بك هذا يسمى ابتلاء بالنسبة لك فهو ابتلاء للمؤمن، ولذلك الغالب أن الإنسان يسمى مبتلى ولا يسمى مبلو -مثلاً- أو مبلي ، فإذاً الابتلاء هو تعلق الفعل بالإنسان، أما البلاء فهو الفعل ذاته".

وأشار إلى أن في البلاء معنى التحدي عند الإنسان (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ) لأنه قد يُحفّز الطاقات شريطة أن يكون عند الإنسان قدرة على مواجهة هذا البلاء، لافتاً إلى أن روح الإنسان العالية؛ والتفاؤل هما سبب التكيف مع المستجدات.

واختتم د, العودة بهذه الكلمة.. "بعضهم يتكدَّر حينما يتذكر المخاطر والبلايا والرزايا المحيطة والمحتملة والمنتظرة به وبالحياة من حوله، فيُنغص هذا عليه عيشه ومتعته، أما أنا فلسفتي في الحياة أقول: أَحْسِن الاستمتاع بالنعمة قبل رحيلها".

يشار إلى أن المحاضرة جاءت في المركز الطبي الدولي بمدينة جدة، وذلك أثناء عقده دورة قام فيها بتفسير (جزء الأحقاف) ضمن سلسلة إشراقات قرآنية، والتي اختتمت مساء السبت بتفسير سورة (ق)، وقام فضيلته  بتكريم الحاضرين للدورة، مثمّناً جهود اللجنة العلمية بمسجد الملك فهد، حيث قدم الشكر للجنة، مؤكدًا أنها كانت وراء نجاح الدورة.


: الأوسمة



التالي
القرضاوي: بأي منطق تحكم أسرة الأسد شعبا طوال هذه المدة
السابق
القرضاوي ينتقد علماء السلاطين ويطالب باستعادة فقه الثورة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع