البحث

التفاصيل

مفارقات بين الاستفتاء والاستقواء (صلاح سلطان)

الاستفتاء حالة صحية تعني أن الشعب هو صاحب السلطات في اختيار دستوره أو ممثليه، اختيارًا حرًّا مباشرًا مسبوقًا بحالة حوار، وحراك فكري واجتماعي؛ حتى يستطيع كل صاحب رأي أن يجد له مجالاً ليطرح رأيه ويقدِّم أدلته، ويقنع غيره، ويذهب إلى دائرته الانتخابية حاملاً رؤيته، واقفًا بانتظام في صفه، داخلاً إلى لجنته في أدبه، ويبرز هويته، ويضع بصمته، ويكتب اختياره، ثم يخرج آمنًا مطمئنًا أنه أدَّى واجبه.

أما الاستقواء فهو إلغاء للعقل وتفعيل للعضلات، وغياب للحوار؛ ليكون منطق القوة هو الذي يحكم أو يحسم المشهد السياسي. وهذا يعني الإفلاس في القدرة على إقناع الغير، ويرفع شعار: (أقنعوهم لا تُقنعوهم، وحاربوهم ولا تحاورهم، ولطخوهم ولا تتلطفوا معهم، وكفّروهم ولا تتركوهم).

وأعتقد أن بمصر الآن ظاهرة غير صحية من الاستقواء؛ حيث التقت مصالح الأمريكان والصهاينة وإيران مع بعض رجال الأعمال الذين تعوَّدوا على الكسب الحرام بالمليارات وليس بالملايين، وبقايا النظام السابق الذين خسروا المال والسلطة، وبعض رجال أمن الدولة سابقًا -المسمى بالأمن الوطني الآن- وبعض رجال المخابرات الذين لم يتعظوا بالثورات، هؤلاء وبعض سفهاء الإعلام الذين يقبضون على الحلقة أو المقال عشرات الآلاف، ولا يشعرون بأصحاب الفقر العجاف..

هؤلاء بدلاً من أن يقبلوا المناظرة حول بنود الدستور مع شيخ القضاة د. حسام الغرياني، أو أستاذ القانون د. محمد محسوب، أو أستاذ الهندسة د. عمرو دراج، أو العلامة الموسوعة د. حسين حامد، أو السياسي البارع عصام سلطان، أو المناضل الحر د. محمد بلتاجي، وقد دُعوا إلى مناظرات علنية ليثبت فريق الاستقواء ما أعلنوه وكتبوه، ودفعوا له المليارات من الإعلانات والمطبوعات أن هذا الدستور يقسِّم مصر، ويقصم ظهر الفقير، ويُجهز على المريض، ويصنع الدكتاتور، ويؤدي بنا إلى الويل والثبور..!

حتى وصلت درجة السفاهة حدًّا غير مسبوق عندما رفعوا على التويتر يوم الخميس 30 محرم 1434هـ الموافق 13/ 12/ 2012م شعارًا تحت عنوان (أنزلوهم من على المنبر)!!

فهؤلاء يستقوون بالإعلام ليخاطبوا الملايين في حالة من التزييف والكذب والبهتان لا نظير لها، فـ"الكنيسة" تعلن رسميًّا ضرورة الذهاب للصناديق وأن تقول لا، وفي المقابل ليس من حق الإمام في المسجد أن يقول للناس كلمة الله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]، ولا قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، ولا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].

ومن حق الإبراشي والحديدي والشاذلي وأديب و... أن يقولوا ما يشاءون، ولو استخدم بعضهم أعلى درجات التزييف، لكن "الإمام" ليس من حقه أن يقول للناس: اذهبوا للاستفتاء سلميًّا، كما فعل الشيخ المحلاوي في غاية الأدب والرقة، فقام قوم من المفسدين في الأرض بالاعتداء على هذا الرمز من رموز الدعوة إلى الله في مصر والأمة الإسلامية كلها فضيلة الشيخ الجليل أحمد المحلاوي، الذي يزيد عن التسعين عامًا هجريًّا ويقترب من التسعين ميلاديًّا، فلم يراع المفسدون الأشرار ومَن وراءهم سِنّه ولا علمه ولا مكانته، فحاصروا الشيخ الجليل خمس عشرة ساعة مع 150 من المصلين داخل المسجد، وضربوا مصلى الجمعة بالحجارة، وأصابوا العديد منهم، واعتدوا اعتداء سافرًا على بيت الله مسجد القائد إبراهيم، وكسروا نوافذه، كل ذلك لأنَّ الشيخ الجليل قال: "اذهبوا للصندوق"!!

ونحن نعتبر هذا اعتداء على جميع الأئمة والعلماء والمسلمين، في سابقة خطيرة لا عهد لأهل مصر الكرام بها؛ لأنهم يوقرون أئمتهم؛ عملاً بحديث الإمام أحمد بسنده عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس منا مَن لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعط لعالمنا حقه».

فهؤلاء المجرمون ومن وراءهم من فريق الاستقواء لا الاستفتاء، لم يراعوا حرمة كبر سن الشيخ ولا مكانته العلمية، ولا حرمة المسجد والمصلين، ونعتبر هذا من أشد أنواع الإفساد في الأرض؛ لأن الاعتداء على المسجد حرام شرعًا، فهو مكان التعبد والأمان، ولا يجوز تحويله إلى مكان تهجم وتهديد؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى في خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ في الدُّنْيَا خِزْى وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 114].

وإذا لم يشعر المصلون بالأمان في مساجدهم، فأين يجدونه؟!

ونستنكر بحدَّة تخاذل وزارة الداخلية عن نجدة الشيخ المحلاوي وحماية المسجد من المجرمين؛ بدعوى الحوار مع مَن يستخدمون العنف والحجارة والعِصيّ، فلو اقتحموا المسجد -لا قدر الله- لكانت مجزرة رهيبة، وإن الاستجابة كانت متأخرة 15 ساعة متصلة، وهو ما يوجب أن يتحرك له النائب العام؛ لكشف المقصرين من قيادات الداخلية، ومَن يحرِّك هؤلاء البلطجية، ومن يدفع لهم، ومن يؤجِّج السلام الاجتماعي بمصر، ويحوِّل الاستفتاء إلى استقواء.

كما نستنكر ممن يسمون بالنُّخب السياسية والإعلامية هذا الصمت الزؤام، أو سوء تناولهم لهذا الحدث الجلل.

ولقد بذلت قصارى جهدي بالتواصل مع معالي وزير الأوقاف ومع كل الجهات الرسمية لفك الحصار عن الشيخ الجليل، وتحركتُ مع وفد رفيع المستوى إلى الإسكندرية على مقرُبة من الحدث، منهم الأستاذ الدكتور جمال عبد الستار وكيل أول وزارة الأوقاف، والسادة المستشارين الدكتور محمد الصغير، والشيخ سلامة عبد القوي، والشيخ أحمد هليل، ود. أيمن الغايش، وظللنا طوال الليل نتواصل مع الرئاسة والداخلية؛ حتى تم إخراج فضيلة الشيخ المحلاوي في عربة مصفحة لوزارة الداخلية التي نشكرها رغم تأخرها الشديد.

هل يرضى أحد أن يحاصر الشيخ مع تهديد مستمر بالهجوم عليه لقتله لمجرد أن صعد المنبر، وحثَّ المصلين على الذهاب إلى صندوق الانتخاب كواجب شرعي ووطني؟! وهو نفس مضمون رسالة شيخ الأزهر الدكتور الطيب الذي طالب الشعب بالذهاب إلى صناديق الاقتراع مع سلميَّة الاستفتاء، وأن تزييف إرادة الناس بأي نوع من أنواع التزييف حرام شرعًا، ويجب ترك الناس لإرادتِهم الحرَّة واختيارِهم الشخصي والتقبُّل التام لنتيجة الاستفتاء الذي يرتَضِيه الشعب بإرادةٍ حرَّة قويَّة؛ لتنطلقَ مصرُ نحو نهضتها وتقدُّمها، وتتبوَّأ مكانتَها بين الدول.

إذا أردت أن تعرف مَن أصحاب الاستفتاء السلمي، فهم الذين دعوا بالحكمة إلى قراءة الدستور، واختيار نعم أو لا دون اتهام للآخر بالكفر أو استعمال العنف.

وإذا أردتَ أن تعرف أصحاب الاستقواء، فاسْأل عن الذين طبعوا من الأموال الحرام ملايين من النسخ المزيفة للدستور، ونشروا إعلانات باطلة، ورفضوا الحوار والمناظرة، وحرقوا المنشآت، وقتلوا الشباب، وتسلحوا بالحجارة والعصيّ والخرطوش والقنابل، واستقووا بالسفارات الخارجية وأعداء الشعب والثورات السلمية...

وعلى كلٍّ قال الله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [فاطر: 227]،{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].


: الأوسمة



التالي
لهذه الأسباب سيمر الدستور (جمال سلطان)
السابق
الإعلام الفاجر! (محمد موسى الشريف)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع