البحث

التفاصيل

لهذه الأسباب سيمر الدستور (جمال سلطان)

الرابط المختصر :

 المحافظات التي شهدت وقائع الجولة الأولى من الاستفتاء تمثل مراكز الثقل التقليدية للمعارضة وفلول النظام السابق، ومع ذلك نجحت قوى الاستقرار والبناء في أن تكسر ذلك الحاجز؛ ففي الشرقية فازت "موافق" بفارق ملحوظ، وكانت إحدى النقاط التي حقق فيها الفلول مفاجأة في انتخابات الرئاسة لصالح الفريق أحمد شفيق، وفي الإسكندرية حققت "موافق" أيضًا تفوقًا واضحًا، وفي الدقهلية أيضًا حققت "موافق" تفوقًا ملحوظًا، وفي أسيوط وسوهاج كان اكتساح "موافق" مفهومًا ومتوقعًا، وهو نفس ما حدث في انتخابات الرئاسة.

أما في القاهرة التي تمثل بعض أحيائها مراكز حشد مسيحي كثيفة ومناطق نفوذ لرجال أعمال مبارك وشريحة من الطبقة الوسطى المتحفظة تجاه التيار الإسلامي، ففازت فيها "غير موافق" بفارق ليس كبيرًا، وربما أقل من الفارق الذي تحقق في انتخابات الرئاسة. وفي الغربية أيضًا تفوق طفيف لـ"غير موافق" ربما بفعل الحساسية الزائدة من التيار السلفي في منطقة لها جذور صوفية عميقة.

ووفق هذه النتائج فإنَّ المرجح أن تشهد الجولة الثانية تفوقًا أعلى للموافقين على الدستور؛ لأن هناك مناطق ثقل كبيرة يمكن أن تُحدث الفارق بوضوح كافٍ كما أحدثته في انتخابات الرئاسة، وخاصة مناطق الكثافة مثل الجيزة والفيوم وبني سويف ودمياط. ولكن تبقى كل هذه الرؤى مجرد توقعات تتوقف فاعليتها على الجهد الذي يبذله كل فريق في محاولة إقناع المواطنين بوجهة النظر الداعمة للدستور أو الرافضة له.

والحقيقة أن موافقة الشعب المصري على الدستور لا يمكن أن تكون مفاجأة بأي معيار، بل المفاجأة الكبرى فعلاً -لو حدثت- فهي أن يرفض الشعب الدستور؛ لأنه بعيدًا عن سفسطة المثقفين وجدل الفضائيات وخناقات النُّخب المؤدلجة حتى النخاع، فإنَّ المنطق البسيط والبديهي للمواطن العادي يجعل من القبول بالدستور، حتى وإن كان فيه بعض ما لا نرضى عنه، بوابةً للأمل والإنقاذ الوطني الحقيقي؛ لأن الموافقة تفتح الباب أمام برنامج عمل وطني محدد الملامح والخطوات ومُفعم بالخير.

فأنت بالموافقة ستكون قد حصلت الأمة على أول دستور حقيقي تختاره بنفسها، ويعبر بنسبة هائلة عن أشواقها للحرية والكرامة والعدالة، وتقطع الطريق على مسلسل الإعلانات الدستورية المثيرة للجدل والاضطراب والغموض. ثم في خلال شهرين من إنجاز الدستور سنكون أمام انتخابات برلمانية ليولد برلمان وطني حقيقي منتخَب يعبِّر عن كل أطياف المجتمع وتياراته السياسية، لينتقل الحراك السياسي من فوضى الشوارع إلى رصانة المؤسسات وفاعليتها، فنربح الدستور والبرلمان الذي يستعيد سلطة التشريع من الرئيس للشعب.

ثم يعقب ذلك تشكيل حكومة ائتلافية منتخبة، وهي أول حكومة منتخبة من الشعب مباشرة منذ أكثر من ستين عامًا، لها مساحة استقلال واسعة عن رئيس الجمهورية للمرة الأولى أيضًا. ثم في أعقاب ذلك يتم انتخاب مجلس الشورى أو الشيوخ، ثم يعقب ذلك انطلاق مشروعات البناء والعمل وجذب الاستثمارات ودخولها بقوَّة إلى أسواق يعرف العالم كله أنها واعدة وبها مميزات ضخمة، بما يعني رفع معدلات التنمية وفتح فرص عمل جديدة وإنقاذ للبنية الأساسية وتطويرها وتحسين الأجور والرعاية الصحية والتعليمية والإسكانية، ومحاصرة مساحات الفقر والمعاناة الاجتماعية وغير ذلك.. هذا البرنامج الوطني محدد الخطوات والملامح إذا تمت إجازة الدستور والموافقة عليه.

أما في حالة رفض الدستور فأنت تفتح أبواب الوطن على المجهول، ولا يوجد من يعرف -يقينًا- ما هي الخطة الثانية بعد رفضه، هل تتم الدعوة لانتخاب جمعية تأسيسية انتخابًا حرًّا من الشعب؟ وهل ستقبل المعارضة ذلك بما يجعل احتمالية تشكيل الجمعية الجديدة بأكثر من 80% من المشايخ وقادة التيار الإسلامي والأحزاب والشخصيات القريبة منهم؟ أم يرفضون الاحتكام للصندوق من جديد؟ أم يطعنون على الصندوق ويقولون أنه مزور؟ أم يخرج لنا الحاج أحمد الزند ليقول إن القضاة سيقاطعون؟ أو يطعن أحدهم في محكمة تهاني الجبالي فيتم وقف الإجراءات؟ أو غير ذلك من دوامات وعبث بلا نهاية؟..

أم نأخذ المسار الآخر ونبحث عن "التوافق" في تشكيلها؟ وهو "توافق" سيحتاج إلى خمس سنوات تقريبًا -على الأقل- باعتبار أنه لا توجد قضية واحدة فقط تم التوافق عليها بين القوى السياسية المختلفة منذ نجاح ثورة يناير وحتى الآن..! حسنًا، توافقنا على الجمعية التأسيسية الجديدة -بعد عمر طويل- كيف ستدار أعمالها؟ ومن يرأسها؟ وكيف يتم اعتماد صيغتها؟ هل بالتوافق أم بالتصويت؟ هل سيشترط الإجماع -وهو مستحيل- بين الكنيسة والدعوة السلفية؟ أم بالأغلبية فنعود إلى نقض ما ناضلنا من أجله وهو ضرورة أن يكون الدستور توافقيًّا؟

ولا داعي لأن أذكِّرك بأنه خلال هذه الأعوام التي تتم فيها تلك "الحلقة المفرغة" التي لا تُدرى أوَّلها من آخرها، كيف تكون سلطة التشريع والرقابة على الحكومة؟ وكيف يكون اقتصاد البلد المعلق بانتظار دستور؟ وأين تذهب الاستثمارات المحلية والأجنبية التي تنتظر أن ترى "دولة"؟ وهل سنشهد إعلانًا دستوريًّا سادسًا أو سابعًا لملأ الفراغ؟ وما هي شرعيته؟ وماذا إذا انتهت مدة الرئيس خلال هذه المعمعة؟ هل سنجري انتخابات رئاسية جديدة؟ وعلى أيِّ أساس؟ أم يصدر إعلان دستوري بمدِّ عمل الرئيس لحين الانتهاء من إنجاز الدستور؟!

هل عرفنا لماذا يذهب المواطن البسيط لكي يقول "موافق" على الدستور الجديد، معطيًا ظهره لهوس الفضائيات وسفسطة النُّخبة؟


: الأوسمة



التالي
الثّورة السّوريّة والمهمّات الجسام (عبد الكريم بكار)
السابق
مفارقات بين الاستفتاء والاستقواء (صلاح سلطان)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع