البحث

التفاصيل

القرآن الكريم وشؤون الحكم والسياسة (محمد علي دبور)

الرابط المختصر :

قد يكون هذا العنوان صادمًا لكثيرين، وقد ينكره البعض لأنهم يرون فيه إقحامًا للقرآن الكريم في أمر لا علاقة له به، وأن الابتعاد بالقرآن الكريم عن مثل هذه الأمور هو الأسلم والأقرب إلى الورع، والحقيقة أن هذا من تلبيس الشيطان على المسلمين ومن المفاهيم المغلوطة التي تعايشنا معها فترة طويلة من الزمن، وحان الوقت لنتخلص منها، ونتعامل مع القرآن المعاملة اللائقة به، فالقرآن لم ينزل من عند الله لمجرد القراءة والتعبد به - وإن كان هذا مقام كبير وعبادة عظيمة – وإنما نزل أيضًا لنتدبر آياته، ونفقه كلماته، ونتأمل في ألفاظه، ونستخرج منه الأحكام والتشريعات، ونفهم ما ورد فيه من قضايا وإشارات، يقول ربنا جل وعلا {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (سورة ص، الآية 29)، فالتدبر والتأمل في كلمات القرآن الكريم من أسمى الوسائل للتعامل معه.

ورغم أن القرآن الكريم كتاب عبادة – في المقام الأول – إلا أنه اهتم بكل ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة، فهو دستور للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تضمن إشارات لكل جانب من جوانب الحياة وترك التفاصيل لميادين تشريعية أخرى، وكان مما تضمنه القرآن إشاراتٍ كثيرةً عن طريقة الحكم، وسياسية الرعية، وواجبات الحاكم، وطريقة المعارضة الرشيدة، وليس هذا تحميلاً للنصوص القرآنية أكثر مما تحتمل كما يحلو للبعض أن يزعم، بل هي الحقيقة الناصعة والنصوص الواضحة لكل ذي عقل، ولكل صاحب تفكير مجرد بعيد عن الهوى والتعصب والأحكام المسبقة.

وقد ظهر اهتمام الإسلام جليًّا بشئون الحكم والسياسة من خلال آيات القرآن الكريم، حيث يقدم لنا هذا المصدر الجليل العديد من الآيات التي تثبت لنا اهتمام الإسلام بشئون السياسة والحكم.             

فمن النصوص القرآنية التي أشارت إلى جانب من جوانب شئون الحكم والسياسة قوله تعالى: {إنَّ الله يأمُركُم أنْ تؤدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها وإذا حَكمتُم بين النَّاسِ أن تحْكُمُوا بالعَدْلِ} (الآية رقم 58 من سورة النساء).                      

فإن هذه الآية الكريمة تخاطب الحاكم المسلم معلنةً له ما يجب أن يلتزمه في الحكم بين الناس وإدارة شئونهم ورعاية أحوالهم، كما أنها - مع غيرها من الآيات القرآنية التي تنص على العدل والقسط باعتبارهما أساس الحكم الصالح والإدارة السليمة – تعنى أنه ليس لحاكم أن يحكم بظلم أبدًا؛ لأن الله تعالى رسم الطريق القويم العادل، فإن حكم الله هو "أحسن الأحكام، والشرع هو ما أنزل الله، فكل من حكم بما أنزل الله فقد حكم بالعدل". ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، 3/31).          
                                                                 

أما الآية الثانية فإن الله عز وجل يخاطب فيها الرعية بقوله: {يا أيُّهَا الذِين آمَنُوا أطيعُوا الله وأطيعُوا الرَّسُول وأُولى الأمْر مِنْكُم فإنْ تنازعتُم في شيء فردُّوه إلى الله والرَّسُول إنْ كُنْتُم تُؤْمِنُون بالله واليوْمِ الآخِر} (الآية رقم 59 من سورة النساء). 

فإن هذه الآية تكمل الهدف الذي تعنيه الآية الأولى، فأولاهما موجهة لأولى الأمر حيث أوجبت عليهم الحكم بالعدل، والثانية خاصة بالرعية ليطيعوا ولاة أمورهم فيما أمر به الله، فإذا أمروا بمعصية فلا طاعة لهم، كما تلفت نظر الجماعة المسلمة إلى أنه في حالة الاختلاف ينبغي الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه. "فإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصحيحة" (ابن تيمية: السياسة الشرعية، ص 3).                                 

صحيح أن "أولى الأمر" في هذه الآية يمكن أن تنصرف إلى كل من يحمل مسئولية فرد أو جماعة، أبًا كان أو زوجًا أو معلمًا.... الخ، ولكن إذا صح لهذه الكلمة أن تنصرف إلى هؤلاء فأولى بها أن تنصرف إلى الولاية العظمى في الإسلام وهى ولاية أمر المسلمين أو رئاسة الدولة الإسلامية؛ فللرئيس المسلم على رعيته حق الطاعة شريطة أن يكون هو ملتزمًا بمبادئ الإسلام وتوجيهاته، أي مطيعًا لله وللرسول كما يشير إلى ذلك صدر الآية.                                                              

وإذا ذهبنا إلى إحصاء الآيات القرآنية الكريمة التي تحدثت عن الحكم وأمرت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالتزام العدل والقسط في الحكم بين الناس عامة وليس بين المؤمنين فقط أدركنا مدى اهتمام الإسلام بالنزول إلى واقع الناس والفصل بينهم في المنازعات، فإنه من أوجب واجبات الخليفة – كما حددها الماوردى في كتابه "الأحكام السلطانية"- تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النَّصَفَةُ، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:     

{إِنَّا أنْزَلْنَا إليْكَ الكِتَابَ بالحقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله} (من الآية رقم 105 من سورة النساء).  

{وَإِنْ حَكَمْتَ فاحْكُم بَيْنَهُم بِالقِسْط} (من الآية رقم 42 من سورة المائدة).  

{فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ الله} (من الآية رقم 48 من سورة المائدة). 

{وَأَن احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ الله} (من الآية رقم 49 من سورة المائدة). 

بالإضافة إلى ذلك فإن القرآن الكريم بوصفه دستورًا شاملاً لحياة الجماعة المسلمة اشتمل على الأساسيات العامة للحكم الإسلامي الراشد، والتي تَضْمَن للرعية الحياة الكريمة والحرية في اختيار من يحكمها، فتحدث عن واحدة من أهم قواعد النظام الإسلامي، وإحدى الركائز الأساسية للحكم ألا وهى الشورى، ووجه إليها أنظار المسلمين بقوة ليبتعد بهم عن فكرة الحكم الشمولي المطلق والاستبداد بالرأي والديكتاتورية التي هي رأس الفساد وأهم أسباب انهيار المجتمعات، فمن النصوص القرآنية التي اهتمت بالحديث عن الشورى قوله تعالى عند الحديث عن الصفات الملازمة للجماعة المسلمة: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم)) (من الآية رقم 38 من سورة الشورى).                               

ومن المهم أن نلاحظ هنا أن "كلمة (أمر) التي وردت في النص تشير إلى كافة الأمور ذات الطابع العام؛ ومنها بطبيعة الحال الأسلوب الذي تُشَكَّلُ به الحكومة الإسلامية؛ أي أنها تشير إلى المبدأ الانتخابي الذي تقوم على أساسه سلطة الحكومة، يضاف إلى ذلك أن الآية لا ترسى فقط قاعدة الشورى كأساس لكل مظاهر الحياة السياسية، بل تعتبر الشورى جزءًا لا يتجزأ من أسلوب الحكم نفسه".                                                    

وقد وردت هذه الصفة المتميزة ضمن آية كريمة تعدد أمهات الفضائل التي تنماز بها الجماعة المسلمة كما سبق أن أشرنا، وهذه الآية هي قوله تعالى: {وَالذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهم وأقامُوا الصَّلاة وأَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُم وَمما رَزَقْنَاهُم يُنْفِقُون} (الآية رقم 38 من سورة الشورى). ويقول الإمام البيضاوي في شرحها أن هذه الجماعة ليس فيها من ينفرد برأي، بل تتشاور، وهذا التشاور دليل فرط التدبر واليقظة في الأمور (تفسير البيضاوى، ص 488).

ونلاحظ أن الآية الكريمة وضعت الشورى بين إقامة الصلاة ودفع حقوق الفقير في المال، وهذا يبرز مكانة الشورى في الإسلام، كما أن تكليف الرسول بالشورى وعدم الانفراد بالرأي فيما لا وحى فيه مرجعه بشرية الرسول التي تجعله لا يستغنى عن غيره من الناس فيما لا وحى فيه. وهذا التكليف يظهر جليًّا في قوله تعالى آمرًا رسوله الكريم باتخاذ الشورى والمشاورة أساسًا للحكم الراشد الصحيح: ((وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ)) (من الآية رقم 159 من سورة آل عمران).             

وقد أجمع المنصفون من المفكرين في الشرق والغرب على أن الشورى ابتكار إسلامي، وأن الديكتاتورية كانت طبيعة الحكم في المجتمعات بالعالم قبل الإسلام، وأن كثيرًا من المجتمعات الغربية ظلت تعيش على الديكتاتورية لا تعرف غيرها أسلوبًا للحكم فترة طويلة بعد ظهور الإسلام، وأن التحول للشورى أو ما سمى في الغرب بالديمقراطية كان صدى للفكر الإسلامي الذي انتقل للغرب عن طريق معابر كثيرة منها الحروب الصليبية وقبرص والأندلس، وظل ينمو يومًا بعد يوم حتى سيطر على الحياة السياسية هناك.

كما اهتم القرآن الكريم كذلك بعنصر مهم من عناصر السياسة والحكم ألا وهو عنصر المعارضة، وهذا العنصر نجده واضحًا في مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حيث نجد في هذا المبدأ أساسًا للمعارضة الرشيدة في الإسلام، ويظهر هذا في قول الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُم أُمَّة يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ ويَنْهَونَ عن المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُم المُفْلِحُونَ} (الآية رقم 104 من سورة آل عمران). فمسئولية الأمة أن تقوم بتوجيه الحاكم، وأن تعترض على سياسته إذا جاوز العقد الذي أبرمته معه، وأن تَرُدَّه إلى الحق.  

ويجب أن ننبه هنا إلى أن هناك من المسلمين من يتعامل مع مبدأ المعارضة بحساسية شديدة، فيرى أن كل معارضة أو رفض لسياسة ولي الأمر أو مَنْ حوله من المسئولين هي خروج على الحاكم، وهذا – في رأيي – فهم عجيب وتعسف شديد، فلو كان هذا الفهم صحيحًا لكان الأولى بالمسلمين أن يلتزموا سياسة الخنوع والخضوع لولي الأمر حتى وإن كان فاسدًا جائرًا ظالمًا، ولو كان هذا الفهم صحيحًا لضاع مضمون حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ((أفضل الجهاد من قال كلمة الحق عند سلطان جائر)) (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه)، ولو كان هذا الفهم صحيحًا لما كانت هناك قيمة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام.

كما أنه لا يمكن أن نضع قالبًا معينًا أو شكلاً ثابتًا للمعارضة عمومًا، فالمعارضة قد تكون بإصدار بيان، أو بمظاهرة بضوابطها الشرعية، أو بوقفة احتجاجية بضوابطها الشرعية، أو باعتصام.....إلى غير ذلك من الوسائل المعاصرة، فهذا كله مشروع طالما أنه في إطار الضوابط الشرعية التي حددها الإسلام.

ثم لماذا نحكم على كل اعتراض على سياسة بأي أسلوب مما سبق ذكره أنه خروج على الحاكم؟ وأين موقع النية من هذا العمل؟ وقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنما الأعمال بالنيات....))، إن الذين اعترضوا بأية وسيلة من الوسائل سابقة الذكر إنما اعترضوا لتصحيح خطأ، أو لتنبيه ولي الأمر أو المسئول عن سياسة خاطئة أو ظلم واقع على فئة معينة، وهؤلاء لم يرفعوا أبدًا شعار الخروج على الحاكم، ولم يكن هذا قصدهم من الاعتراض، لذلك من الظلم أن نصمهم به، وهم – في الحقيقة – بعيدون عنه تمامًا. 

فالإسلام مع كل معارضة إيجابية هدفها التصحيح والتصويب وإعادة الحق إلى أصحابه، فالمعارضة لا تكون في كل صورها خلعًا للطاعة أو خروجًا عن الجماعة.

ويطول بنا المقام لو أردنا أن نستقصى عناصر الحكم والسياسة الواردة في آيات القرآن الكريم، ويكفى ما ذكرناه للرد على من يزعمون أن آيات القرآن الكريم تكاد تخلو من توجيهات مفصلة عن إدارة الدولة وشئون الحكم والسياسة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،،


: الأوسمة



التالي
اختلاف بلا خلاف (ماهر أبو عامر)
السابق
سينتصر المشروع الإسلامي بنا أو بغيرنا!

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع