البحث

التفاصيل

جريمة شهادة الزور وعقوباتها في الفقه الإسلامي (عبد المنعم التمسماني)

الرابط المختصر :

  معنى شهادة الزور وخطورتها: 

  شهادة الزور معناها: أن يشهد المرء بما لا يعلم عامدا ولو طابق الواقع. وقيل: هي الشهادة بالكذب.. وتعتبر من أبشع الرذائل، وأشنع المعاصي، وأفحش الآثام، وأعظم الموبقات، وأكبر الكبائر.. ويكفي للدلالة على فظاعتها وخطورتها أن رب العزة سبحانه قرن النهي عنها بالنهي عن عبادة الأوثان في محكم القرآن، فقـال تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الـزور}. وقال جـل وعلا – واصفا عباده المؤمنين المتقين -: {والذين لا يشهدون الـزور}، أي: لا يقيمون الشهادة الباطلة، أو لا يحضرون محاضـر الكذب. وفي الصحيحين عن أبـي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللـه :  ألا أنبئكـم بأكـبـر الكبائـر (ثلاثا)؟ «قلنا : بلى يا رسول الله، قـال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الـزور وشهـادة الـزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.

 فجلوسه عليه الصلاة والسلام بعد اتكائه يشعر باهتمامه الكبير بهذه الآفة الخطيرة (شهادة الـزور)، ويفيد تأكيد تحريمها، وعظم قبحها. وسبب اهتمامه المتزايد بها – كما قال أهل العلم – هو: كونها أسهل وقوعا على الناس، والتهاون بها أكثر، والحوامل عليها كثيرة، كالعداوة والحسد وغير ذلك، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها. وغير خاف ما يترتب على شهادة الزور من مفاسد وشرور، منها: مناصرة الظلم، وإبطال الحقوق، وإيثار الصدور، وشحن القلوب بالضغائن والإحن والأحقاد، وحملها على استباحة الحرمات، وغير ذلك من ألوان الفساد الاجتماعي والفسوق الديني.. 

- فشاهد الزور إنسان حقير دنيء سافل، قد فسدت طويته، وسقم ضميره، ودَوِي قلبه، وانحرفت فطرته، وارتكست نفسه، وصار مستعدا لأن يدوس كل القيم والفضائل، ليظفر ويحتفظ بما أبدله بدينه من حطام الدنيا الزائل.

- وشـاهد الـزور خـوّان أثيـم، وله عند الله العذاب الأليم. قال تعالى : {إن الله لايحب من كان خوانا أثيما}، وقال النبي الأكرم: لا إيمان لمن لا أمـانة له.

- وشـاهد الــزور غشّـاش مكّـار كـذّاب، ونبينـا يقول: من غشّنا فليـس منّـا.  ويقول عليه الصلاة والسلام: إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا. 

- وشاهد الزور يجني على نفسه أولا ، فيلبسها لباس الخزي والعار والذل والاحتقار، ويعرضها لعقاب المنتقم الجبار. 

ثم يجني على المشهود عليه بإلحاق الضرر به، وقهره وغلبته بالباطل، وحرمانه من حقه، وإيغار صدره عليه.. والله تعالى يقول: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى}. ثم  يجني على المشهود له بإعانته على الباطل والجور والعصيان، وربنـا جل وعـلا يقـول: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ثم هو يجني أيضا على المجتمع برمته، بحيث يسهم في إفساده وتخريبه وتهديد كيانه وإسقاطه من بين المجتمعات الراقية، ذلك أن أي مجتمع تنتشر وتتفشى فيه هذه الآفة الخطيرة وهذه الجريمة الشنيعة يكون عرضة للارتكاس والانتكاس، والتقهقر والانحطاط، والانحدار والسقوط..!! 

 وعموما، فإن شاهد الزور يعتبر مفسدا في الأرض، والله عز وجل يقول: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}، ويقول سبحانه : {والله لا يحب المفسدين}، ويقول عز من قائل: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين} . 

- ومن أبشع صور شهادة الزور: أن يشهد شخص لمترشح، غير مؤهل علميا ولا عمليا، وغير مرضي السيرة والسلوك، بالصلاح والاستقامة والإخلاص والكفاءة.. فيبيع له صوته وذمته، ولا يكتفي بذلك، بل يتعاون معه على الباطل بتحريض غيره من الناس وإغرائهم ببيع أصواتهم له مقابل الحصول على عرض من الدنيا تافه وخسيس!! وربنا تبارك وتعالى يقول: {وأقيموا الشهادة لله}.

إن مما يؤسف له جدا أن نلفي فئات عريضة من أبناء وبنات مجتمعنا من الرعاع الجهلة الأغرار يستهينون بالأمانة، ويستجيبون لإغراءات شياطين الإنس، فيعطون أصواتهم لمن لا يستحقها  على أساس نفعي مصلحي محض، وقد يكون هذا الذي يزكونه ويبيعون له أصواتهم من الخونة الانتهازيين الذين لهم سوابق في الفساد والإفساد واللعب والضحك على الجماهير..!!. ولعل من أسباب ذلك أن تلك الفئات من الأغبياء لا يتعاملون، سلبا أو إيجابا، مع ما يبشر به ويروج له (المترشح) من مبادئ وأفكار، وما قد يطرحه من برامج ومقترحات عملية لحل بعض المشكلات التي تتخبط فيها البلاد، وما أكثرها، بل يتعاملون مع شخصه، فإن كان ممن يرجى منه نفع مادي ومصلحة شخصية، فهو العدل المرضي الذي يستحق أن يزكى ويشهد له وتباع له الذمم، أما إن كان على عكس ذلك، فهو الخائن المشهود عليه بالزور والكذب والافتراء، وإن كان من أزكى الصلحاء وأتقى الأتقياء!!، وصدق الشاعر إذ يقول:

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم         فأقم عليهم مأتما وعويلا !

ولا يتوهمن أحد أنني أقصد بمـا ألمعت إليه الدعاية لحزب ما أو لشخص ما ، فهذا ليس في الحسبان ، بل غاية ما أرمي إليه هو بيان فظاعة وبشاعة وحرمة تلك السلوكيات التي بات يستمرئها الكثير من الغافلين والغافلات، والتنبيه على ضرورة اعتماد المعايير الشرعية في التزكية والشهادة والاختيار ،بصرف النظر عن كون المزكى والمشهود له من هذا الحزب أوذاك، وإلغاء وإنكار كل المعايير غير الشرعية التي هي المتحكمة الآن – للأسف الشديد - في إناطة الكثير من المهام والمسؤوليات بأناس ليسوا أهلا لها وأحق بها، كما أسلفنا، من مثل القرابة، والصداقة، والمصلحة، والنفعية، والزبونية، وغير ذلك من الاعتبارات المرفوضة شرعا، لما تفضي إليه من فساد وخراب.. 

عقوبات شاهد الزور في الفقه الإسلامي: 

- هذا، ولما لم يرد من الشارع عقاب دنيوي معين ومحدد لجريمة شهادة الزور، تعين إدراجها في نطاق الجرائم الموجبة للعقاب التعزيري المفوض إلى اجتهاد الحاكم أو من ينوب عنه. 

وفي هذا السياق، قرر الفقهاء معاقبة المرتكب لهذا الفعل الإجرامي الخسيس، لكنهم اختلفوا في كيفية تعزيره: فقال أبو حنيفة – رحمه الله تعالى –: يكتفى بتشهيره على الملأ، ولا يضـاف إلى ذلك أي نوع من أنـواع العقوبـات التعزيرية الأخرى، وهو مشهور المذهب، وعليه الفتوى. وزاد الصاحبان: أنه يوجع ضربا ويحبس.  قلت: وهو مذهب الشافعية والحنابلة.  قال الشيرازي: وإذا ثبت أنه شاهد زور، ورأى الإمام… أن يشهر أمره في سوقه ومصلاه وقبيلته، وينادى عليه أنه شاهد زور فاعرفوه  فعل… وقال ابن قدامة: فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنه شهد بزور عمدا، عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم… وذهب فقهاء المالكية إلى ضرورة التشديد على شاهد الزور ومؤاخذته بأنواع شتى مـن العقوبات التعزيرية، من ضرب، وحبس، وتشهير، إضافة إلى رد شهادته وعدم قبولهـا أبدا على الأرجح. 

جاء في المدونة:  قلت: أرأيت القاضي إذا أخذ شاهد زور كيف يصنع به وما يصنع به؟ قال: قال مالك: يضربه، ويطوف به في المجالس.. وفي الذخيرة: يضرب شاهد الزور باجتهاد؛ لأنها كبيرة، ويطاف به في المسجد الجامع، ولا تقبل شهادته أبدا. وقال ابن جزي: إذا عثر على شاهد  الزور عوقب بالسجن والضرب، ويطاف به في المجالس. وقال ابن العربي: يسود وجهه، ولا تقبل شهادته؛ لأنه لا تعرف له توبة. وقال برهان الدين ابن فرحون: إذا ثبت عند القاضي أن بعض الشهود يشهد بالزور، ويأخذ الجعل على شهادة الزور، عزر على الملأ، ولا يحلق له رأس، ولا لحية، ورأى القاضي أن يسود وجهه. وقال ابن عبد الحكم: يطاف به ويشهر في المجالس والحلق وحيث يعرفه الناس… ويسجل عليه، ويجعل من ذلك نسخا يودعها عند الناس ممن يثق به… 

مستندات هذه الأحكام العقابية:

استند الفقهاء فيما قرروه من العقوبات التعزيرية المذكورة على جملة من السوابق القضائية المأثورة عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وشريح القاضي رضي الله عنهم. نوردها فيما يلي: 

- عن الأحوص بن حكيم عن أبيه: أن عمر رضي الله عنه أمر بشاهد الزور أن يسخّم وجهه، أي يسوّد، ويطاف به في القبائل، ويقال: إن هذا شاهد زور، فلا تقبلوا شهادته. 

  وعن شريك عن عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر قال: أتي عمر رضي الله عنه بشاهد زور فوقفه للناس يوما إلى الليل يقول: هذا فلان يشهد بزور فاعرفوه، ثم حبسه. 

 ورواه أبو الربيع عن شريك عن عاصم، وزاد فيه: فجلده وأقامه للناس. 

  وعن أبي نضرة عن أبي سعيد الخذري عن عمر رضي الله عنه أنه ظهر على شاهد زور فضربه أحد عشر سوطا… 

  وأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قضى أيضا بتعزير شاهد الزور تشهيرا، فقد روى عنه علي بن الحسن أنه كان إذا أخذ شاهد زور بعث به إلى عشيرته، فقال: إن هذا شاهد زور فاعرفوه وعرفوه، ثم خلى سبيله… 

  كما أثر عن شريح القاضي أنه عاقب شاهد الزور بالضرب والتشهير. فقد روى عنه أبو حصين أنه كان إذا أتي به يطوف به في أهل مسجده وسوقه ويقول: إنا قد زيفنا شهادة هذا. وفي رواية عن الجعد بن ذكوان أن شريحا أتي بشاهد زور، فنزع عمامته، وخفقه بالدرة خفقات، وبعث به إلى المسجد كي يعرفه الناس. 

- ومما يجدر التنبيه عليه أن الفقهاء قديما اجتهدوا في استحداث وإعمال وسائل شتى لتشهير شاهد الزور وغيره من الجناة، ومن ذلك: ما تضمنته النصوص المذكورة من الوسائل التي كانت تناسب وتلائم مستوى التطور الذي وصلت إليه المجتمعات وقتئذ، وكان توظيفها يؤدي إلى تحقيق الغرض من هذه العقوبة الرادعة. 

أما في عصرنا – حيث تقدمت المدنية أشواطا بعيدة، وتطورت المجتمعات تطورا مذهلا، واستحدث تبعا لهذا التطور وسائل إعلامية كثيرة جدا، منها المرئي والمسموع والمقروء… 

- فلم تعد تلك الوسائل التي كان يتوسل بها قديما مجدية، بل أصبح الأنفع والأجدى، والأوفى بتحقيق الغرض من التشهير في هذا العصر، هو: استخدام مختلف وسائل الإعلام المعاصرة التي تسهل وتيسر عملية النشر والإذاعة والإخبار والإعلام إلى حد كبير، كالإذاعة والتلفزيون والصحف والانترنيت وغير ذلك...

وفي الختام أحب أن أذكر بقول رب العزة سبحانه: {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا، وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.


: الأوسمة



التالي
مفارقات.. بين أحجار الأقصى ورقاب الصهاينة (صلاح الدين سلطان)
السابق
يا علماء السلطة في اليمن وسوريا... كفى تدليسا وتسويغا للطغيان (صلاح سلطان)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع